فصل: (سورة الكهف: الآيات 7- 11).

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.[سورة الكهف: الآيات 7- 11].

{إِنَّا جَعَلْنا ما عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَها لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا (7) وَإِنَّا لَجاعِلُونَ ما عَلَيْها صَعِيدًا جُرُزًا (8) أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كانُوا مِنْ آياتِنا عَجَبًا (9) إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقالُوا رَبَّنا آتِنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنا مِنْ أَمْرِنا رَشَدًا (10) فَضَرَبْنا عَلَى آذانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا (11)}.
{ما عَلَى الْأَرْضِ} يعني ما يصلح أن يكون زينة لها ولأهلها من زخارف الدنيا وما يستحسن منها {لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} وحسن العمل: الزهد فيها وترك الاغترار بها، ثم زهد في الميل إليها بقوله: {وَإِنَّا لَجاعِلُونَ ما عَلَيْها} من هذه الزينة {صَعِيدًا جُرُزًا} يعني مثل أرض بيضاء لا نبات فيها، بعد أن كانت خضراء معشبة، في إزالة بهجته، وإماطة حسنه، وإبطال ما به كان زينة: من إماتة الحيوان وتجفيف النبات والأشجار، ونحو ذلك ذكر من الآيات الكلية تزيين الأرض مما خلق فوقها من الأجناس التي لا حصر لها وإزالة ذلك كله كأن لم يكن، ثم قال: {أَمْ حَسِبْتَ} يعني أن ذلك أعظم من قصة أصحاب الكهف وإبقاء حياتهم مدّة طويلة. والكهف: الغار الواسع في الجبل {وَالرَّقِيمِ} اسم كلهم. قال أمية ابن أبى الصلت:
وليس بها إلّا الرّقيم مجاورا ** وصيدهم والقوم في الكهف همّد

وقيل: هو لوح من رصاص رقمت فيه أسماؤهم جعل على باب الكهف. وقيل: إن الناس رقموا حديثهم نقرا في الجبل. وقيل: هو الوادي الذي فيه الكهف. وقيل: الجبل. وقيل: قريتهم. وقيل: مكانهم بين غضبان وأيلة دون فلسطين كانُوا آية {عَجَبًا} من آياتنا وصفا بالمصدر، أو على: ذات عجب {مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً} أي رحمة من خزائن رحمتك، وهي المغفرة والرزق والأمن من الأعداء {وَهَيِّئْ لَنا مِنْ أَمْرِنا} الذي نحن عليه من مفارقة الكفار {رَشَدًا} حتى تكون بسببه راشدين مهتدين، أو اجعل أمرنا رشدا كله، كقولك: رأيت منك أسدا {فَضَرَبْنا عَلَى آذانِهِمْ} أي ضربنا عليها حجابا من أن تسمع، يعنى: أنمناهم إنامة ثقيلة لا تنبههم فيها الأصوات، كما ترى المستثقل في نومه يصاح به فلا يسمع ولا يستنبه، فحذف المفعول الذي هو الحجاب كما يقال: بنى على امرأته، يريدون: بنى عليها القبة {سِنِينَ عَدَدًا} ذوات عدد، فيحتمل أن يريد الكثرة وأن يريد القلة، لأن الكثير قليل عنده، كقوله: {لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا ساعَةً مِنْ نَهارٍ}. وقال الزجاج: إذا قل فهم مقدار عدده فلم يحتج أن يعدّ، وإذا كثر احتاج إلى أن يعد.

.[سورة الكهف: آية 12].

{ثُمَّ بَعَثْناهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصى لِما لَبِثُوا أَمَدًا (12)}.
{أَيُّ} يتضمن معنى الاستفهام، فعلق عنه {لِنَعْلَمَ} فلم يعمل فيه. وقرئ: {ليعلم}، وهو معلق عنه أيضا، لأن ارتفاعه بالابتداء لا بإسناد يعلم إليه، وفاعل يعلم مضمون الجملة، كما أنه مفعول نعلم {أَيُّ الْحِزْبَيْنِ} المختلفين منهم في مدّة لبثهم، لأنهم لما انتبهوا اختلفوا في ذلك، وذلك قوله: {قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قالُوا لَبِثْنا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما لَبِثْتُمْ} وكان الذين قالوا ربكم أعلم بما لبثتم: هم الذين علموا أن لبثهم قد تطاول. أو أي الحزبين المختلفين من غيرهم، وأَحْصى فعل ماض أي أيهم ضبط {أَمَدًا} لأوقات لبثهم.
فإن قلت: فما تقول فيمن جعله من أفعل التفضيل؟ قلت: ليس بالوجه السديد، وذلك أن بناءه من غير الثلاثي المجرّد ليس بقياس، ونحو أعدى من الجرب، وأفلس من ابن المذلق شاذ. والقياس على الشاذ في غير القرآن ممتنع، فكيف به؟ ولأن {أَمَدًا} لا يخلو: إما أن ينتصب بأفعل فأفعل لا يعمل. وإما أن ينصب بلبثوا، فلا يسدّ عليه المعنى. فإن زعمت أنى أنصبه بإضمار فعل يدل عليه أحصى، كما أضمر في قوله:
وأضرب منّا بالسّيوف القوانسا

على: نضرب القوانس، فقد أبعدت المتناول وهو قريب، حيث أبيت أن يكون أحصى فعلا، ثم رجعت مضطرا إلى تقديره وإضماره. فإن قلت: كيف جعل اللّه تعالى العلم بإحصائهم المدّة غرضا في الضرب على آذانهم؟ قلت: اللّه عز وجل لم يزل عالما بذلك، وإنما أراد ما تعلق به العلم من ظهور الأمر لهم، ليزدادوا إيمانا واعتبارا، ويكون لطفا لمؤمنى زمانهم، وآية بينة لكفارة.

.[سورة الكهف: الآيات 13- 15].

{نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْناهُمْ هُدىً (13) وَرَبَطْنا عَلى قُلُوبِهِمْ إِذْ قامُوا فَقالُوا رَبُّنا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَا مِنْ دُونِهِ إِلهًا لَقَدْ قُلْنا إِذًا شَطَطًا (14) هؤُلاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْلا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا (15)}.
{وَزِدْناهُمْ هُدىً} بالتوفيق والتثبيت {وَرَبَطْنا عَلى قُلُوبِهِمْ} وقويناها بالصبر على هجر الأوطان والنعيم، والفرار بالدين إلى بعض الغيران، وجسرناهم على القيام بكلمة الحق والتظاهر بالإسلام {إِذْ قامُوا} بين يدي الجبار وهو دقيانوس، من غير مبالاة به حين عاتبهم على ترك عبادة الصنم {فَقالُوا رَبُّنا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ}.. {شَطَطًا} قولا ذا شطط، وهو الإفراط في الظلم والإبعاد فيه، من شط: إذا بعد. ومنه: أشط. في السوم وفي غيره {هؤُلاءِ} مبتدأ، و{قَوْمُنَا} عطف بيان و{اتَّخَذُوا} خبر وهو إخبار في معنى إنكار {لَوْلا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ} هلا يأتون على عبادتهم، فحذف المضاف {بِسُلْطانٍ بَيِّنٍ} وهو تبكيت، لأنّ الإتيان بالسلطان على عبادة الأوثان محال، وهو دليل على فساد التقليد، وأنه لابد في الدين من الحجة حتى يصح ويثبت {افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا} بنسبة الشريك إليه.

.[سورة الكهف: آية 16].

{وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَما يَعْبُدُونَ إِلاَّ اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرفَقًا (16)}.
{وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ} خطاب من بعضهم لبعض، حين صممت عزيمتهم على الفرار بدينهم {وَما يَعْبُدُونَ} نصب، عطف على الضمير، يعنى: وإذ اعتزلتموهم واعتزلتم معبوديهم {إِلَّا اللَّهَ} يجوز أن يكون استثناء متصلا، على ما روى: أنهم كانوا يقرون بالخالق ويشركون معه كما أهل مكة. وأن يكون منقطعا. وقيل: هو كلام معترض إخبار من اللّه تعالى عن الفئة أنهم لم يعبدوا غير اللّه {مِرفَقًا} قرئ بفتح الميم وكسرها، وهو ما يرتفق به: أي ينتفع. إما أن يقولوا ذلك ثقة بفضل اللّه وقوّة في رجائهم لتوكلهم عليه ونصوع يقينهم. وإما أن يخبرهم به نبىّ في عصرهم، وإما أن يكون بعضهم نبيا.

.[سورة الكهف: آية 17].

{وَتَرَى الشَّمْسَ إِذا طَلَعَتْ تَتَزاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذاتَ الْيَمِينِ وَإِذا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذاتَ الشِّمالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ ذلِكَ مِنْ آياتِ اللَّهِ مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا (17)}.
{تَتَزاوَرُ} أي تمايل، أصله: تتزاور، فخفف بإدغام التاء في الزاى أو حذفها. وقد قرئ بهما. وقرئ: {تزور} و{تزوارّ} بوزن تحمرّ وتحمارّ، وكلها من الزور وهو الميل. ومنه زاره إذا مال إليه. والزور: الميل عن الصدق {ذاتَ الْيَمِينِ} جهة اليمين. وحقيقتها. الجهة المسماة باليمين {تَقْرِضُهُمْ} تقطعهم لا تقربهم من معنى القطيعة والصرم. قال ذو الرمة:
إلى ظعن يقرضن أقواز مشرف ** شمالا وعن أيمانهنّ الفوارس

{وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ} وهم في متسع من الكهف. والمعنى أنهم في ظل نهارهم كله لا تصيبهم الشمس في طلوعها ولا غروبها، مع أنهم في مكان واسع منفتح معرّض لإصابة الشمس لولا أنّ اللّه يحجبها عنهم. وقيل: في متفسح من غارهم ينالهم فيه روح الهواء وبرد النسيم ولا يحسبون كرب الغار {ذلِكَ مِنْ آياتِ اللَّهِ} أي ما صنعه اللّه بهم- من ازورار الشمس وقرضها طالعة وغاربة- آية من آياته، يعنى: أنّ ما كان في ذلك السمت تصيبه الشمس ولا تصيبهم، اختصاصا لهم بالكرامة. وقيل: باب الكهف شمالي مستقبل لبنات نعش، فهم في مقنأة أبدا. ومعنى {ذلِكَ مِنْ آياتِ اللَّهِ} أنّ شأنهم وحديثهم من آيات اللّه {مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ} ثناء عليهم بأنهم جاهدوا في اللّه وأسلموا له وجوههم، فلطف بهم وأعانهم، وأرشدهم إلى نيل تلك الكرامة السنية والاختصاص بالآية العظيمة، وأن كل من سلك طريقة المهتدين الراشدين فهو الذي أصاب الفلاح، واهتدى إلى السعادة، ومن تعرّض للخذلان، فلن يجد من يليه ويرشده بعد خذلان اللّه.

.[سورة الكهف: آية 18].

{وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقاظًا وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذاتَ الْيَمِينِ وَذاتَ الشِّمالِ وَكَلْبُهُمْ باسِطٌ ذِراعَيْهِ بِالْوَصِيدِ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا (18)}.
{وَتَحْسَبُهُمْ} بكسر السين وفتحها: خطاب لكل أحد. والأيقاظ: جمع يقظ، كأنكاد في نكد. قيل: عيونهم مفتحة وهم نيام، فيحسبهم الناظر لذلك أيقاظا. وقيل: لكثرة تقلبهم وقيل: لهم تقلبتان في السنة. وقيل: تقلبة واحدة في يوم عاشوراء. وقرئ: {ويقلبهم} بالياء والضمير للّه تعالى. وقرئ: {وتقلبهم}، على المصدر منصوبا، وانتصابه بفعل مضمر يدل عليه {وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقاظًا} كأنه قيل: وترى وتشاهد تقلبهم. وقرأ جعفر الصادق: {وكالبهم} أي وصاحب كلبهم {باسِطٌ ذِراعَيْهِ} حكاية حال ماضية، لأنّ اسم الفاعل لا يعمل إذا كان في معنى المضي، وإضافته إذا أضيف حقيقية معرفة، كغلام زيد، إلا إذا نويت حكاية الحال الماضية. والوصيد: الفناء، وقيل: العتبة. وقيل: الباب. وأنشد:
بأرض فضاء لا يسدّ وصيدها ** علىّ ومعروفى بها غير منكر

وقرئ: {ولملئت}، بتشديد اللام للمبالغة. وقرئ بتخفيف الهمزة وقلبها ياء. و{رُعْبًا} بالتخفيف والتثقيل، وهو الخوف الذي يرعب الصدر أي يملؤه، وذلك لما ألبسهم اللّه من الهيبة. وقيل: لطول أظفارهم وشعورهم وعظم أجرامهم. وقيل: لوحشة مكانهم.
وعن معاوية أنه غزا الروم فمرّ بالكهف فقال: لو كشف لنا عن هؤلاء فنظرنا إليهم، فقال له ابن عباس رضي اللّه عنه: ليس لك ذلك، قد منع اللّه تعالى منه من هو خير منك فقال: {لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرارًا} فقال معاوية، لا أنتهى حتى أعلم علمهم، فبعث ناسا وقال لهم: اذهبوا فانظروا، ففعلوا، فلما دخلوا الكهف بعث اللّه عليهم ريحا فأحرقتهم. وقرئ: {لو اطلعت}، بضم الواو.

.[سورة الكهف: الآيات 19- 20].

{وَكَذلِكَ بَعَثْناهُمْ لِيَتَسائَلُوا بَيْنَهُمْ قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قالُوا لَبِثْنا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّها أَزْكى طَعامًا فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا (19) إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا (20)}.
{وَكَذلِكَ بَعَثْناهُمْ} وكما أنمناهم تلك النومة كذلك بعثناهم، إذكارا بقدرته على الإنامة والبعث جميعا، ليسأل بعضهم بعضا ويعرفوا حالهم وما صنع اللّه بهم، فيعتبروا ويستدلوا على عظم قدرة اللّه تعالى ويزدادوا يقينا، ويشكروا ما أنعم اللّه به عليهم وكرموا به {قالُوا لَبِثْنا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ} جواب مبنى على غالب الظن. وفيه دليل على جواز الاجتهاد والقول بالظن الغالب، وأنه لا يكون كذبا وإن جاز أن يكون خطأ {قالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما لَبِثْتُمْ} إنكار عليهم من بعضهم، وأن اللّه أعلم بمدّة لبثهم، كأنّ هؤلاء قد علموا بالأدلة أو بإلهام من اللّه أنّ المدة متطاولة، وأنّ مقدارها مبهم لا يعلمه إلا اللّه. وروى أنهم دخلوا الكهف غدوة وكان انتباههم بعد الزوال، فظنوا أنهم في يومهم، فلما نظروا إلى طول أظفارهم وأشعارهم قالوا ذلك. فإن قلت: كيف وصلوا قولهم: {فَابْعَثُوا} بتذاكر حديث المدة؟ قلت: كأنهم قالوا: ربكم أعلم بذلك، لا طريق لكم إلى علمه، فخذوا في شيء آخر مما يهمكم. والورق: الفضة، مضروبة كانت أو غير مضروبة. ومنه الحديث أنّ عرفجة أصيب أنفه يوم الكلاب فاتخذ أنفا من ورق فأنتن، فأمره رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أن يتخذ أنفا من ذهب. وقرئ: {بورقكم}، بسكون الراء والواو مفتوحة أو مكسورة. وقرأ ابن كثير: {بورقكم}، بكسر الراء وإدغام القاف في الكاف.
وعن ابن محيصن أنه كسر الواو وأسكن الراء وأدغم، وهذا غير جائز لالتقاء الساكنين لا على حده. وقيل: المدينة طرسوس. قالوا: وتزوّدهم ما كان معهم من الورق عند فرارهم: دليل على أنّ حمل النفقة وما يصلح المسافر هو رأى المتوكلين على اللّه، دون المتكلين على الاتفاقات وعلى ما في أوعية القوم من النفقات.
ومنه قول عائشة رضي اللّه عنها- لمن سألها عن محرم يشدّ عليه هميانه-: أوثق عليك نفقتك.
وما حكى عن بعض صعاليك العلماء أنه كان شديد الحنين إلى أن يرزق حج بيت اللّه، وتعولم منه ذلك، فكانت مياسير أهل بلده كلما عزم منهم فوج على حج أتوه فبذلوا له أن يحجوا به وألحوا عليه، فيعتذر إليهم ويحمد إليهم بذلهم، فإذا انفضوا عنه قال لمن عنده: ما لهذا السفر إلا شيئان: شدّ الهميان، والتوكل على الرحمن أَيُّها أي أهلها، فحذف الأهل كما في قوله: {وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ}، {أَزْكى طَعامًا} أحلّ وأطيب وأكثر وأرخص {وَلْيَتَلَطَّفْ} وليتكلف اللطف والنيقة فيما يباشره من أمر المبايعة حتى لا يغبن. أو في أمر التخفي حتى لا يعرف {وَلا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا} يعنى: ولا يفعلنّ ما يؤدى من غير قصد منه إلى الشعور بنا، فسمى ذلك إشعارا منه بهم، لأنه سبب فيه الضمير في {إِنَّهُمْ} راجع إلى الأهل المقدر في {أَيُّها}. {يَرْجُمُوكُمْ} يقتلوكم أخبث القتلة وهي الرجم، وكانت عادتهم {أَوْ يُعِيدُوكُمْ} أو يدخلوكم {فِي مِلَّتِهِمْ} بالإكراه العنيف ويصيروكم إليها. والعود في معنى الصيرورة أكثر شيء في كلامهم، يقولون: ما عدت أفعل كذا. يريدون ابتداء الفعل {وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا} إن دخلتم في دينهم.