فصل: من فوائد الشعراوي في الآية:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.من فوائد الشعراوي في الآية:

قال رحمه الله:
{إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلاَ تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ (119)}.
هنا لابد أن نلتفت إلي أن الله سبحانه وتعالى حينما يخبرنا عن قضية من فعله يأتي دائما بنون العظمة التي نسميها نون المتكلم.. ونلاحظ أن نون العظمة يستخدمها رؤساء الدول والملوك ويقولون نحن فلان أمرنا بما هو آت.. فكأن العظمة في الإنسان سخرت المواهب المختلفة لتنفيذ القرار الذي يصدره رئيس الدولة.. فيشترك في تنفيذه الشرطة والقضاء والدولة والقوات المسلحة إذا كان قرار حرب.. تشترك مواهب متعددة من جماعات مختلفة تتكاتف لتنفيذ القرار.. والله تبارك وتعالى.. فإذا تحدث الله جل جلاله عن فعل يحتاج إلي كمال المواهب من الله تبارك وتعالى يقول: {إنا}: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (9)} سورة الحجر.
ولكن حين يتكلم الله عن ألوهيته وحده وعن عبادته وحده يستخدم ضمير المفرد.. مثل قوله سبحانه: {إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي (14)} سورة طه.
ولا يقول فاعبدنا.. إذن ففي كل فعل يأتي الله سبحانه بنون العظمة.. وفي كل أمر يتعلق بالعبادة والتوحيد يأتي بالمفرد.. وذلك حتى نفهم أن الفعل من الله ليس وليد قدرته وحدها.. ولا علمه وحده ولا حكمته وحدها ولا رحمته وحدها.. وإنما كل فعل من أفعال الله تكاملت فيه صفات الكمال المطلق لله. إن نون العظمة تأتي لتلفتنا إلي هذه الحقيقة لتبرز للعقل تكامل الصفات في الله.. لأنك قد تقدر ولا تعلم.. وقد تعلم ولا تقدر، وقد تعلم وتغيب عنك الحكمة. إذن فتكامل الصفات مطلوب.
قوله تعالى: {إنا أرسلناك بالحق} يعني بعثناك بالحق رسولا.. والحق هو الشيء الثابت الذي لا يتغير ولا يتناقض.. فإذا رأيت حدثا أمامك ثم طلب منك أن تحكي ما رأيت رويت ما حدث.. فإذا طلب منك بعد فترة أن ترويه مرة أخرى فإنك ترويه بنفس التفاصيل.. أما إذا كنت تكذب فستتناقض في أقوالك.. ولذلك قيل إن كنت كذوبا فكن ذكورا. إن الحق لا يتناقض ولا يتغير.. ومادام رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أرسل والإنذار هو الإخبار بشيء يسوؤك زمنه قادم ربما استطعت أن تتلافاه.. بشير بماذا؟ ونذير بماذا؟ يبشر من آمن بنعيم الجنة وينذر الكافر بعذاب النار.. والبشرى والإنذار يقتضيان منهجا يبلغ.. من آمن به كان بشارة له. ومن لا يؤمن كان إنذارا له. ثم يقول الحق جل جلاله: {ولا تسأل عن أصحاب الجحيم}.. أي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس مسئولا عن الذين سيلقون بأنفسهم في النار والعذاب. إنه ليس مسئولا عن هداهم وإنما عليه البلاغ.. واقرأ قوله تبارك وتعالى: {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا (6)} سورة الكهف.
ويقول جل جلاله: {لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (3) إِن نَّشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِم مِّن السَّمَاء آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ (4)} سورة الشعراء.
فالله سبحانه وتعالى لو أرادنا أن نؤمن قسرا وقهرا.. ما استطاع واحد من الخلق أن يكفر.. ولكنه تبارك وتعالى يريد أن نأتيه بقلوب تحبه وليس بقلوب مقهورة على الإيمان.. إن الله سبحانه وتعالى خلق الناس مختارين أن يؤمنوا أو لا يؤمنوا.. وليس لرسول أن يرغم الناس على الإيمان بالقهر.. لأن الله لو أراد لقهر كل خلقه. أما أصحاب الجحيم فهم أهل النار. والجحيم مأخوذة من الجموح.. وجمحت النار يعني اضطربت، وعندما ترى النار متأججة يقال جمحت النار.. أي أصبح لهيبها مضاعفا بحيث يلتهم كل ما يصل إليها فلا تخمد أبدا. والحق سبحانه وتعالى يريد أن يطمئن رسوله صلى الله عليه وسلم.. أنه لا يجب أن ينشغل قلبه بالذين كفروا لأنه قد أنذرهم.. وهذا ما عليه، وهذه مهمته التي كلفه الله بها. اهـ.

.التفسير المأثور:

قال السيوطي:
{إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَا تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ (119)}.
أخرج وكيع وسفيان بن عيينة وعبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن محمد بن كعب القرظي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ليت شعري ما فعل أبواي، فنزل: {إنا أرسلناك بالحق بشيرًا ونذيرًا ولا تسأل عن أصحاب الجحيم} فما ذكرهما حتى توفاه الله» قلت: هذا مرسل ضعيف الإِسناد.
وأخرج ابن جرير عن داود بن أبي عاصم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ذات يوم: «أين أبواي؟» فنزلت: قلت: والآخر معضل الإِسناد ضعيف لا يقوم به ولا بالذي قبله حجة.
وأخرج ابن المنذر عن الأعرج أنه قرأ: {ولا تسأل عن أصحاب الجحيم} أي أنت يا محمد.
وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي مالك قال: الجحيم ما عظم من النار. اهـ.

.فصل جامع في قوله تعالى: {ولا تسأل عن أصحاب الجحيم}:

قال السمعاني:
{وَلَا تُسْأَلُ} قرئ بقراءتين {ولا تُسألُ}، {ولا تَسْأَلْ}.
قوله تعالى: {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بشيرا ونذيرا}.
فأما قوله: {ولا تَسألْ} يعني أرسلناك غير مسئول عن حال الكفار، وذلك مثل قوله: {فإنما عليك البلاغ وعلينا الحساب} وقرأ ابن مسعود وما تسأل، وقرأ أبي بن كعب {ولن تسأل} ومعنى الكل واحد.
وأما قوله: {ولا تسأل} له معنيان:
أحدهما أنه على معنى قولهم: لا تسأل عن شر فلان فإنه فوق ما تحب، وقيل: هو على النهى، وسببه ما روى محمد بن كعب القرظي: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ليت شعري ما فعل أبواي، فنزل قوله تعالى: {ولا تسأل عن أصحاب الجحيم}. اهـ.
وقد ذكر هذه الرواية أيضا الماوردى في النكت والعيون ولم يعلق عليها.
قال الواحدي:
{ولا تسأل عن أصحاب الجحيم} أي لست بمسئول عنهم، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم- قال لو أن الله عز وجل: أنزل بأسه باليهود لآمنوا فأنزل الله تعالى هذه الآية أي ليس عليك من شأنهم عهدة ولا تبعة. اهـ.
قال الثعالبي:
وتحتمل هذه القراءة معنى آخر وهو- والله أعلم- أظهر، أي لا تسأل عنهم سؤال مكترث بما أصابهم، أو بما هم عليه من الكفر الذي يوردهم الجحيم نظير قوله عز وجل: {فلا تذهب نفسك عليهم حسرات} [فاطر: 8] وأما روى عن محمد بن كعب القرظي ومن وافقه من أن النبي صلى الله عليه وسلم- سأل ما فعل أبواي؟ فنزلت الآية في ذلك فهو بعيد، ولا يتصل أيضًا بمعنى ما قبله. اهـ.
قال البيضاوي:
وقرأ نافع ويعقوب {ولا تسأل} على أنه نهى للرسول صلى الله عليه وسلم عن السؤال عن حال أبويه أو تعظيم لعقوبة الكفار، كأنها لفظاعتها لا يقدر أن يخبر عنها أو السامع لا يصبر على استماع خبرها فنهاه عن السؤال. اهـ.
قال ابن عطية:
وحكى المهدوي رحمه الله أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ليت شعرى.
أي أبوى أحدث موتًا؟ فنزلت.
قال القاضي أبو محمد: وهذا خطأ ممن رواه أو ظنه، لأن أباه مات وهو في بطن أمه. اهـ.
قال ابن كثير بعد أن ذكر أن ابن جرير رحمه الله- رد رواية محمد بن كعب القرظي وغيره، لاستحالة الشك من رسول الله صلى الله عليه وسلم في أمر أبويه، واختياره القراءة الأولى {ولا تسأل} قال ما نصه:
وهذا الذي سلكه فيه نظر لاحتمال أن هذا كان في حال استغفاره لأبويه قبل أن يعلم أمرهما، فلما علم ذلك تبرأ منهما وأخبر عنهما أنهما من أهل النار، كما ثبت في الصحيح. اهـ.
وقد ذكر الفخر الرازي الرواية السابقة وقال إنها بعيدة لأنه عليه الصلاة والسلام كان عالمًا بكفرهم، وكان عالمًا بأن الكافر معذب، فمع هذا العلم كيف يمكن أن يقول: ليت شعرى ما فعل أبواي. اهـ.
وقال الخطيب الشربيني قال عطاء عن ابن عباس، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ذات يوم: ليت شعري ما فعل أبواي؟ فنزلت هذه الآية، فنهى عن السؤال عن أحوال الكفرة، والاهتمام بأعداء الله تعالى، والخبر ضعيف، والمختار أنها نزلت في كفار أهل الكتاب. اهـ.
وقال أبو السعود: وقرئ {ولا تَسْأَلْ} على صيغة النهى إيذانا بكمال شدة عقوبة الكفار وتهويلا لها كأنها لغاية فظاعتها لا يقدر المخبر على إجرائها على لسانه أو لا يستطيع السامع أن يسمع خبرها، وحمله على نهى النبي عن السؤال عن حال أبويه مما لا يساعده النظم الكريم. اهـ.
قال البقاعي:
والمراد بهم من ذكر في الآية السابقة من الجهلة ومن قبلهم، أي عن أعمالهم لتذهب نفسك عليهم حسرات لعدم إيمانهم، كما قال تعالى: {ولا تسألون عما كانوا يعملون} [البقرة: 141] أي فحالك مست وبالنسبة إلينا وإليهم. لأنك إن بلغتهم جميع ما أرسلت به إليهم لم نحاسبك بأعمالهم، وإن تركت بعض ذلك محاسنة لهم لم يحبّوك ما دمت على دينك فأقبل على أمرك ولا تبال بهم، وهو معنى قراءة نافع {ولا تسأل} على النهي، أي احتقرهم فإنهم أقل من أن يلتفت إليهم، فبلغهم جميع الأمر فإنهم لا يحبونك إلا إذا انسخلت مما أنت عليه؛ وفي الحكم بكونهم أصحابها إثبات لما نفوه عن أنفسهم بقوله: {لن تمسنا النار} [البقرة: 8] ونفى لما خصصوا به أنفسهم في قولهم: {لن يدخل الجنة} [البقرة: 111] الآية. اهـ.
قال الألوسي عن هذه الرواية:
لا يخفى بعد هذه الرواية، لأنه صلى الله عليه وسلم كما في المنتخب عالم بما آل إليه أمرهما، وذكر الشيخ ولي الدين العراقي أنه لم يقف عليها، وقال الإمام السيوطي: لم يرد في هذا إلا أثر معضل ضعيف الإسناد، فلا يعول عليه، والذي يقطع به أن الآية في كفار أهل الكتاب، كالآيات السابقة عليها والتالية لها- لا في أبويه صلى الله عليه وسلم، ولتعارض الأحاديث في هذا الباب، وضعفها.
وقال السخاوي: الذي ندين لله تعالى به الكف عنهما وعن الخوض في أحوالهما، والذي أدين لله تعالى به أنا: أنهما ماتا موحدين في زمن الكفر، وعليه يحمل كلام الإمام أبي حنيفة رضي الله عنه إن صح. اهـ.
قال صاحب المنار:
وزعم بعض المفسرين أن النهى على حقيقته، وأنه خاص بنهى النبي صلى الله عليه وسلم عن السؤال عن أبويه، ورووا في ذلك أنه سأل جبريل عن قبريهما فدله عليهما فزارهما ودعا لهما وتمنى لو يعرف حالهما في الآخرة وقال: ليت شعرى ما فعل أبواى؟ فنزلت الآية في ذلك. والحديث قال الحافظ العراقى: إنه لم يقف عليه، وقال السيوطى: لم يرد في ذلك إلا أثر معضل ضعيف الإسناد.
قال الأستاذ الإمام: وقد فشا هذا القول، ولولا ذلك لم نذكره، وإنما نريد بذكره التنبيه على أن الباطل صار يفشو في المسلمين بضعف العلم، والصحيح يهجر وينسى، ولا شك أن مقام النبي- عليه الصلاة والسلام- في معرفة أسرار الدين وحكم الله في الأولين والآخرين ينافى صدور مثل هذا السؤال عنه، كما أن أسلوب القرآن يأبى أن يكون هو المراد منه. اهـ.
وقال الشيخ محمد الغزالي رحمه الله في كتابه السنة النبوية بين أهل الفقه وأهل الحديث:
وقد غاظني أن أحدهم كان يطير في المجامع بحديث: «أبي وأبوك في النار» وكأنما يسوق البشرى إلى المسلمين وهو يشرح لهم كيف أن أبوي رسولهم صلى الله عليه وسلم في النار!!
قلت: قبحك الله من داع أعمى البصيرة: ما لديك شيء من فقه الإسلام ولا من أدب الدعوة، ومثلك لا يزيد الأمة إلا خبالًا باسم السنة، والسنة منك براء.
ثم قال: قال الشيخ القرضاوي في شرح حديث: «أبي وأبوك في النار» أن الأب قد يطلق لغة واصطلاحًا على العم، فلعل المقصود بالأب هنا عمه أبو طالب. ذلك أن أبا طالب عرضت عليه كلمة التوحيد قبل أن يموت فأبى أن ينطق بها، وقد سمعت بأذني من يقول: الحديث صحيح وهو يخصص عموم الآية، فأهل الفطرة ناجون جميعًا- عدا عبد الله بن عبد المطلب...!!
قلت له: ماذا فعل حتى يستحق وحده النار؟ كان عبد الله شابًا شريفًا عفيفًا حكى عنه التاريخ ما يزينه! ولم يحك عنه ما يشينه! والآية خبر لا يحتمل استثناء، فما حماسكم في تعذيب عبد الله؟ وما جريكم هنا وهناك بهذه الشائعة؟ وماذا وراء تأكيدكم أن أبوي الرسول صلى الله عليه وسلم في النار..!
إنني أشم رائحة النَّيل منه في هذا الحماس الأعمى. اهـ.
فائدة:
سئل القاضي أبو بكر ابن العربي أحد الأئمة المالكية عن رجل قال: إن آباء النبي عليه السلام في النار، فأجاب بأنه ملعون؛ لأن الله تعالى يقول: {إِن الَذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَه لَعَنَهُمُ اللَّهُ في الدُّنْيَا والآخِرةِ} [الأحزاب: 57] وفي الحديث: «لا تؤذوا الأحياء بسبّ الأموات» وسئل الإمام الرستغفي عن قول بعض الناس عن آدم عليه السلام لما بدت منه تلك الزلة أسود منه جميع جسده، فلما أهبط إلى الأرض أمر بالصيام والصلاة، فصام وصلى فابيض جسده، أيصح هذا القول؟
قال: لا يجوز في الجملة القول في الأنبياء- عليهم السلام- بشيء يؤدي إلى العيب والنقصان فيهم، وقد أمرنا بحفظ اللسان عنهم؛ لأن مرتبتهم أرفع، وهم على الله أكرم، وقد قال عليه السلام: «إِذَا ذُكِرَ أَصْحَابِي فَأَمْسِكُوا» فلما أمرنا أن لا نذكر الصحابة- رضي الله عنهم- بشيء يرجع إلى العيب والنقص، فلأن نمسك ونكف عن الأنبياء أولى وأحق، فحق المسلم أن يمسك لسانه عما يخل بشرف نسب نبينا عليه السلام وليست من الاعتقاديات فلا حظَّ للقلب منها، وأما اللسان، فحقه أن يصان عما يتبادر منه النقصان، خصوصًا إلى وهم العامة، لأنهم لا يقدرون على دفعه وتداركه، فهذا هو البيان الشافي في هذا الباب بطرقه المختلفة التقطته من الكتب النفيسة وقرنت كل نظير إلى مثله والحمد لله تعالى وحده. اهـ.
كلام نفيس للشنقيطي يتعلق بهذا الموضوع:
قال عليه الرحمة:
قوله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا}.
هذه الآية الكريمة فيها التصريح بأن الله تعالى لا يعذب أحدًا حتى ينذره على ألسنة رسله عليهم الصلاة والسلام، ونظيرها قوله تعالى: {رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ}، وقوله تعالى: {ذَلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ}، إلى غير ذلك من الآيات، ويؤيده تصريحه تعالى بأن كل أفواج أهل النار جاءتهم الرسل في دار الدنيا في قوله تعالى: {كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا} الآية.
ومعلوم أنّ {كُلَّمَا} صيغة عموم، ونظيرها قوله تعالى: {وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا} إلى قوله تعالى: {قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ} فقوله: {وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا} يعمّ كلّ كافر، لما تقرر في الأصول من أن الموصولات من صيغ العموم، لعمومها كلّما تشمله صلاتها كما أشار له في مراقي السعود بقوله:
وقد تلا الذي التي الفروع ** صيغة كل أو لجميع

ومعنى قوله: وقد تلا الذي إلخ: أن الذي، والتي وفروعها صيغ عموم ككل وجميع، ونظيره أيضا قوله تعالى: {وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا} إلى قوله: {وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ} فانه عام أيضًا؛ لأن أول الكلام {وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ} وأمثال هذا كثيرة في القرآن مع أنه جاء في بعض الآيات ما يفهم منه أن أهل الفترة في النار،كقوله تعالى: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ}، فإن عمومها يدل على دخول من لم يدرك النبي صلى الله عليه وسلم، وكذلك عموم قوله تعالى: {وَلا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا}، وقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ}.
وقوله: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلءُ الأَرْضِ ذَهَبًا} الآية.
إلى غير ذلك من الآيات.
اعلم أولا: أن من يأته نذير في دار الدنيا وكان كافرا حتى مات اختلف العلماء فيه هل هو من أهل النار لكفره أو هو معذور لأنه لم يأته نذير؟ كما أشار له في مراقي السعود بقوله:
ذو فترة بالفرع لا يراع ** وفي الأصول بينهم نزاع

وسنذكر إن شاء الله جواب أهل كل واحد من القولين، ونذكر ما يقتضي الدليل رجحانه، فنقول وبالله نستعين: قد قال قوم: إن الكافر في النار ولو مات في زمن الفترة وممن جزم بهذا القول النووي في شرح مسلم؛ لدلالة الأحاديث على تعذيب بعض أهل الفترة، وحكى القرافي في شرح التنقيح الإجماع على أن موتى أهل الجاهلية في النار لكفرهم كما حكاه عنه صاحب نشر البنود وأجاب أهل هذا القول عن آية: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ} وأمثالها من ثلاثة أوجه:
الأول: إن التعذيب المنفي في قوله: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ} وأمثالها هو التعذيب الدنيوي فلا ينافي ثبوت التعذيب في الآخرة، وذكر الشوكاني في تفسيره أن اختصاص هذا التعذيب المنفي بالدنيا دون الآخرة ذهب إليه الجمهور، واستظهر هو خلافه، ورد التخصيص بعذاب الدنيا بأنه خلاف الظاهر من الآيات، وبأن الآيات المتقدمة الدالة على اعتراف أهل النار جميعا بأن الرسل أنذروهم في دار الدنيا صريح في نفيه.
الثاني: أن محل العذر بالفترة المنصوص في قوله: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ} الآية وأمثالها في غير الواضح الذي لا يلتبس على عاقل، أما الواضح الذي لا يخفى على من عنده عقل كعبادة الأوثان فلا يعذر فيه أحد؛ لأن جميع الكفار يقرّون بأن الله هو ربهم وهو خالقهم ورازقهم، ويتحققون أن الأوثان لا تقدر على جلب نفع ولا على دفع ضر، لكنهم غالطوا أنفسهم فزعموا أنها تقربهم إلى الله زلفى، وأنها شفعاؤهم عند الله مع أن العقل يقطع بنفي ذلك.
الثالث: أن عندهم بقية إنذار مما جاءت به الرسل الذين أرسلوا قبله صلى الله عليه وسلم تقوم عليهم بها الحجة، ومال إليه بعض الميل ابن قاسم في الآيات البينات وقد قدمنا في سورة آل عمران أن هذا القول يرده القرآن في آيات كثيرة مصرحة بنفي أصل النذير عنهم كقوله: {لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ} وقوله: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ}، وقوله: {وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا وَلَكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِك} وقوله: {وَمَا آتَيْنَاهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَهَا وَمَا أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ}، إلي غير ذلك من الآيات.
وأجاب القائلون بأن أهل الفترة معذورون عن مثل قوله: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ}- إلى قوله- {مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} من الآيات المتقدمة، بأنهم لا يتبين أنهم من أصحاب الجحيم ولا يحكم لهم بالنار، ولو ماتوا كفارا إلا بعد إنذارهم وامتناعهم من الإيمان كأبي طالب، وحملوا الآيات المذكورة على هذا المعنى، واعترض هذا الجواب بما ثبت في الصحيح من دخول بعض أهل الفترة النار كحديث: «إن أبي وأباك في النار» الثابت في صحيح مسلم وأمثاله من الأحاديث، واعترض هذا الاعتراض بأن الأحاديث- وإن صحت- فهي أخبار آحاد يقدم عليها القاطع كقوله: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا}، واعترض هذا الاعتراض أيضا بأنه لا يتعارض عام وخاص فما أخرجه حديث صحيح خرج من العموم وما لم يخرجه نص صحيح بقي داخلا في العموم، واعترض هذا الاعتراض أيضًا بأن هذا التخصيص يبطل علة العام؛ لأن الله تعالى تمدح بكمال الإنصاف، وصرح بأنه لا يعذب حتى يقطع حجة المعذب بإنذار الرسل في دار الدنيا، وبيّن أن ذلك الإنصاف التام علة لعدم التعذيب، فلو عذب إنسانا واحدا من غير إنذار لاختلت تلك الحكمة ولثبتت لذلك المعذب الحجة التي بعث الله الرسل لقطعها كما صرح به في قوله: {رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} وهذه الحجة بيّنها في سورة طه بقوله: {وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ} الآية، وأشار لها في سورة القصص بقوله: {وَلَوْلا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ} إلى قوله: {وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ}، وهذا الاعتراض الأخير يجري على الخلاف في النقض هل هو قادح في العلة أو تخصيص لها؟ وهو اختلاف كثير معروف في الأصول عقده في مراقي السعود بقوله: في تعداد القوادح في الدليل:
منها وجود الوصف دون الحكم ** سماه بالنقض وعاة العلم

والأكثرون عندهم لا يقدح ** بل هو تخصيص وذا مصحح

وقد روى عن مالك تخصيص ** إن يك الاستنباط لا التنصيص

وعكس هذا قد رآه البعض ** ومنتقى ذي الاختصار النقض

إن لم تكن منصوصة بظاهر ** وليس فيما استنبطت بضائر

إن جا لفقد الشرط أو لما منع ** والوفق في مثل العرايا قد وقع

والمحققون من أهل الأصول على أن عدم تأثير العلة إن كان لوجود مانع من التأثير أو انتفاء شرط التأثير فوجودها مع تخلف الحكم لا ينقضها ولا يقدح فيها وخروج بعض أفراد الحكم حينئذ تخصيص للعلة لا تقض لها كالقتل عمدا عدوانا فانه علة القصاص إجماعا ولا يقدح في هذه العلة تخلف الحكم عنها في قتل الوالد لولده لأن تأثيرها منع منه مانع هو الأبوة وأما إن كان عدم تأثيرها لا لوجود مانع أو انتفاء بشرط فانه يكون نقضا لها وقدحا فيها ولكن يرد على هذا التحقيق ما ذكره بعض العلماء من أن قوله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّه} علة منصوصة لقوله: {وَلَوْلا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلاءَ لَعَذَّبَهُم} الآية، مع أن هذه العلة قد توجد ولا يوجد ما عذب به بنو النضير من جلاء أو تعذيب دنيوي وهو يؤيد كون النقض تخصيصا مطلقا لا قدحًا.
ويجاب عن هذا بأن بعض المحققين من الأصوليين قال: إن التحقيق المذكور محله في العلة المستنبطة دون المنصوصة وهذه منصوصة كما قدمنا ذلك في أبيات مراقي السعود في قوله:
وليس فيما استنبطت بضائر ** إن جاء لفقد الشرط أو لما منع

هذا ملخص كلام العلماء وحججهم في المسألة، والذي يظهر رجحانه بالدليل هو الجمع بين الأدلة؛ لان الجمع واجب إذا أمكن بلا خلاف كما أشار له في المراقي بقوله: والجمع واجب متى ما أمكنا. إلخ.
ووجه الجمع بين هذه الأدلة هو عذرهم بالفترة وامتحانهم يوم القيامة بالأمر باقتحام نار فمن اقتحمها دخل الجنة وهو الذي كان يصدق الرسل لو جاءته في الدنيا ومن امتنع عذب بالنار وهو الذي كان يكذب الرسل لو جاءته في الدنيا لان الله يعلم ما كانوا عاملين لو جاءتهم الرسل وبهذا الجمع تتفق الأدلة فيكون أهل الفترة معذورين، وقوم منهم من أهل النار بعد الامتحان، وقوم منهم من أهل الجنة بعده أيضا، ويحمل كل واحد من القولين على بعض منهم علم الله مصيرهم، وأعلم به نبيه صلى الله عليه وسلم، فيزول التعارض.
والدليل على هذا الجمع ورود الأخبار به عنه صلى الله عليه وسلم.
قال ابن كثير في تفسير قوله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} بعد أن ساق طرق الأحاديث الدالة على عذرهم وامتحانهم يوم القيامة رادّا على ابن عبد البر تضعيف أحاديث عذرهم وامتحانهم ما نصه: والجواب عما قال، إن أحاديث هذا الباب منها ما هو صحيح كما قد نص على ذلك كثير من أئمة العلماء، ومنها ما هو حسن، ومنها ما هو ضعيف يتقوى بالصحيح والحسن، وإذا كانت أحاديث الباب الواحد متصلة متعاضدة على هذا النمط أفادت الحجة عند الناظر فيها. انتهى محل الغرض منه بلفظه.
ثم قال: إن هذا قال به جماعة من محققي العلماء والحفاظ والنقاد وما احتج به البعض لرد هذه الأحاديث من أن الآخرة دار جزاء لا دار عمل وابتلاء فهو مردود من وجهين: الأول أن ذلك لا ترد به النصوص الصحيحة عنه صلى الله عليه وسلم ولو سلمنا عموم ما قال من أن الآخرة ليست دار عمل لكانت الأحاديث المذكورة مخصصة لذلك العموم.
الثاني: أنا لا نسلم انتفاء الامتحان في عرصات المحشر بل نقول دل القاطع عليه؛ لأن الله تعالى صرّح في سورة القلم بأنهم يُدعون إلى السجود في قوله جل وعلا: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ} الآية ومعلوم أن أمرهم بالسجود تكليف في عر صات المحشر، وثبت في الصحيح أن المؤمنين يسجدون يوم القيامة وأن المنافق لا يستطيع ذلك ويعود ظهره كالصفيحة الواحدة طبقًا واحدا ًكلما أراد السجود خرّ لقفاه، وفي الصحيحين في الرجل الذي يكون آخر أهل النار خروجا منها أن الله يأخذ عهوده ومواثيقه أن لا يسأل غير ما هو فيه، ويتكرر ذلك مرارا، ويقول الله تعالى يا ابن آدم ما أغدرك ثم يأذن له في دخول الجنة، ومعلوم أن تلك العهود والمواثيق تكليف في عر صات المحشر والعلم عند الله تعالى. اهـ.
ذكر الإمام السيوطي رحمه الله- في الدر المنثور طائفة من الأحاديث التي تؤيد الرأي السابق الذي رجحه الشيخ الشنقيطي رحمه الله- منها:
قال السيوطي:
أخرج عبد الرزاق وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: إذا كان يوم القيامة جمع الله أهل الفترة، المعتوه والأصم والأبكم والشيوخ الذين لم يدركوا الإسلام، ثم أرسل إليهم رسولًا أن ادخلوا النار فيقولون كيف ولم تأتنا رسل، قال: وأيم الله لو دخلوها لكانت عليهم بردًا وسلامًا، ثم يرسل إليهم، فيطيعه من كان يريد أن يطيعه، قال أبو هريرة رضي الله عنه: اقرءوا إن شئتم: {وما كنا معذبين حتى نبعث رسولًا}.
وأخرج إسحاق بن راهويه وأحمد وابن حيان وأبو نعيم في المعرفة والطبراني وابن مردويه والبيهقي في كتاب الاعتقاد عن الأسود بن سريع رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: أربعة يحتجون يوم القيامة: رجل أصم لا يسمع شيئًا، ورجل أحمق، ورجل هرم، ورجل مات في الفطرة، فأما الأصم فيقول: رب لقد جاء الإسلام وما أسمع شيئًا، وأما الأحمق فيقول: رب جاء الإسلام والصبيان يحذفونني بالبعر، وأما الهرم فيقول: رب لقد جاء الإسلام وما أعقل شيئًا، وأما الذي مات في الفطرة فيقول: رب ما أتاني لك رسول، فيأخذ مواثيقهم، ويرسل إليهم رسولًا: أن ادخلوا النار قال: فوالذي نفس محمد بيده لو دخلوها لكانت عليهم بردًا وسلامًا، ومن لم يدخلها سحب إليها.
وأخرج بن راهويه وأحمد وابن مردويه والبيهقي عن أبي هريرة رضي الله عنه مثله غير أنه قال في آخره: فمن دخلها كانت عليه بردًا وسلامًا، ومن لم يدخلها سحب إليها.
وأخرج الحكيم الترمذي في نوادر الأصول، والطبراني وأبو نعيم عن معاذ بن جبل رضي الله عنه عن رسول صلى الله عليه وسلم قال: يؤتى يوم القيامة بالممسوخ عقلًا، وبالهالك في الفترة وبالهالك صغيرًا، فيقول الممسوخ عقلًا: يا رب لو آتيتني عقلًا ما كان من آتيته عقلًا بأسعد بعقله مني، ويقول الهالك في الفترة: رب لو أتاني منك عهد ما كان من أتاه منك عهد بأسعد بعهدك مني، ويقول الهالك صغيرًا: يا رب لو آتيتني عمرًا ما كان من آتيته عمرًا بأسعد بعمره مني، فيقول الرب تبارك وتعالى لهم: اذهبوا فادخلوا جهنم، ولو دخلوها ما ضرتهم شيئًا، فخرج عليهم قوابض من نار يظنون أنها قد أهلكت ما خلق الله من شيء فيرجعون سراعًا ويقولون: يا ربنا خرجنا وعزتك نريد دخولها، فخرجت علينا قوابض من نار، ظننا أن قد أهلكت ما خلق الله من شيء، ثم يأمرهم ثانية كذلك، ويقولون كذلك، فيقول الرب: خلقتكم على علمي، وإلى علمي تصيرون ضميهم فتأخذهم النار.
وأخرج ابن أبي شيبة عن أبي صالح رضي الله عنه قال: يحاسب يوم القيامة الذين أرسل إليهم فيدخل الله من أطاعه الجنة، ويدخل النار من عصاه، ويبقى قوم من الولدان والذين ماتوا في الفترة فيقول: وإني آمركم أن تدخلوا هذه النار، فيخرج لهم عنق منها، فمن دخلها كانت نجاته، ومن نكص فلم يدخلها كانت هلكته. اهـ.
تعليق:
الأولى في هذا الأمر وما شابهه أن نفوض الأمر فيه إلى صاحب الخلق والأمر {ألا له الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين} فالخلق لله والأمر لله والحكم لله {إن الحكم إلا لله} وهو عز اسمه يصيب برحمته من يشاء ومن حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه فإن كان هذا واجبًا في حق البشر فكيف يسوغ لعاقل فضلًا عن فاضل أن يحكم في أمر مرده إلى صاحب الخلق والأمر، فإذا وجب مراعاة الأدب مع الخلق فهو مع الله عز وجل أوجب وأعظم.
وسيأتي إن شاء الله تفصيل هذه المسألة وذكر خلاف العلماء فيها عند الكلام عن قوله تعالى: {وما كنا معذبين حتى نبعث رسولًا} [الإسراء: 15] والله أعلم وأحكم.