فصل: قال الشنقيطي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وموقع إن الثانية في هذه الآية أبلغ منه في بيت جرير لأن الجملة التي وقعت فيها في هذه الآية لها استقلال بمضمونها من حيث هي مفيدة حكمًا يعم ما وقعت خبرًا عنه وغيره من كل من يماثل الخبر عنهم في عملهم، فذلك العموم في ذاته حكم جدير بالتأكيد لتحقيق حصوله لأربابه بخلاف بيت جرير.
وأما آية سورة الحج فقد اقتضى طولُ الفصل حرف التأكيد حرصًا على إفادة التأكيد.
والإضاعة: جعل الشيء ضائعًا.
وحقيقة الضيعة: تلف الشيء من مظنة وجوده.
وتطلق مجازًا على انعدام الانتفاع بشيء موجود فكأنه قد ضاع وتلف، قال تعالى: {أني لا أضيع عَمَل عامل منكم} في سورة آل عمران (195)، وقال: {وما كان الله ليُضِيع إيمانكم} في البقرة (143).
ويطلق على منع التمكين من شيء والانتفاع به تشبيهًا للممنوع بالضائع في اليأس من التمكن منه كما في هذه الآية، أي أنا لا نَحْرم من أحسن عملًا أجرَ عمله.
ومنه قوله تعالى: {إنّ الله لا يضيع أجر المحسنين} [التوبة: 120].
{أُولَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ}.
الجملة مستأنفة استئنافًا بيانيًا، لأن ما أجمل من عدم إضاعة أجرهم يستشرف بالسامع إلى ترقب ما يبين هذا الأجر. وافتتاح الجملة باسم الإشارة لما فيه من التنبيه على أن المشار إليهم جديرون لما بعد اسم الإشارة لأجل الأوصاف المذكورة قبل اسممِ الإشارة، وهي كونهم آمنوا وعملوا الصالحات. واللام في {لهم جنات عدن} لام الملك. و{من} للابتداء، جعلت جهة تحتهم مَنْشأ لجري الأنهار.
وتقدم شبيه هذه الآية في قوله تعالى: {وعد الله المؤمنين والمؤمنات جنات تجري من تحتها الأنهار} في سورة براءة (72).
و{عدن} تقدم في قوله تعالى: {ومساكن طيبة في جنات عدن} في سورة براءة (72).
و{من تحتهم}، بمنزلة {من تحتها} لأنّ تحت جناتهم هو تحتٌ لهم.
ووجه إيثار إضافة تحت إلى ضميرهم دون ضمير الجنات زيادة تقرير المعنى الذي أفادته لام الملك، فاجتمع في هذا الخبر عدة مقرارات لمضمونه، وهي: التأكيد مرتين، وذكرُ اسم الإشارة.
ولام الملك، وجر اسم الجهة ب {مِن}، وإضافة اسم الجهة إلى ضميرهم، والمقصود من ذلك: التعريض بإغاظة المشركين لتتقرر بشارة المؤمنين أتَمّ تقرر.
وجملة {يحلون} في موضع الصفة لـ: {جنات عدن}.
والتحلية: التزيين، والحلية: الزينة.
وأسند الفعل إلى المجهول، لأنهم يجدون أنفسهم محلَّين بتكوين الله تعالى.
والأساور: جمع سِوار على غير قياس.
وقيل: أصله جمع أسورة الذي هو جمع سِوار.
فصيغة جَمع الجمع للإشارة إلى اختلاف أشكال ما يحلون به منها، فإن الحلية تكون مرصعة بأصناف اليواقيت.
و{مِن} في قوله: {من أساور} مزيدة للتأكيد على رأي الأخفش، وسيأتي وجهه في سورة الحج.
ويجوز أن تكون للابتداء، وهو متعين عند الذين يمنعون زيادتها في الإثبات.
والسِوار: حلي من ذهب أو فضة يُحيط بموضع من الذراع، وهو اسم معرب عن الفارسية عند المحققين وهو في الفارسية دستوارَه بهاء في آخره كما في كتاب الراغب، وكُتب بدون هاء في تاج العروس.
وأما قوله: {من ذهب} فإن {من} فيه للبيان، وفي الكلام اكتفاء، أي من ذهب وفضة كما اكتفي في آية سورة الإنسان بذكر الفضة عن ذكر الذهب بقوله: {وحلوا أساور من فضة} [الإنسان: 21]، ولكل من المعدنين جماله الخاص.
واللِباس: ستر البدن بثوب من قميص أو إزار أو رداء، وجميع ذلك للوقاية من الحر والبرد وللتجمل.
والثياب: جمع ثوب، وهو الشقة من النسيج.
واللون الأخضر أعدل الألوان وأنفعها عند البصر، وكان من شعار الملوك.
قال النابغة:
يصونون أجسادًا قديمًا نعيمُها ** بخالصة الأردان خُضْرِ المناكب

والسندس: صنف من الثياب، وهو الديباج الرقيق يلبس مباشرًا للجلد ليقيه غلظ الإستبرق.
والإستبرق: الديباج الغليظ المنسوج بخيوط الذهب، يلبس فوق الثياب المباشرة للجلد.
وكلا اللفظين معرب.
فأما لفظ {سندس} فلا خلاف في أنه معرب وإنما اختلفوا في أصله، فقال جماعة: أصله فارسي، وقال المحققون: أصله هندي وهو في اللغة الهندية سَنْدُون بنون في آخره.
كان قوم من وجوه الهند وفدوا على الإسكندر يحملون معهم هدية من هذا الديباج، وأن الروم غيروا اسمه إلى سندوس، والعرب نقلوه عنهم فقالوا سندس فيكون معربًا عن الرومية وأصله الأصيل هندي.
وأما الإستبرق فهو معرب عن الفارسية.
وأصله في الفارسية إستبره أو إستبر بدون هاء أو إستقره أو إستفره.
وقال ابن دريد: هو سرياني عُرب وأصله إستروه.
وقال ابن قتيبة: هو رومي عُرب، ولذلك فهمزته همزة قطع عند الجميع، وذكره بعض علماء اللغة في باب الهمزة وهو الأصوب، ويجمع على أبارق قياسًا، على أنهم صغروه على أبيرق فعاملوا السينَ والتاء معاملة الزوائد.
وفي الإتقان للسيوطي عن ابن النقيب: لو اجتمع فصحاء العالم وأرادوا أن يَتركوا هذا اللفظ ويأتوا بلفظ يقوم مقامه في الفصاحة لعجزوا.
وذلك: أن الله تعالى إذا حث عباده على الطاعة بالوعد والوعيد.
والوعدُ بما يرغب فيه العقلاء وذلك منحصر في: الأماكن، والمآكل، والمشارب، والملابس، ونحوها مما تتحد فيه الطباع أو تختلف فيه.
وأرْفع الملابس في الدنيا الحرير، والحريرُ كلما كان ثوبه أثقل كان أرفع فإذا أريد ذكر هذا فالأحسن أن يذكر بلفظ واحد موضوع له صريح، وذلك ليس إلا الإستبرق ولا يوجد في العربية لفظ واحد يدل على ما يدل عليه لفظ استبرق.
هذه خلاصة كلامه على تطويل فيه.
و{من} في قوله: {من سندس} للبيان.
وقدم ذكر الحلي على اللباس هنا لأن ذلك وقَع صفة للجنات ابتداء، وكانت مظاهر الحلي أبهج للجنات، فقدم ذكر الحلي وأخر اللباس لأن اللباس أشد اتصالًا بأصحاب الجنة لا بمظاهر الجنة، وعكس ذلك في سورة الإنسان في قوله: {عاليهم ثياب سندس} [الإنسان: 21] لأن الكلام هنالك جرى على صفات أصحاب الجنة.
وجملة {متكئين فيها على الأرائك} في موضع الحال من ضمير {يلبسون}.
والاتكاء: جِلسة الراحة والترففِ.
وتقدم عند قوله تعالى: {وأعتدت لهن متكأً} في سورة يوسف عليه السلام (31).
والأرائك: جمع أريكة.
وهي اسم لمجموع سرير وحَجَلة.
والحجلة: قبة من ثياب تكون في البيت تجلس فيها المرأة أو تنام فيها.
ولذلك يقال للنساء: ربات الحجال.
فإذا وضع فيها سرير للاتكاء أو الاضطجاع فيه أريكة.
ويجلس فيها الرجل وينام مع المرأة، وذلك من شعار أهل الترف.
وجملة {نعم الثواب} استئناف مدح، ومخصوص فعل المدح محذوف لدلالة ما تقدم عليه.
والتقدير: نعم الثواب الجنات الموصوفة.
وعطف عليه فعل إنشاء ثانٍ وهو {وحسنت مرتفقًا} لأن حسن و ساء مستعملان استعمال نعم و بئس فعملا عملهما.
ولذلك كان التقدير: وحسنت الجنات مرتفقًا.
وهذا مقابل قوله في حكاية حال أهل النار {وساءت مرتفقًا}.
والمرتفق: هنا مستعمل في معناه الحقيقي بخلاف مقابله المتقدم. اهـ.

.قال الشنقيطي:

{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا (30)}.
ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أن من عمل صالحًا وأحسن في عمله أنه جل وعلا لا يضيع أجره، أي جزاء عمله: بل يجازي بعمله الحسن الجزاء الأوفى.
وبين هذا المعنى فيآيات كثيرة جدًا، كقوله تعالى: {فاستجاب لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنْكُمْ مِّن ذَكَرٍ أَوْ أنثى} [آل عمران: 195]. وقوله تعالى: {يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِّنَ الله وَفَضْلٍ وَأَنَّ الله لاَ يُضِيعُ أَجْرَ المؤمنين} [آل عمران: 171] وقوله: {هَلْ جَزَاءُ الإحسان إِلاَّ الإحسان} [الرحمن: 60] الآيات الدلة على هذه المعنى كثيرة جدًا. وفي هذا المعنى الكريمة سؤلان معروفان عند العلماء:
الأول- أن يقال أين خبر {إن} في قوله تعالى: {إِنَّ الذين آمَنُواْ} الآية؟ فإذا قيل: خبرها جملة {إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا} توجه السؤال.
الثاني- وهو أن يقال: أين رابط الجملة الخبرية بالمبتدأ الذي هو اسم {إن}؟.
اعلم أن خبر {إن} في قوله: {إِنَّ الذين آمَنُواْ} قيل هو جملة {أولئك لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ} [الكهف: 31] وعليه فقوله: {إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا} جملة اعتراضية. وعلى هذا فالرابط موجود ولا إشكال يه. وقيل: إن الثانية واسمها وخبرها، كل ذلك خبر {إن} الأولى. ونظير الآية من القرآن في الإخبار عن {إن} بإن وخبرها واسمها قوله تعالى في سورة: الحج: {إِنَّ الذين آمَنُواْ والذين هَادُواْ والصابئين والنصارى والمجوس والذين أشركوا إِنَّ الله يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ القيامة} [الحج: 17] الآية، وقول الشاعر:
إن الخليفة إن الله ألبسه ** سربال به ترجى الخواتيم

على أظهر الوجهين في خبر إن اولى في البيت. وعلى هذا فلا جواب عن السؤال الثاني من وجهين:
الأول:
- أن الضمير الراب محذوف، تقديره: لا تضيع أجر من أحسن منهم عملًا: كقولهم: السمن منوان بدرهم، أي منوان منه بدرهم، كما تقدم في قوله تعالى: {والذين يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ} [البقرة: 234] الآية. أي يتربص بعدهم.
الوجه الثاني:
- أن من {مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا} هو الذين آمنوا وعملوا الصالحات. وإذا كان الذين آمنوا، ومن أحسن عملًا ينظمها معنى واحد قام ذلك مقام الربط بالضمير. وهذا مذهب الأخفش، وهو الصواب. لأن الربط حاصل بالاتحاد في المعنى.
{أُولَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ}.
بين جل وعلا في هذه الآية الكريمة أجر من أحسن عملًا، فذكر أنه جنات عدن تجري من تحتهم فيها الأنهار، ويجولن فيها أساور الذهب، ويلبسون فيها الثيا الخضر من السندس والاستبرق، في حال كونهم متكئين فيها على الآرائك وهي السرر في الحجال والحجال: جمع حجلة وهو بيت يزين للعروس بجميع أنواع الزينة. ثم أثنى على ثوابهم بقوله: {نِعْمَ الثواب وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقًا}: وهذا الذي بينه هنا من صفات جزاء المحسنين الذين آمنوا وعملو الصالحات- جاء مبينًا في مواضع كثيرة جدًا من كتاب الله تعالى، وكقوله تعالى في سورة: الإنسان: {إِنَّ الأبرار يَشْرَبُونَ مِن كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا} [الإنسان: 5]- إلى قوله- {وَكَانَ سَعْيُكُم مَّشْكُورًا} [الإنسان: 22] وكقوله في سورة: الواقعة، {والسابقون السابقون أولئك المقربون فِي جَنَّاتِ النعيم} [الواقعة: 10-12] إلى قوله: {لًاصْحَابِ اليمين} [الواقعة: 38] وأمثال ذلك كثيرة في القرآن:
وقد بين في سورة: السجدة أن ما أخفاه الله لعم من قرة أعين لا يعلمه إلا هو جل وعلا، وذلك في قوله: {فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّآ أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ} [السجدة: 17] الآية.
وقوله في هذه الآية الكريمة. {جَنَّاتُ عَدْنٍ} أي إقامة لا رحيل بعدها ولا تحول كما قال تعالى: {لاَ يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا} [الكهف: 108] أصله من عدن بالمكان: إذا أقام به. وقد تقدم في سورة: النحل معنى السندس والاستبرق بما أغنى عن إعادته هنا، والأساور: جمع سوار. وقال بعضهم: جمع أسورة. والثواب: الجزاء مطلقًا على التحقيق. ومنه قول الشاعر:
لكل أخي مدح ثواب علمته ** وليس المدح الباهلي ثواب

وقول من قال: إن الثواب في اللغة يختص بجزاء الخير بالخير- غير صواب: بل يطلق الثواب أيضًا على جزاء الشر بالشر. ومنه قوله تعالى: {هَلْ ثُوِّبَ الكفار مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ} [المطففين: 36]، وقوله تعالى: {قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِّن ذلك مَثُوبَةً عِندَ الله مَن لَّعَنَهُ الله وَغَضِبَ عَلَيْهِ} [المائدة: 60] الآية.
وقوله: {وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقًا} الضمير في قوله: {حسنت} راجع إلى {جنات عدن}. والمرتفق قد قدمنا أقوال العلماء فيه. وقوله هنا في الجنة {وحسنت مرتفقًا} يبين معناه قوله تعالى: {أولئك يُجْزَوْنَ الغرفة بِمَا صَبَرُواْ وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلاَمًا خَالِدِينَ فِيهَا حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا} [الفرقان: 75-76]. اهـ.