فصل: قال ابن جزي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



{إِنَّهُمْ إِن يَظْهَرُواْ عَلَيْكُمْ} أي يطلعوا عليكم أو يظفروا بكم، والضمير للأهل المقدر في {أَيُّهَا}. {يَرْجُمُوكُمْ} يقتلوكم بالرجم. {أَوْ يُعِيدُوكُمْ في مِلَّتِهِمْ} أو يصيروكم إليها كرهًا من العود بمعنى الصيرورة. وقيل كانوا أولًا على دينهم فآمنوا. {وَلَن تُفْلِحُواْ إِذًا أَبَدًا} إن دخلتم في ملتهم.
{وكذلك أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ} وكما أنمناهم وبعثناهم لتزداد بصيرتهم أطلعنا عليهم. {لِيَعْلَمُواْ} ليعلم الذين أطلعناهم على حالهم. {أَنَّ وَعْدَ الله} بالبعث أو الموعود الذي هو البعث. {حَقّ} لأن نومهم وانتباهم كحال من يموت ثم يبعث. {وَأَنَّ الساعة لاَ رَيْبَ فِيهَا} وأن القيامة لا ريب في إمكانها، فإن من توفى نفوسهم وأمسكها ثلاثمائة سنين حافظًا أبدانها عن التحلل والتفتت، ثم أرسلها إليها قدر أن يتوفى نفوس جميع الناس ممسكًا إياها إلى أن يحشر أبدانهم فيردها عليها. {إِذْ يتنازعون} ظرف لـ: {أَعْثَرْنَا} أي أعثرنا عليهم حين يتنازعون. {بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ} أمر دينهم، وكان بعضهم يقول تبعث الأرواح مجردة وبعضهم يقول يبعثان معًا ليرتفع الخلاف ويتبين أنهما يبعثان معًا، أو أمر الفتية حين أماتهم الله ثانيًا بالموت فقال بعضهم، ماتوا وقال آخرون ناموا نومهم أول مرة، أو قالت طائفة نبني عليهم بنيانًا يسكنه الناس ويتخذونه قربة، وقال آخرون لنتخذن عليهم مسجدًا يصلى فيه كما قال تعالى: {فَقَالُواْ ابنوا عَلَيْهِمْ بنيانا رَّبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قَالَ الذين غَلَبُواْ على أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَّسْجِدًا} وقوله: {رَّبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ} اعتراض إما من الله ردًا على الخائضين في أمرهم من أولئك المتنازعين أو من المتنازعين في زمانهم، أو من المتنازعين فيهم على عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، أو من المتنازعين للرد إلى الله بعد ما تذكروا أمرهم وتناقلوا الكلام في أنسابهم وأحوالهم فلم يتحقق لهم ذلك. حكي أن المبعوث لما دخل السوق وأخرج الدراهم وكان عليها اسم دقيانوس اتهموه بأنه وجد كنزًا فذهبوا به إلى الملك وكان نصرانيًا موحدًا فقص عليه القصص، فقال بعضهم: إن آباءنا أخبرونا أن فتية فروا بدينهم من دقيانوس فلعلهم هؤلاء، فانطلق الملك وأهل المدينة من مؤمن وكافر وأبصروهم وكلموهم، ثم قالت الفتية للملك نستودعك الله ونعيذك به من شر الجن والإِنس ثم ارجعوا إلى مضاجعهم فماتوا فدفنهم الملك في الكهف وبني عليهم مسجدًا. وقيل لما انتهوا إلى الكهف قال لهم الفتى مكانكم حتى أدخل أولًا لئلا يفزعوا، فدخل فعمي عليهم المدخل فبنوا ثم مسجدًا.
{سَيَقُولُونَ} أي الخائضون في قصتهم في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم من أهل الكتاب والمؤمنين. {ثلاثة رَّابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ} أي هم ثلاثة رجال يربعهم كلبهم بانضمامه إليهم. قيل هو قول اليهود وقيل هو قول السيد من نصارى نجران وكان يعقوبيًا. {وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ} قاله النصارى أو العاقب منهم وكان نسطوريًا. {رَجْمًا بالغيب} يرمون رميًا بالخبر الخفي الذي لا مطلع لهم عليه وإتيانًا به، أو ظنًا بالغيب من قولهم رجم بالظن إذا ظن وإنما لم يذكر بالسين اكتفاء بعطفه على ما هو فيه. {وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ} إنما قاله المسلمون بإخبار الرسول لهم عن جبريل عليهما الصلاة والسلام وإيماء الله تعالى إليه بأن أتبعه قوله: {قُل رَّبّى أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِم مَّا يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ قَلِيلٌ} وأتبع الأولين قوله رجمًا بالغيب وبأن أثبت العلم بهم لطائفة بعد ما حصر أقوال الطوائف في الثلاثة المذكورة، فإن عدم إيراد رابع في نحو هذا المحل دليل العدم مع أن الأصل ينفيه، ثم رد الأولين بأن أتبعهما قوله: {رَجْمًا بالغيب} ليتعين الثالث وبأن أدخل فيه الواو على الجملة الواقعة صفة للنكرة تشبيهًا لها بالواقعة حالًا من المعرفة، لتأكيد لصوق الصفة بالموصوف والدلالة على أن اتصافه بها أمر ثابت.
وعن علي رضي الله عنه هم سبعة وثامنهم كلبهم وأسماؤهم: يمليخا ومكشلينيا ومشلينيا هؤلاء أصحاب يمين الملك، ومرنوش ودبرنوش وشاذنوش أصحاب يساره وكان يستشيرهم، والسابع الراعي الذي وافقهم واسم كلبهم قطمير واسم مدينتهم أفسوس. وقيل الأقوال الثلاثة لأهل الكتاب والقليل منهم. {فَلاَ تُمَارِ فِيهِمْ إِلاَّ مِرَاءً ظاهرا} فلا تجادل في شأن الفتية إلاَّ جدالًا ظاهرًا غير متعمق فيه، وهو أن تقص عليهم ما في القرآن من غير تجهيل لهم والرد عليهم. {وَلاَ تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مّنْهُمْ أَحَدًا} ولا تسأل أحدًا منهم عن قصتهم سؤال مسترشد فإن فيما أوحي إليك لمندوحة من غيره، مع أنه لا علم لهم بها ولا سؤال متعنت تريد تفضيح المسؤول وتزييف ما عنده فإنه مخل بمكارم الأخلاق.
{وَلاَ تَقْولَنَّ لِشَىْء إِنّى فَاعِلٌ ذلك غَدًا إِلاَّ أَن يَشَاء الله} نهي تأديب من الله تعالى لنبيه حين قالت اليهود لقريش: سلوه عن الروح وأصحاب الكهف وذي القرنين، فسألوه فقال: «ائتوني غدًا أخبركم» ولم يستثن فأبطأ عليه الوحي بضعة عشر يومًا حتى شق عليه وكذبه قريش. والاستثناء من النهي أي ولا تقولن لأجل شيء تعزم عليه إني فاعله فيما يستقبل إلا ب {أَن يَشَاء الله} أي إلا ملتبسًا بمشيئته قائلًا إن شاء الله أو إلا وقت أن يشاء الله أن تقوله بمعنى أن يأذن لك فيه، ولا يجوز تعليقه بفاعل لأن استثناء اقتران المشيئة بالفعل غير سديد واستثناء اعتراضها دونه لا يناسب النهي {واذكر رَّبَّكَ} مشيئة ربك وقل إن شاء الله. كما روي أنه لما نزل قال عليه الصلاة والسلام: «إن شاء الله» {إِذَا نَسِيتَ} إذا فرط منك نسيان لذلك ثم تذكرته.
وعن ابن عباس ولو بعد سنة ما لم يحنث، ولذلك جوز تأخير الاستثناء عنه. وعامة الفقهاء على خلافه لأنه لو صح ذلك لم يتقرر إقرار ولا طلاق ولا عتاق ولم يعلم صدق ولا كذب، وليس في الآية والخبر أن الاستثناء المتدارك به من القول السابق بل هو من مقدر مدلول به عليه، ويجوز أن يكون المعنى واذكر ربك بالتسبيح والاستغفار إذا نسيت الاستثناء مبالغة في الحث عليه، أو اذكر ربك وعقابه إذا تركت بعض ما أمرك به ليبعثك على التدارك، أو اذكره إذا اعتراك النسيان ليذكرك المنسي. {وَقُلْ عسى أَن يَهْدِيَنِ رَبّى} يدلني. {لأَقْرَبَ مِنْ هذا رَشَدًا} لأقرب رشدًا وأظهر دلالة على أني نبي من نبأ أصحاب الكهف. وقد هداه لأعظم من ذلك كقصص الأنبياء المتباعدة عنه أيامهم، والإِخبار بالغيوب والحوادث النازلة في الأعصار المستقبلة إلى قيام الساعة، أو لأقرب رشدًا وأدنى خيرًا من المنسي.
{وَلَبِثُواْ في كَهْفِهِمْ ثَلاَثَ مِاْئَةٍ سِنِينَ وازدادوا تِسْعًا} يعني لبثهم فيه أحياء مضروبًا على آذانهم، وهو بيان لماأجمل قبل. وقيل إنه حكاية كلام أهل الكتاب فإنهم اختلفوا في مدة لبثهم كما اختلفوا في عدتهم فقال بعضهم ثلاثمائة وقال بعضهم ثلثمائة وتسع سنين. وقرأ حمزة والكسائي {ثَلاَثمائَة سنين} بالإِضافة على وضع الجمع موضع الواحد، ويحسنه ها هنا أن علامة الجمع فيه جبر لما حذف من الواحد وأن الأصل في العدد إضافته إلى الجمع ومن لم يضف أبدل السنين من ثلثمائة.
{قُلِ الله أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُواْ لَهُ غَيْبُ السموات والأرض} له ما غاب فيهما وخفي من أحوال أهلهما، فلا خلق يخفى عليه علمًا. {أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ} ذكر بصيغة التعجب للدلالة على أن أمره في الإِدراك خارج عما عليه إدراك السامعين والمبصرين، إذ لا يحجبه شيء ولا يتفاوت دونه لطيف وكثيف وصغير وكبير وخفي وجلي، والهاء تعود إلى الله ومحله الرفع على الفاعليه والباء مزيده عند سيبويه وكان أصله أبصر أي صار ذا بصر، ثم نقل إلى صيغة الأمر بمعنى الإنشاء، فبرز الضمير لعدم لياق الصيغة له أو لزيادة الباء كما في قوله تعالى: {وكفى بِهِ} والنصب على المفعولية عند الأخفش والفاعل ضمير المأمور وهو كل أحد والباء مزيدة إن كانت الهمزة للتعدية ومعدية إن كانت للصيرورة. {مَّا لَهُم} الضمير لأهل السموات والأرض. {مّن دُونِهِ مِن وَلِىّ} من يتولى أمورهم. {وَلاَ يُشْرِكُ في حُكْمِهِ} في قضائه. {أَحَدًا} منهم ولا بجعل له فيه مدخلًا. وقرأ ابن عامر وقالون عن يعقوب بالتاء والجزم على نهي كل أحد عن الإِشراك، ثم لما دل اشتمال القرآن على قصة أصحاب الكهف من حيث إنها من المغيبات بالإِضافة إلى رسول الله على أنه وحي معجز أمره أن يداوم درسه ويلازم أصحابه فقال: {واتل مَا أُوْحِىَ إِلَيْكَ مِن كتاب رَبّكَ} من القرآن، ولا تسمع لقولهم {ائت بِقُرْءانٍ غَيْرِ هذا أَوْ بَدّلْهُ}. {لاَ مُبَدّلَ لكلماته} لا أحد يقدر على تبديلها وتغييرها غيره. {وَلَن تَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَدًا} ملتجأ عليه إن هممت به.
{واصبر نَفْسَكَ} واحبسها وثبتها. {مَعَ الذين يَدْعُونَ رَبَّهُم بالغداة والعشى} في مجامع أوقاتهم، أو في طرفي النهار. وقرأ ابن عامر {بالغدوة} وفيه أن غدوة علم في الأكثر فتكون اللام فيه على تأويل التنكير. {يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} رضا الله وطاعته. {وَلاَ تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ} ولا يجاوزهم نظرك إلى غيرهم، وتعديته بعن لتضمينه معنى نبأ. وقرئ: {ولا تعد عينيك} {وَلاَ تَعْدُ} من أعداه وعداه. والمراد نهي الرسول صلى الله عليه وسلم أن يزدري بفقراء المؤمنين وتعلو عينه عن رثاثة زيهم طموحًا إلى طراوة زي الأغنياء. {تُرِيدُ زِينَةَ الحياة الدنيا} حال من الكاف في المشهورة ومن المستكن في الفعل في غيرها. {وَلاَ تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ} من جعلنا قلبه غافلًا. {عَن ذِكْرِنَا} كأمية بن خلف في دعائك إلى طرد الفقراء عن مجلسك لصناديد قريش. وفيه تنبيه على أن الداعي له إلى هذا الاستدعاء غفلة قلبه عن المعقولات وانهماكه في المحسوسات، حتى خفي عليه أن الشرف بحلية النفس لا بزينة الجسد، وأنه لو أطاعه كان مثله في الغباوة. والمعتزلة لما غاظهم إسناد الإِغفال إلى الله تعالى قالوا: إنه مثل أجبنته إذا وجدته كذلك أو نسبته إليه، أو من أغفل إبله إذا تركها بغير سمة أي لم نسمه بذكرنا كقلوب الذين كتبنا في قلوبهم الإِيمان، واحتجوا على أن المراد ليس ظاهر ما ذكر أولًا بقوله: {واتبع هَوَاهُ} وجوابه ما مر غير مرة. وقرئ: {أَغْفَلْنَا} بإسناد الفعل إلى القلب على معنى حسبنا قلبه غافلين عن ذكرنا إياه بالمؤاخذة. {وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا} أي تقدمًا على الحق ونبذًا له وراء ظهره يقال: فرس فرط أي متقدم للخيل ومنه الفرط.
{وَقُلِ الحق مِن رَّبّكُمْ} الحق ما يكون من جهة الله لا ما يقتضيه الهوى، ويجوز أن يكون الخبر خبر مبتدأ محذوف و{مّن رَّبّكُمْ} حالًا. {فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ} لا أبالي بإيمان من آمن ولا كفر من كفر، وهو لا يقتضي استقلال العبد بفعله فإنه وإن كان بمشيئته فمشيئته ليست بمشيئته. {إِنَّا أَعْتَدْنَا} هيأنا. {لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا} فسطاطها، شبه به ما يحيط بهم من النار. وقيل السرادق الحجرة التي تكون حول الفسطاط. وقيل سرادقها دخانها وقيل حائط من نار {وَإِن يَسْتَغِيثُواْ} من العطش. {يُغَاثُواْ بِمَاء كالمهل} كالجسد المذاب. وقيل كدرديّ الزيت وهو على طريقة قوله: فأعتبوا بالصيلم. {يَشْوِى الوجوه} إذا قدم ليشرب من فرط حرارته، وهو صفة ثانية لماء أو حال من المهل أو الضمير في الكاف. {بِئْسَ الشراب} المهل. {وَسَاءتْ} النار. {مُرْتَفَقًا} متكأ وأصل الارتفاق نصب المرفق تحت الخد، وهو لمقابلة قوله وحسنت مرتفقًا وإلا فلا ارتفاق لأهل النار.
{إِنَّ الذين ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا} خبر إن الأولى وهي الثانية بما في حيزها، والراجع محذوف تقديره من أحسن عملًا منهم أو مستغنى عنه بعموم من أحسن عملًا كما هو مستغنى عنه في قولك: نعم الرجل زيد، أو واقع موقعه الظاهر فإن من أحسن عملًا لا يحسن اطلاقه على الحقيقة إلا على الذين آمنوا وعملوا الصالحات.
{أُوْلَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهِمُ الأنهار} وما بينهما اعتراض وعلى الأول استئناف لبيان الأجر أو خبر ثان. {يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ} من الأولى للابتداء والثانية للبيان صفة لـ: {أَسَاوِرَ}، وتنكيره لتعظيم حسنها من الإِحاطة به وهو جمع أسورة أو أسوار في جمع سوار. {وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا} لأن الخضرة أحسن الألوان وأكثرها طراوة. {مِن سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ} مما رقّ من الديباج وما غلظ منه جمع بين النوعين للدلالة على أن فيها ما تشتهي الأنفس وتلذ الأعين. {مُّتَّكِئِينَ فِيهَا على الأرائك} على السرر كما هو هيئة المتنعمين. {نِعْمَ الثواب} الجنة ونعيمها. {وَحَسُنَتْ} الأَرَائك {مُرْتَفَقتً} متكأ. اهـ.

.قال ابن جزي:

{الحمد لِلَّهِ الذي أَنْزَلَ على عَبْدِهِ الكتاب}.
العبد هنا هو النبي صلى الله عليه وسلم، ووصفه بالعبودية تشريفًا له، وإعلامًا باختصاصه وقربه، والكتاب القرآن {وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجَا} العوج بكسر العين في المعاني التي لا تحسن، وبالفتح في الأشخاص كالعصا ونحوها، ومعناه عدم الاستقامة، وقيل فيه هنا: معناه لا تناقض فيه ولا خلل، وقيل: لم يجعله مخلوقًا، واللفظ أعم من ذلك {قَيِّمًا} أي مستقيمًا، وقيل قيمًا على الخلق بأمر الله تعالى، وقيل، قيمًا على سائر الكتب بتصديقها، وانتصابه على الحال من الكتاب، والعامل فيه أنزل، ومنع الزمخشري ذلك للفصل بين الحال وذي الحال، واختار أن العامل فيه فعل مضمر تقديره جعله قيمًا {لِّيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا} متعلق بأنزل أو بقيمًا، والفاعل به ضمير الكتاب أو النبي صلى الله عليه وسلم، والبأس العذاب، وحذف المفعول الثاني وهو الناس، كما حذف المفعول الآخر من قوله: وينذر الذين لدلالة المعنى على المحذوف {مِّن لَّدُنْهُ} أي من عنده، والضمير عائد على الله تعالى {أَجْرًا حَسَنًا} يعني الجنة {ماكثين فِيهِ} أي دائمين، وانتصابه على الحال من الضمير في لهم {وَيُنْذِرَ الذين قَالُواْ اتخذ الله وَلَدًا} هم النصارى لقولهم في عيسى، واليهود لقولهم في عزير، وبعض العرب لقولهم في الملائكة {مَّا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ} الضمير عائد على قولهم، أو على الولد.
{كَبُرَتْ كَلِمَةً} انتصب على التمييزعلى الحال ويعني بالكلمة قولهم اتخذ الله ولدًا: وعلى هذا يعود الضمير في كبرت.
{فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ} أي قاتلها بالحزن والأسف، والمعنى تسلية النبي صلى الله عليه وسلم عن عدم إيمانهم {على آثَارِهِمْ} استعارة فصيحة: كأنهم من فرط إدبارهم قد بعدوا فهو يتبع آثارهم تأسفًا عليهم، وانتصب أسفًا على أنه مفعول من أجله، والعامل فيه باخع نفسك.
{إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأرض زِينَةً لَّهَا} يعني ما يصلح للتزين كالملابس والمطاعم، الأشجار والأنهار وغير ذلك {لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُم أَحْسَنُ عَمَلًا} أي لنختبرهم أيهم أزهد في زينة الدنيا {وَإِنَّا لجاعلون مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا} المعنى إخبار بفناء الدنيا وزينتها، والصعيد هو التراب، والجرز: الأرض التي لا نبات فيها: أي سيفنى ما على الأرض من الزينة وتبقى كالأرض التي لا نبات فيها، بعد أن كانت خضراء بهجة.
{أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أصحاب الكهف والرقيم كَانُواْ مِنْ آياتنا عَجَبًا} أم هنا استفهام، والمعنى أحسبت أنهم عجب، بل سائر آياتنا أعظم منها وأعجب، والكهف الغار الواسع، والرقيم: اسم كلبهم، وقيل: هو لوح رقمت فيه أسماؤهم على باب الكهف، وقيل كتاب فيهم شرعهم ودينهم، وقيل هو القرية التي كانت بإزاء الكهف، وقيل: الجبل الذي فيه الكهف، وقال ابن عباس: لا أدري ما الرقيم.