فصل: قال ابن عجيبة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال ابن عجيبة:

الإشارة: قد تضمنت إشارة الآية خمس خصال من خصال الصوفية:
الأولى: ترك المراء والجدال، إلا ما كان على وجه المذاكرة والمناظرة في استخراج الحق أو تحقيقه، من غير ملاججة ولا مخاصمة، في سهولة وليونة وسلامة القلوب.
الثانية: استفتاء القلوب فيما يعرض من الأمور؛ قال صلى الله عليه وسلم: «اسْتَفْتِ قَلْبَكَ، وإنْ أفتاك المفْتونَ وأفتَوْك، فالبر ما اطمأن القلب وسكن إليه، والإثم ما حاك في الصدر وتردد»، والمراد بالقلوب التي تُسْتَفْتَى. القلوب الصافية المنورة بذكر الله، الزاهدة فيما سوى الله، فإنها إذا كانت بهذه الصفة لا يتجلى فيها إلا الحق، ولا تسكن إلا إلى الحق، بخلاف القلوب المخوضة بحب الدنيا والهوى، فلا تفتي إلا بما يوافق هواها.
الثالثة: التفويض إلى مشيئة الله وتدبيره، والرضا بما يبرز به القضاء، بحيث لا يعقد على شيء، ولا يجزم بفعل شيء، إلا ملتبسًا بمشيئة الله، فينظر ما يفعل الله، فالعاقل إذا أصبح نظر ما يفعل الله به، والجاهل إذا أصبح نظر ما يفعل بنفسه، كما قال صاحب الحِكم.
الرابعة: الاشتغال بالذكر والفكر، حتى يغيب عما سوى المذكور؛ قال تعالى: {واذكر ربك إذا نسيت} أي: إذا نسيت ما سواه، حينئذ تكون ذاكرًا حقيقة، فالذكر الحقيقي: هو الذي يغيب صاحبه عن شهود نفسه ورسمه وحسه، حتى يكون الحق تعالى هو المتكلم على لسانه؛ لشدة غيبته فيه، وهذا أمر مشاهد لمن عثر على شيخ التربية والتزم صحبته.
الخامسة: التماس الترقي والزيادة في الاهتداء واليقين، فكل مقام يدركه ينبغي أن يطلب مقامًا أعلى منه، ولا نهاية لعلمه تعالى ولا لعظمته، {وقل عسى أن يهديني ربي لأقرب من هذا رشدًا}، وبالله التوفيق. اهـ.

.التفسير المأثور:

قال السيوطي:
{سَيَقُولُونَ ثَلَاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ}.
أخرج ابن أبي حاتم عن السدي في قوله: {سيقولون ثلاثة} قال: اليهود {ويقولون خمسة} قال: النصارى.
وأخرج ابن أبي حاتم وعبد الرزاق، عن قتادة في قوله: {رجما بالغيب} قال: قذفا بالظن.
وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي مسعود رضي الله عنه في قوله: {ما يعلمهم إلا قليل} قال: إنا من القليل، كانوا سبعة.
وأخرج عبد الرزاق والفريابي وابن سعد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم من طرق، عن ابن عباس في قوله: {ما يعلمهم إلا قليل} قال: إنا من القليل، كانوا سبعة.
وأخرج الطبراني في الأوسط بسند صحيح، عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله: {ما يعلمهم إلا قليل} قال: أنا من القليل، مكسلمينا وتمليخا، وهو المبعوث بالورق إلى المدينة، ومرطوس ونينونس ودردوتس وكفاشطهواس ومنطفوا سيسوس، وهو الراعي. والكلب اسمه قطمير، دون الكردي وفوق القبطي الألطم فوق القبطي. قال أبو عبد الرحمن: بلغني أن من كتب هذه الأسماء في شيء وطرحه في حريق سكن الحريق.
وأخرج ابن أبي حاتم عن وهب بن منبه قال: كل شي في القرآن قليل، وإلا قليل فهو دون العشرة.
وأخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله: {فلا تمار فيهم} يقول: حسبك ما قصصت عليك.
وأخرج ابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله: {فلا تمار فيهم إلا مراء ظاهرًا} قال: يقول: إلا ما أظهرنا لك من أمرهم {ولا تستفت فيهم منهم أحدًا} قال: يقول لا تسأل اليهود عن أصحاب الكهف، إلا ما قد أخبرناك من أمرهم.
وأخرج عبد الرزاق وابن المنذر وابن أبي حاتم، عن قتادة في قوله: {فلا تُمارِ فيهم} الآية. قال: حسبك ما قصصنا عليك.
وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه من طرق، عن ابن عباس في قوله: {ولا تستفت فيهم منهم أحدًا} قال: اليهود. والله أعلم.
{وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا (23) إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ}.
أخرج ابن المنذرعن مجاهد، أن قريشًا اجتمعت فقالوا: «يا محمد، قد رغبت عن ديننا ودين آبائنا، فما هذا الدين الذي جئت به؟ قال: هذا دين جئت به من الرحمن. فقالوا: إنا لا نعرف الرحمن، إلا رحمن اليمامة- يعنون مسيلمة الكذاب- ثم كاتبوا اليهود فقالوا: قد نبغ فينا رجل يزعم أنه نبي، وقد رغب عن ديننا ودين آبائنا، ويزعم أن الذي جاء به من الرحمن. قلنا: لا نعرف الرحمن إلا رحمن اليمامة، وهو أمين لا يخون.. وفيّ لا يغدر.. صدوق لا يكذب، وهو في حسب وثروة من قومه، فاكتبوا إلينا بأشياء نسأله عنها. فاجتمعت يهود فقالوا: إن هذا لوصفه وزمانه الذي يخرج فيه. فكتبوا إلى قريش: أن سلوه عن أمر أصحاب الكهف، وعن ذي القرنين، وعن الروح. فإن يكن الذي أتاكم به من الرحمن، فإن الرحمن هو الله عز وجل، وإن يكن من رحمن اليمامة فينقطع. فلما أتى ذلك قريشًا أتى الظفر في أنفسها فقالوا: يا محمد، قد رغبت عن ديننا ودين آبائك.. فحدثنا عن أمر أصحاب الكهف وذي القرنين والروح. قال: ائتوني غدًا. ولم يستثن، فمكث جبريل عنه ما شاء الله لا يأتيه، ثم أتاه فقال: سألوني عن أشياء لم يكن عندي بها علم فأجيب حتى شق ذلك عليّ. قال: ألم ترنا لا ندخل بيتًا فيه كلب ولا صورة؟- وكان في البيت جرو كلب- ونزلت {ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدًا إلا أن يشاء الله واذكر ربك إذا نسيت وقل عسى أن يهدين ربي لأقرب من هذا رشدًا} من علم الذي سألتموني عنه أن يأتي قبل غد؟ ونزل ما ذكر من أصحاب الكهف ونزل {ويسألونك عن الروح} [الإسراء: 85] الآية».
وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس، أن النبي صلى الله عليه وسلم حلف على يمين فمضى له أربعون ليلة، فأنزل الله {ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدًا إلا أن يشاء الله} واستثنى النبي صلى الله عليه وسلم بعد أربعين ليلة.
وأخرج سعيد بن منصور وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني والحاكم وابن مردويه، عن ابن عباس أنه كان يرى الاستثناء ولو بعد سنة، ثم قرأ: {واذكر ربك إذا نسيت} قال: إذا ذكرت.
وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني، عن ابن عباس في هذه الآية قال: إذا نسيت أن تقول لشيء؛ إني أفعله، فنسيت أن تقول إن شاء الله، فقل إذا ذكرت: إن شاء الله.
وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر، عن أبي العالية في قوله: {واذكر ربك إذا نسيت} قال: تستثني إذا ذكرت.
وأخرج ابن المنذر عن سعيد بن جبير في رجل حلف ونسي أن يستثني، قال له: ثنياه إلى شهر، وقرأ: {واذكر ربك إذا نسيت}.
وأخرج ابن أبي حاتم من طريق عمرو بن دينار، عن عطاء أنه قال: من حلف على يمين فله الثنيا حلب ناقة. وكان طاوس يقول: ما دام في مجلسه.
وأخرج ابن أبي حاتم عن إبراهيم قال: يستثني ما دام في كلامه.
وأخرج ابن أبي حاتم والطبراني وابن مردويه، عن ابن عباس في قوله: {واذكر ربك إذا نسيت} قال: إذا نسيت الاستثناء فاستثن إذا ذكرت. قال: هي خاصة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وليس لأحدنا أن يستثني إلا في صلة يمينه.
وأخرج سعيد بن منصور عن ابن عمر قال: كل استثناء موصول فلا حنث على صاحبه، وإذا كان غير موصول فهو حانث.
وأخرج البيهقي في الأسماء والصفات، عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من حلف فقال: إن شاء الله. فإن شاء مضى، وإن شاء رجع غير حانث».
وأخرج أحمد والبخاري ومسلم والنسائي والبيهقي في الأسماء والصفات، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قال سليمان بن داود عليهما السلام: لأطوفن الليلة على تسعين امرأة، تلد كل امرأة منهن غلامًا يقاتل في سبيل الله. فقال له الملك: قل إن شاء الله، فلم يقل. فطاف فلم تلد منهن إلا امرأة واحدة نصف إنسان».
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «والذي نفسي بيده، لو قال إن شاء الله، لم يحنث وكان دركًا لحاجته».
وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في شعب الإيمان، عن عكرمة في قوله: {واذكر ربك إذا نسيت} قال: إذا غضبت.
وأخرج البيهقي في الأسماء والصفات، عن الحسن في قوله: {واذكر ربك إذا نسيت} قال: إذا لم تقل إن شاء الله.
وأخرج البيهقي من طريق المعتمر بن سليمان قال: سمعت أبا الحارث، عن رجل من أهل الكوفة كان يقرأ القرآن في الآية قال: إذا نسي الإنسان أن يقول إن شاء الله، فتوبته من ذلك أن يقول: {عسى أن يهدين ربي لأقرب من هذا رشدًا}. اهـ.

.فوائد لغوية وإعرابية:

قال السمين:
قوله: {سَيَقُولُونَ}: قيل: إنما أُتي بالسِّينِ في هذا لأنَّ في الكلامِ طَيًَّا وإدْماجًا تقديرُه: فإذا أَجَبْتَهم عن سؤالِهم عن قصةِ أهلِ الكهفِ فَسَلْهُمْ عددِهم فإنهم سيقولون. ولم يأتِ بها في باقيةِ الأفعالِ لأنها معطوفةٌ على ما فيه السينُ فأُعْطِيَتْ حُكْمَه من الاستقبَال.
وقرأ ابنُ محيصن {ثَلاثٌّ} بإدغامِ الثاءِ المثلثةِ في تاء التأنيث لقربِ مَخْرَجَيْهما، ولأنهما مهموسان، ولأنهما بعد ساكنٍ معتلٍّ.
قوله: {رَّابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ} الجملةُ في محلِّ رفعٍ صفةً لـ: {ثلاثة}.
قوله: {خَمْسَةٌ} قرأ ابن كثير في روايةٍ بفتحِ الميم، وهي لغةٌ كعشَرَة. وقرأ ابن محيصن بكسرِ الخاءِ والميمِ، وبإدغامِ التاءِ في السين، يعني تاءَ {خمسة} في سين {سادسهم} وعي قراءةٌ ثقيلةٌ جدًا، تتوالى كسرتان وثلاثُ سيناتٍ، ولا أظنُّ مثلَ هذا إلا غلطًا على مثلِه. ورُوِيَ عنه إدغامُ التنوينِ في السين مِنْ غيرِ غُنَّة.
و{ثلاثةٌ} و{خمسةٌ} و{سبعةٌ} إخبارٌ لمبتدأ مضمرٍ، أي: هم ثلاثةٌ، وهم خمسةٌ، وهم سبعةٌ. وما بعد {ثلاثة} و{خمسة} من الجملةِ صفةٌ لهما، كما تقدَّم. ولا يجوزُ أَنْ تكونَ الجملةُ حالًا لعدم عاملٍ فيها، ولا يجوزُ أن يكونَ التقديرُ: هؤلاء ثلاثةٌ، وهؤلاء خمسةٌ، ويكون العاملُ اسمَ الإِشارة أو التنبيه. قال أبو البقاء: لأنَّها إشارةٌ إلى حاضرٍ، ولم يُشيروا إلى حاضر.
قوله: {رَجْمًا بالغيب} فيه أربعةُ أوجهٍ، أحدها: أنه مفعولٌ مِنْ أجله؛ يقولون ذلك لأجل الرمي بالغَيْب. والثاني: أنه في موضعِ الحال، أي: ظانِّين. والثالث: أنَّه منصوبٌ ب {يقولون} لأنه بمعناه. والرابع: أنه منصوبٌ بمقدَّرٍ مِنْ لفظه، أي: يَرْجُمون بذلك رَجْمًا.
والرَّجْمُ في الأصلِ: الرَّمْيُ بالرِّجامِ وهي الحجارةُ الصِّغارُ، ثم عُبِّر به عن الظنِّ. قال زهير:
3139- وما الحربُ إلا ما عَلِمْتُمْ وذُقْتُمُ ** وما هو عنها بالحديثِ المُرَجَّمِ

أي: المَظْنُون.
قوله: {وثامِنُهُم} في هذه الواوِ أوجهٌ، أحدُها: أنها عاطفةٌ، عَطَفَتْ هذه الجملةَ على جملةِ قوله: {هم سبعة} فيكونون قد أَخبَرو بخبرين، أحدُهما: أنهم سبعةُ رجالٍ على البَتِّ. والثاني أنَّ ثامنَهم كلبُهم، وهذا يُؤْذِنُ بأنَّ جملةَ قولِه: {وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ} مِنْ كلام المتنازِعِيْنَ فيهم. الثاني: أنَّ الواوَ للاستئنافِ، وأنَّه مِنْ كلامِ الله تعالى أخبر عنهم بذلك. قال هذا القائلُ: وجيءَ بالواوِ لتعطي انقطاعَ هذا ممَّا قبله. الثالث: أنها الواوُ الداخلةُ على الصفةِ تأكيدًا، ودلالةً على لَصْقِ الصفةِ بالموصوفِ. وإليه ذهب الزمخشري، ونَظَّره بقولِه: {مِن قَرْيَةٍ إِلاَّ وَلَهَا كِتَابٌ مَّعْلُومٌ} [الحجر: 4].
ورَدَّ الشيخ عليه: بأنَّ أحدًا من النحاة لم يَقُلْه، وقد تقدَّم القولُ في ذلك.
الرابع: أنَّ هذه تُسَمَّى واوَ الثمانية، وأنَّ لغةَ قريش إذا عَدُّوا يقولون: خمسة ستة سبعة وثمانية تسعة، فيُدْخلون الواوَ على عَقْدِ الثمانيةِ خاصة. ذكر ذلك ابن خالويه وأبو بكر راوي عاصم. قلت: وقد قال ذلك بعضُهم في قولِه تعالى: {وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا} [الآية: 73] في الزمر فقال: دخلَتْ في أبوابِ الجنة لأنها ثمانيةٌ، ولذلك لم يُجَأْ بها في أبوابِ جهنم لأنها سبعةٌ وسيأتي هذا إن شاء الله.
وقُرِئ: {كالبُهم}، أي: صاحبُ كلبِهم. ولهذه القراءةِ قدَّرَ بعضُهم في قراءةِ العامة: وثامنُهم صاحبُ كلبِهم.
و{ثلاثة} و{خمسة} و{سبعة} مضافةٌ لمعدودٍ محذوفٍ فقدَّره الشيخ: ثلاثة أشخاص، قال: وإنما قدَّرْنا أشخاصًا لأنَّ رابعَهم اسمُ فاعلٍ أُضيف إلى الضمير، والمعنى: أنه رَبَعَهم، أي: جَعَلَهم أربعةً، وصَيَّرهم إلى هذا العددِ، فلو قدَّرْناه رجالًا استحال أن يُصَيِّر ثلاثةَ رجالٍ أربعةً لاختلافِ الجنسين. وهو كلامٌ حسنٌ.
وقال أبو البقاء: ولا يَعْمل اسمُ الفاعلِ هنا لأنه ماضٍ. قلت: يعني أن رابعَهم فيما مضى، فلا يعمل النصبَ تقديرًا، والإِضافة محضة. وليس كما زعم فإنَّ المعنى على: يَصير الكلبُ لهم أربعةً، فهو ناصبٌ تقديرًا، وإنما عَمِلَ وهو ماضٍ لحكاية الحالِ كباسِط.
قوله تعالى: {إِلاَّ أَن يَشَاءَ الله}: قاله أبو البقاء: في المستثنى منه ثلاثةُ أوجهٍ، أحدُها: هو مِنَ النَّهْيِ. والمعنى: لا تقولَنَّ: أفعل غدًا، إلا أَنْ يُؤْذَنَ لك في القول. الثاني: هو من {فاعلٌ}، أي: لا تقولَنَّ إني فاعلٌ غدًا حتى تَقْرِنَ به قولَ إن شاء الله. والثالث: أنه منقطعٌ. وموضعُ {أَنْ يشاء اللهُ} نصبٌ على وجهين، أحدُهما على الاستثناءِ، والتقدير: لا تقولَنَّ ذلك في وقتٍ إلا وقتَ أنْ يشاء الله، أي: يَأْذَنَ، فحذف الوقتَ وهو مُرادٌ. والثاني: هو حالٌ والتقدير: لا تقولَنَّ أفعل غدًا إلا قائلًا: إن شاء الله، وحَذْفُ القولِ كثيرٌ، وجَعَل قولَه إلا أن يشاء في معنى: إن شاء وهو ممَّا حُمِلَ على المعنى. وقيل: التقدير إلا بأَنْ يشاءَ اللهُ، أي: ملتبسًا بقولِ: إن شاء الله.
قلت: قد رَدَّ الزمخشريُّ الوجهَ الثاني، فقال: {إلا أَنْ يشاء} متعلقٌ بالنهي لا بقوله: {إنِّي فاعلٌ} لأنَّه لو قال: إني فاعلٌ كذا إلا أَنْ يشاء اللهُ كان معناه: إلا أن تَعْتَرِضَ مشيئةُ اللهِ دونَ فِعْلِه، وذلك ممَّا لا مَدْخَلَ فيه للنهي. قلت: يعني أنَّ النهي عن مثلِ هذا المعنى لا يَحْسُن.
ثم قال: وتعلُّقُه بالنهي مِنْ وجهين، أحدهما: ولا تقولنَّ ذلك القولَ إلا أَنْ يشاءَ الله أَنْ تقولَه بأَنْ يَأْذَنَ لك فيه. والثاني: ولا تقولَنَّه إلا بأَنْ يشاءَ الله أَي: إلا بمشيئته، وهو في موضعِ الحال، أي: ملتبسًا بمشيئةِ الله قائلًا إنْ شاء الله. وفيه وجهٌ ثالث: وهو أَنْ يكونَ {إلا أَنْ يشاء} في معنى كلمةِ تأبيد كأنَّه قيل: ولا تقولَنَّه أبدًا، ونحوُه: {وَمَا يَكُونُ لَنَآ أَن نَّعُودَ فِيهَآ إِلاَّ أَن يَشَاءَ الله رَبُّنَا} [الأعراف: 89] لأنَّ عَوْدَهم في ملَّتِهم ممَّا لم يَشَأ الله.
وهذا الذي ذكره الزمخشريُّ قد رَدَّه ابنُ عطية بعد أنْ حكاه عن الطبري وغيرِه ولم يوضِّح وجهَ الفسادِ.
وقال الشيخ: {وإلا أَنْ يشاءَ اللهُ} استثناءٌ لا يمكن حَمْلُه على ظاهرِه، لأنه يكونُ داخلًا تحت القول فيكونُ من المقول، ولا ينهاه اللهُ أَنْ يقول: إني فاعل ذلك غدًا إلا أَنْ يشاءَ اللهُ، لأنه كلامٌ صحيحٌ في نفسِه لا يمكنُ أَنْ يَنْهى عنه، فاحتيج في تأويلِ هذا الظاهرِ إلى تقديرٍ. فقال ابن عطية: في الكلامِ حَذْفٌ يَقْتضيه الظاهرُ، ويُحَسِّنه الإيجازُ، تقديرُه: إلا أَنْ تقولَ: إلا أَنْ يشاءَ الله، أو إلا أَنْ تقولَ: إنْ شاء الله. والمعنى: إلا أَنْ تذكُرَ مشيئةَ الله، فليس {إلا أن يشاءَ اللهُ} من القولِ الذي نَهَى عنه. اهـ.