فصل: قال الثعلبي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو {أَن يَهْدِيَنِى} بالياء عند الوصل، وقرأ الباقون بحذف الياء.
{وَلَبِثُواْ في كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِاْئَةِ سِنِينَ وازدادوا تِسْعًا}، قرأ حمزة والكسائي: {ثلاث مِاْئَةِ} بشسكسر الهاء بغير تنوين على معنى الإضافة؛ وقرأ الباقون بالتنوين.
{لَهُ غَيْبُ السموات والأرض}، أي عالم بما لبثوا في رقودهم؛ وقال الكلبي: {أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ}، أي هو عالم بقصة أصحاب الكهف وغيرهم.
{مَا لَهُم مّن دُونِهِ مِن وَلِىّ}؛ أي أصحاب الكهف.
{وَلاَ يُشْرِكُ في حُكْمِهِ أَحَدًا}؛ قرأ ابن عامر {وَلاَ تُشْرِكُواْ} بالتاء على معنى المخاطبة، وقرأ الباقون بالياء، ومعناه أنه قد جرى ذكر علمه وقدرته، وأعلم أنه لا يشرك في حكمه أحدًا.
كما قال: {عالم الغيب فَلاَ يُظْهِرُ على غَيْبِهِ أَحَدًا إِلاَّ مَنِ ارتضى مِن رَّسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا} [الجن: 26- 27]، ومن قرأ بالتاء يقول: لا تنسبن أحدًا إلى عالم الغيب، ومعناه أنه لا يجوز لأحد أن يحكم بين رجلين بغير حكم الله، فيما حكم أو دل عليه حكم الله؛ فليس لأحد أن يحكم من ذات نفسه.
{واتل مَا أُوْحِىَ إِلَيْكَ}، يقول: اقرأ عليهم الذي أنزل إليك {مِن كتاب رَبّكَ}، يعني: القرآن.
{لاَ مُبَدّلَ لكلماته}؛ يقول: لا مغير لنزول القرآن ولا خلف له؛ ويقال: ولا ينقص منه ولا يزاد فيه.
{وَلَن تَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَدًا}، أي لا ملجأ يمنعك منه؛ ويقال: {مُلْتَحَدًا}، أي مانعًا يمنعك؛ ويقال: معدلًا.
وإنما سمي اللحد لحدًا، لأنه في ناحية؛ ويقال: معناه وإن زدت فيه أو نقصت منه، لن تجد من عذابه ملجأ.
{واصبر نَفْسَكَ}، يقول: واحبس نفسك {مَعَ الذين يَدْعُونَ رَبَّهُم}، أي يصلون لله تعالى {بالغداة والعشى}، يعني: الصلوات الخمس.
قال ابن عباس: نزلت الآية في سلمان، وصهيب، وعمار بن ياسر، وخباب بن الأرت، وعامر بن فهيرة، ونحوهم من الفقراء قالوا: بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم جالس ذات يوم، عنده سلمان على بساط منسق بالخوص أي منسوجًا إذ دخل عليه عيينة بن حصن الفزاري، فجعل يدفعه بمرفقه وينحيه، حتى أخرجه من البساط.
وكان على سلمان شملة قد عرق فيها فقال عيينة: إنَّ لنا شرفًا، فإذا دخلنا عليك فأخرج هذا واضربه؛ فوالله إنه ليؤذيني ريحه.
أما يؤذيك ريحه؟ فإذا خرجنا من عندك، فأدخلهم وأذن لهم بالدخول إن بدا لك أن يدخلوا عليك أو اجعل لنا مجلسًا ولهم مجلسًا، فنزل: {واصبر نَفْسَكَ} إلى {يُرِيدُونَ وَجْهَهُ}، أي يطلبون رضاه.
{وَلاَ تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ}، أي لا يتجاوزهم إلى زينة الحياة الدنيا ويقال: لا تحتقرهم ولا تزدرهم.
{تُرِيدُ زِينَةَ الحياة الدنيا}، أي ما قال عيينة بن حصن الفزاري وأمثاله {وَلاَ تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا}، أي عن القرآن، {واتبع هَوَاهُ} في عبادة الأصنام.
{وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا}، أي ضياعًا؛ وقال السدي: هلاكًا.
قال أبو عبيدة: ندمًا؛ وقال القتبي: أصله من العجلة والسبق.
قال المفسرون: أي سرفًا؛ وقال الزجاج: تفريطًا وهو العجز.
ثم قال تعالى: {وَقُلِ الحق مِن رَّبّكُمْ}، أي القرآن، يعني: الذي أعطاكم به الحق من ربكم وهو قول: لا إله إلا الله، يعني: ادعهم إلى الحق.
{فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ}، أي من شاء فليقل: لا إله إِلا الله؛ ويقال: معناه من شاء الله له الإيمان آمن، ومن شاء الله له الكفر كفر؛ ويقال: {فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن} من لفظه لفظ المشيئة، والمراد به الأمر، يعني: آمنوا؛ ومن شاء فليكفر لفظه لفظ المشيئة والمراد به الخبر ومعناه ومن كفر.
{إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا}، يعني: للكافرين {أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا}، يعني: أن دخانها محيط بالكافرين، قال الكلبي ومقاتل: يخرج عنق من النار، فيحيط بهم كالحظيرة.
{وَإِن يَسْتَغِيثُواْ} من العطش، {يُغَاثُواْ بِمَاء كالمهل}، أي أسودَ غليظًا كرديء الزيت؛ وهذا قول الكلبي والسدي وابن جبير.
وروى عكرمة، عن ابن عباس مثله؛ ويقال: هو الصفر المذاب أو النحاس المذاب، إذ بلغ غايته في الحر؛ وروى الضحاك، عن ابن مسعود: أنه أذاب فضة من بيت المال، ثم بعث إلى أهل المسجد وقال: من أحب أن ينظر إلى المهل، فلينظر إلى هذا: وقال مجاهد: المهل القيح والدم الأسود كعكر الزيت.
{يَشْوِى الوجوه}، يعني: إذا هوى به إلى فيه أنضج وجهه.
{بِئْسَ الشراب} المهل.
{وَسَاءتْ مُرْتَفَقًا}، يقول بئس المنزل النار، رفقاؤهم فيها الشياطين والكفار.
{وَسَاءتْ مُرْتَفَقًا}، أي مجلسًا.
وأصل الارتفاق الاتكاء على المرفق.
{إِنَّ الذين ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا}، أي لا نبطل ثواب من أحسن عملًا في الآخرة: ثم بيّن ثوابهم فقال: {أُوْلَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ}، العدن الإقامة؛ ويقال: العدن بطنان الجنة وهي وسطها {تَجْرِى مِن تَحْتِهِمُ الأنهار يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا مّن سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ}، السندس ما لطف من الديباج، والاستبرق ما ثخن من الديباج؛ وقال القتبي: يقول قوم: هو فارسي معرب، أصله استبرك، وقال الزجاج في قوله: {إِنَّ الذين ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات}: يجوز أن يكون خبره: {إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا}، كأنه يقول: إنا لا نضيع أجرهم، ويحتمل أن يكون الجواب قوله: {أُوْلَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ} ويجوز أن يكون جوابه لم يذكر، وقد بيَّن ثواب من أحسن عملًا في موضع آخر، وهو قوله: {مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا} وقوله: {أَسَاوِرَ} جمع أسورة، واحدها سوار والأسورة جمع الجمع.
{مُّتَّكِئِينَ فِيهَا على الأرائك}، أي على السرر في الحجال، ولا يكون أريكة إلا إذا اجتمعا السرير والحجلة.
{نِعْمَ الثواب} الجنة، {وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقًا}، أي منزلًا في الجنة قُرناؤهم الأنبياء والصالحون. اهـ.

.قال الثعلبي:

{الحمد لِلَّهِ الذي أَنْزَلَ على عَبْدِهِ الكتاب}.
الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب قيّمًا مستقيمًا. قال ابن عباس: عدلًا. الفرّاء: قيّمًا على الكتب كلّها ناسخًا لشرائعها. {وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجَا}: مختلفًا {لِّيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا} أي لتنذركم بأسًا شديدًا {مِّن لَّدُنْهُ وَيُبَشِّرَ المؤمنين الذين يَعْمَلُونَ الصالحات أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا} وهي الجنّة.
{مَّاكِثِينَ}: مقيمين {فِيهِ أَبَدًا وَيُنْذِرَ الذين قَالُواْ اتخذ الله وَلَدًا مَّا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلاَ لآبَائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً} نصب على التمييز والقطع، قديره: كبرت الكلمة كلمةً، {تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِن يَقُولُونَ}: ما يقولون {إِلاَّ كَذِبًا}.
{فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ}: قاتل نفسك {على آثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُواْ بهذا الحديث}: القرآن {أَسَفًا}: حزنًا وجزعًا وغضبًا.
{إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأرض} من كل شيء {زِينَةً لَّهَا}، قال الضحّاك من الزاكية خاصّة زينة لها {لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُم أَحْسَنُ عَمَلًا} أي أزهد فيها.
{وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا}: مستويًا {جُرُزًا}: يابسًا أملس لا تنبت شيئًا.
{أَمْ حَسِبْتَ}، معناه: بل أم حسبت، يعني: أظننت يا محمد {أَنَّ أَصْحَابَ الكهف والرقيم كَانُواْ مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا}؟ يعني: ليسوا أعجب آياتنا؛ فإنّ ما خلقت من السماوات والأرض وما فيهنّ من العجائب أغرب منهم. والكهف هو الغار في الجبل. واختلفوا في الرقيم، فقال فيه ما روى ابن جريج عن موسى بن عقبة عن نافع عن ابن عمر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إنّ ثلاثة نفر خرجوا يرتادون لأهلهم، بينا هم يمشون إذ أصابتهم السماء، فأووا إلى كهف فسقطت صخرة من الجبل فانطبقت على باب الكهف فانقفل عليهم، فقال قائل منهم: اذكروا أيّكم عمل حسنة لعل الله برحمته يرحمنا فقال رجل منهم: قد عملت حسنة مرة، كان لي أُجراء يعملون عملًا استأجرت كل رجل منهم بأجر معلوم، فجاءني رجل ذات يوم وسط النهار فاستأجرته بشرط أصحابه، فعمل في بقية نهاره كما عمل الرجل منهم في نهاره كله، فرأيت عليَّ في الذِّمام ألاّ أُنقصه مّما استأجرت به أصحابه، لما جهد في عمله، فقال رجل منهم: أتعطي هذا ما أعطيتني ولا يعمل إلاّ نصف النهار؟ قلت: يا عبد الله لم أبخسك شيئًا من شرطك، وإنما هو مالي أحكم فيه ما شئت قال: فغضب وذهب وترك أجره، فوضعت حقه في جانب من البيت ما شاء الله، ثمّ نزل بي بعد ذلك بقر فاشتريت به فصيلة من البقر، فبلغت ما شاء الله، فمرّ بي بعد حين شيخ ضعيف لا أعرفه، فقال لي: إنّ لي عندك حقًا. فذكره حتى عرفته، قلت: إيّاك أبغي وهذا حقّك. فعرضتها عليه جميعًا فقال: يا عبد الله، لا تسخر بي إن لم تتصدّق علي فأعطني حقي. قلت: والله لا أسخر، إنها لحقك ما لي فيه شيء، فدفعتها إليه. اللّهم إن كنت فعلت ذلك لوجهك فافرج عنّا. فانصدع الجبل حتى رأوا الضوء فأبصروا وقال الآخر: قد عملت حسنة مرّة، كانت لي فضل، وأصاب النّاس شدّة، فجاءتني امرأة تطلب مني معروفًا، فقلت: والله ما هو دون نفسك. فأبت عليَّ، وذهبت ورجعت ثلاث مرات وقلت: لا والله ما هو دون نفسك. فأبت علّي وذهبت، وذكرت لزوجها، فقال لها: أعطيه نفسك وأغيثي عيالك. فرجعت إليّ ونشدتني بالله، فأبيت عليها وقلت: والله ما هو دون نفسك. فلّما رأت ذلك أسلمت إلىّ نفسها، فلّما تكشّفتها وهممت بها ارتعدت من تحتي، فقلت لها: ما شأنك؟ قالت: أخاف الله رب العالمين. فقلت لها: خفتِه في الشدّة ولم أخفه في الرخاء فتركتها وأعطيتها ما يحق علىّ بما تكشفتها. اللهمّ إن كنت فعلت ذلك لوجهك فافرج عنا. فانصدع حتى تعارفوا وتبيّن لهم وقال الآخر: قد عملت حسنة مرّة، كان لي أبوان شيخان كبيران، وكان لي غنم، فكنت أُطعم أبوىَّ وأسقيهما ثمّ أرجع إلى أهلي. قال: فأصابني يومًا غيث حبسني حتى أمسيت فأتيت أهلي فأخذت محلبي وحلبت غنمي وتركتها قائمة فمضيت إليهما، فوجدتهما ناما، فشقّ عليَّ أن أُوقضهما، وشقّ عليَّ أن أترك غنمي فما برحت جالسًا ومحلبي على يدي حتى أيقظهما الصبح فسقيتهما. اللهم إن فعلت ذلك لوجهك فافرج عنّا».
قال النعمان لكأني أسمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «قال الجبل طاق، ففرج الله عنهم وخرجوا».
وقال ابن عباس: الرقيم واد بين غطفان وأيلة، وهو الوادي الذي فيه أصحاب الكهف. وقال كعب هي قريتهم. وهو على هذا التأويل من رقمة الوادي وهو موضع الماء منه، تقول العرب: عليك بالرقمة، ودع الضّفة.
والضِّفتان: جانبا الوادي. وقال سعيد بن جبير: الرَّقيم لوح من حديد، وقيل: من رصاص، كتبوا فيه أسماء أصحاب الكهف وقصتهم، ثمّ وضعوه على باب الكهف. وهو على هذا التأويل بمعنى المرقوم، أي المكتوب. والرّقم: الخط والعلامة، والرقم: الكتابة.
ثمّ ذكر قصتهم فقال: {إِذْ أَوَى الفتية إِلَى الكهف}، أي رجعوا وصاروا. واختلفوا في مسيرهم إلى الكهف، فقال محمد بن إسحاق بن يسار: مرج أهل الإنجيل وعظمت فيهم الخطايا وطغت فيهم الملوك حتى عبدوا الأصنام وذبحوا للطواغيت، وفيهم بقايا على دين المسيح ابن مريم عليه السلام، متمسكين بعبادة الله عزّ وجّل وتوحيده. وكان ممّن فعل ذلك من ملوكهم ملك من الروم يُقال له دقيانوس كان قد عبد الأصنام وذبح للطواغيت وقتل من خالفه في ذلك ممّن أقام على دين المسيح. وكان ينزل بقرى الروم فلا يترك في قرية ينزلها أحدًا إلاّ فتنه حتى يعبد الأصنام، ويذبح للطواغيت، حتى نزل مدينة أصحاب الكهف وهي أفسوس، فلما نزلها كبر ذلك على أهل الإيمان فاستخفوا منه وهربوا في كل وجه. وكان دقيانوس قد أمر حين قدمها أن يتتبّع أهل الإيمان، فيجمعوا له، واتّخذ شرطًا من الكفار من أهلها، فجعلوا يتتبعون أهل الإيمان في مساكنهم فيخرجونهم إلى دقيانوس فيقدمهم إلى الجامع الذي يذبح فيه للطواغيت، فيخيرهم بين القتل وبين عبادة الأصنام والذبح للطواغيت، فمنهم من يرغب في الحياة ومنهم من يأبى أن يعبد غير الله فيُقتل.
فلما رأى ذلك أهل الشّدة في الإيمان بالله عز وجّل، جعلوا يسلمون أنفسهم للعذاب والقتل، فيُقتّلون ويقطّعون ثمّ يربط ما قُطع من أجسامهم على سور المدينة من نواحيها كلّها وعلى كلّ باب من أبوابها، حتّى عظمت الفتنة على أهل الإيمان فمنهم من أقّر فتُرك ومنهم مَن صَلُبَ على دينه فقتل.
فلما رأى الفتية ذلك حزنوا حزنًا شديدًا، فقاموا وصلّوا وصاموا واشتغلوا بالدعاء والتسبيح لله عز وجّل، وكانوا من أشراف الرّوم، وكانوا ثمانية نفر، فبكوا وتضرّعوا وجعلوا يقولون: {رَبُّنَا رَبُّ السماوات والأرض لَن نَّدْعُوَاْ مِن دُونِهِ إلها لَّقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا}، اكشف عن عبادك هذه الفتنة، وارفع عنهم البلاء، وأنعم على عبادك الذين آمنوا بك حتى يعلنوا عبادتك.
فبينا هم على ذلك إذ أدركهم الشرَط، وكانوا قد دخلوا في مصلّى لهم فوجدوهم سجودًا على وجوههم يبكون ويتضرّعون إلى الله عز وجّل ويسألونه أن ينجيهم من دقيانوس وفئته. فلما رآهم أُولئك الكفرة قالوا لهم: ما خلفكم عن أمر الملك؟ انطلقوا إليه. ثمّ خرجوا من عندهم فرفعوا أمرهم إلى دقيانوس، فقالوا: نجمع الجميع وهؤلاء الفتية من أهل بيتك يسخرون منك ويعصون أمرك؟ فلما سمع ذلك أُتي بهم تفيض أعينهم من الدّمع، معفّرة وجوههم في التراب، فقال لهم: ما منعكم أن تشهدوا لذبح الآلهة الّتي تعبد في الأرض، وأن تجعلوا أنفسكم كغيركم؟ اختاروا إمّا أن تذبحوا لآلهتنا كما ذبح النّاس وإما أن أقتلكم. فقال مكسلمينا وكان أكبرهم: إن لنا إلهًا ملأ السماوات والأرض عظمته، لن ندعو من دونه إلهًا أبدًا، ولن نقرّ بهذا الذي تدعونا إليه أبدًا، ولكنّا نعبد الله ربّنا، وله الحمد والتكبير والتّسبيح من أنفسنا خالصًا، إيّاه نعبد، وإيّاه نسأل النجاة والخير فأمّا الطواغيت وعبادتها، فلن نعبدها أبدًا، فاصنع بنا ما بدا لك. ثمّ قال أصحاب مكسلمينا لدقيانوس مثل ما قال له، فلما قالوا ذلك أمرهم فنُزع عنهم لبوس كان عليهم من لبوس عظمائهم، ثمّ قال: أمّا إذا فعلتم فإنّي أُؤخركم، وسأفرغ لكم فأُنجز لكم ما وعدتكم من العقوبة، وما يمنعني أن اعجل ذلك لكم إلاّ أني أراكم شبابًا، حديثة أسنانكم، ولا أُحب أن أُهلككم حتى أجعل لكم أجلًا تذكّرون فيه، وتراجعون عقولكم.