فصل: من فوائد ابن العربي في الآيات السابقة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وَقَدْ اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ بَعْدَ اتِّفَاقِهِمْ عَلَى صِحَّةِ الِاسْتِثْنَاءِ فِي الْوَقْتِ الَّذِي يَصِحُّ فِيهِ الِاسْتِثْنَاءُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَنْحَاءٍ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَأَبُو الْعَالِيَةِ: إذَا اسْتَثْنَى بَعْدَ سَنَةٍ صَحَّ اسْتِثْنَاؤُهُ.
وَقَالَ الْحَسَنُ وَطَاوُسٌ: يَجُوزُ الِاسْتِثْنَاءُ مَا دَامَ فِي الْمَجْلِسِ.
وَقَالَ إبْرَاهِيمُ وَعَطَاءٌ وَالشَّعْبِيُّ: لَا يَصِحُّ الِاسْتِثْنَاءُ إلَّا مَوْصُولًا بِالْكَلَامِ.
وَرُوِيَ عَنْ إبْرَاهِيمَ فِي الرَّجُلِ يَحْلِفُ وَيَسْتَثْنِي فِي نَفْسِهِ قَالَ: لَا حَتَّى يَجْهَرَ بِالِاسْتِثْنَاءِ كَمَا جَهَرَ بِيَمِينِهِ، وَهَذَا مَحْمُولٌ عِنْدَنَا عَلَى أَنَّهُ لَا يُصَدَّقُ فِي الْقَضَاءِ إذَا ادَّعَى أَنَّهُ كَانَ اسْتَثْنَى وَلَمْ يُسْمَعْ مِنْهُ وَقَدْ سُمِعَ مِنْهُ الْيَمِينُ.
وَقَالَ أَصْحَابُنَا وَسَائِرُ الْفُقَهَاءِ: لَا يَصِحُّ الِاسْتِثْنَاءُ إلَّا مَوْصُولًا بِالْكَلَامِ وَذَلِكَ لِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ بِمَنْزِلَةِ الشَّرْطِ وَالشَّرْطُ لَا يَصِحُّ وَلَا يَثْبُتُ حُكْمُهُ إلَّا مَوْصُولًا بِالْكَلَامِ مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ، مِثْلُ قَوْلِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَلَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ ثُمَّ قَالَ: إنْ دَخَلْت الدَّارَ بَعْدَ مَا سَكَتَ، لَمْ يُوجِبْ ذَلِكَ تَعَلُّقَ الطَّلَاقِ بِالدُّخُولِ، وَلَوْ جَازَ هَذَا لَجَازَ أَنْ يَقُولَ لِامْرَأَتِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا، ثُمَّ يَقُولَ بَعْدَ سَنَةٍ: إنْ شَاءَ اللَّهُ، فَيَبْطُلُ الطَّلَاقُ وَلَا تَحْتَاجُ إلَى زَوْجٍ ثَانٍ فِي إبَاحَتِهَا لِلْأَوَّلِ، وَفِي تَحْرِيمِ اللَّهِ تَعَالَى إيَّاهَا عَلَيْهِ بِالطَّلَاقِ الثَّلَاثِ إلَّا بَعْدَ زَوْجٍ دَلَالَةٌ عَلَى بُطْلَانِ الِاسْتِثْنَاءِ بَعْدَ السُّكُوتِ، وَلَمَّا صَحَّ ذَلِكَ فِي الْإِيقَاعِ فِي أَنَّهُ لَا يَصِحُّ الِاسْتِثْنَاءُ إلَّا مَوْصُولًا بِالْكَلَامِ كَانَ كَذَلِكَ حُكْمُ الْيَمِينِ.
وَأَيْضًا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي شَأْنِ أَيُّوبَ حِينَ حَلِفَ عَلَى امْرَأَتِهِ أَنَّهُ إنْ بَرَأَ ضَرَبَهَا، فَأَمَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنْ يَأْخُذَ بِيَدِهِ ضِغْثًا وَيَضْرِبَ بِهِ وَلَا يَحْنَثُ، وَلَوْ صَحَّ الِاسْتِثْنَاءُ مُتَرَاخِيًا عَنْ الْيَمِينِ لَأَمَرَهُ بِالِاسْتِثْنَاءِ فَيَسْتَغْنِي بِهِ عَنْ ضَرْبِهَا بِالضِّغْثِ وَغَيْرِهِ.
وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ فَرَأَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا فَلْيَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ وَلْيُكَفِّرْ عَنْ يَمِينِهِ»، وَلَوْ جَازَ الِاسْتِثْنَاءُ مُتَرَاخِيًا عَنْ الْيَمِينِ لَأَمَرَهُ بِالِاسْتِثْنَاءِ وَاسْتَغْنَى عَنْ الْكَفَّارَةِ.
وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إنِّي إنْ شَاءَ اللَّهُ لَا أَحْلِفُ عَلَى يَمِينٍ فَأَرَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا إلَّا أَتَيْتُ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ وَكَفَّرْتُ عَنْ يَمِينِي»، وَلَمْ يَقُلْ إلَّا قُلْتُ إنْ شَاءَ اللَّهُ.
فَإِنْ قِيلَ: رَوَى قَيْسٌ عَنْ سِمَاكٍ عَنْ عِكْرِمَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «وَاَللَّهِ لَأَغْزُوَنَّ قُرَيْشًا وَاَللَّهِ لَأَغْزُوَنَّ قُرَيْشًا ثُمَّ سَكَتَ سَاعَةً فَقَالَ: إنْ شَاءَ اللَّهُ» فَقَدْ اسْتَثْنَى بَعْدَ السُّكُوتِ.
قِيلَ لَهُ رَوَاهُ شَرِيكٌ عَنْ سِمَاكٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «وَاَللَّهِ لَأَغْزُوَنَّ قُرَيْشًا ثَلَاثًا، ثُمَّ قَالَ فِي آخِرِهِنَّ: إنْ شَاءَ اللَّهُ» فأخبر أَنَّهُ اسْتَثْنَى فِي آخِرِهِنَّ، وَذَلِكَ يَقْتَضِي اتِّصَالَهُ بِالْيَمِينِ، وَهُوَ أَوْلَى لِمَا ذَكَرْنَا.
وَفِي هَذَا الْخَبَرِ دَلَالَةٌ أَيْضًا عَلَى أَنَّهُ إذَا حَلَفَ بِأَيْمَانٍ كَثِيرَةٍ ثُمَّ اسْتَثْنَى فِي آخِرِهِنَّ كَانَ الِاسْتِثْنَاءُ رَاجِعًا إلَى الْجَمِيعِ.
وَاحْتَجَّ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمَنْ تَابَعَهُ فِي إجَازَةِ الِاسْتِثْنَاءِ مُتَرَاخِيًا عَنْ الْيَمِينِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا إلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إذَا نَسِيتَ} فَتَأَوَّلُوا قَوْلَهُ: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ إذَا نَسِيتَ} عَلَى الِاسْتِثْنَاءِ، وَهَذَا غَيْرُ وَاجِبٍ؛ لِأَنَّ قَوْله تَعَالَى: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ إذَا نَسِيتَ} يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ كَلَامًا مُبْتَدَأً مُسْتَقِلًّا بِنَفْسِهِ مِنْ غَيْرِ تَضْمِينٍ لَهُ بِمَا قَبْلَهُ، وَغَيْرُ جَائِزٍ فِيمَا كَانَ هَذَا سَبِيلَهُ تَضْمِينُهُ بِغَيْرِهِ.
وَقَدْ رَوَى ثَابِتٌ عَنْ عِكْرِمَةَ فِي قَوْله تَعَالَى: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ إذَا نَسِيتَ} قَالَ: إذَا غَضِبْتَ فَثَبَتَ بِذَلِكَ أَنَّهُ إنَّمَا أَرَادَ الْأَمْرَ بِذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى وَأَنْ يَفْزَعَ إلَيْهِ عِنْدَ السَّهْوِ وَالْغَفْلَةِ، وَقَدْ رُوِيَ فِي التَّفْسِيرِ أَنَّ قَوْله تَعَالَى: {وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا إلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ}: إنَّمَا نَزَلَ فِيمَا سَأَلَتْ قُرَيْشٌ عَنْ قِصَّةِ أَصْحَابِ الْكَهْفِ وَذِي الْقَرْنَيْنِ، فَقَالَ: «سَأُخْبِرُكُمْ» فَأَبْطَأَ عَنْهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ أَيَّامًا، ثُمَّ أَتَاهُ يُخْبِرُهُمْ، وَأَمَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى بَعْدَ ذَلِكَ بِأَنْ لَا يُطْلِقَ الْقَوْلَ عَلَى فِعْلٍ يَفْعَلُهُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ إلَّا مَقْرُونًا بِذِكْرِ مَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى.
وَفِي نَحْوِ ذَلِكَ مَا رَوَى هِشَامُ بْنُ حَسَّانَ عَنْ ابْنِ سِيرِينَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «قَالَ سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُد: وَاَللَّهِ لَأَطُوفَنَّ اللَّيْلَةَ عَلَى مِائَةِ امْرَأَةٍ فَتَلِدُ كُلُّ امْرَأَةٍ مِنْهُنَّ غُلَامًا يَضْرِبُ بِالسَّيْفِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَلَمْ يَقُلْ إنْ شَاءَ اللَّهُ، فَلَمْ تَلِدْ مِنْهُنَّ إلَّا وَاحِدَةٌ وَلَدَتْ نِصْفَ إنْسَانٍ».
قَوْله تَعَالَى: {وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلَاثَمِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا} رُوِيَ عَنْ قَتَادَةَ أَنَّ هَذَا حِكَايَةٌ عَنْ قَوْلِ الْيَهُودِ؛ لِأَنَّهُ قَالَ: {قُلْ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا} وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَالضَّحَّاكُ وَعُبَيْدُ بْنُ عُمَيْرٍ: إنَّهُ إخْبَارٌ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى بِأَنَّ هَذَا كَانَتْ مُدَّةَ لُبْثِهِمْ، ثُمَّ قَالَ لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قُلْ إنْ حَاجَّكَ أَهْلُ الْكِتَابِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا.
وَقِيلَ فِيهِ: اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا إلَى الْوَقْتِ الَّذِي نَزَلَ فِيهِ الْقُرْآنُ بِهَذَا.
وَقِيلَ: قُلْ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا إلَى أَنْ مَاتُوا.
فَأَمَّا قَوْلُ قَتَادَةَ فَلَيْسَ بِظَاهِرٍ؛ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ صَرْفُ أَخْبَارِ اللَّهِ إلَى أَنَّهُ حِكَايَةٌ عَنْ غَيْرِهِ إلَّا بِدَلِيلٍ، وَلِأَنَّهُ يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ بَيَانُ مُدَّةِ لَبْثِهِمْ غَيْرَ مَذْكُورٍ فِي الْكِتَابِ، مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَرَادَ مِنَّا الِاعْتِبَارَ وَالِاسْتِدْلَالَ بِهِ عَلَى عَجِيبِ قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَنَفَاذِ مَشِيئَتِهِ. اهـ.

.من فوائد ابن العربي في الآيات السابقة:

قال رحمه الله:
سُورَةُ الْكَهْفِ فِيهَا عِشْرُونَ آيَةً الْآيَةُ الْأُولَى:
قَوْله تَعَالَى: {إنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا}.
قَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي قَوْلِهِ: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنْ الرِّزْقِ} فَلَا مَعْنَى لِإِعَادَتِهِ.
الْآيَةُ الثَّانِيَةُ قَوْله تَعَالَى: {وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلَا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا إنَّهُمْ إنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إذًا أَبَدًا} فِيهَا أَرْبَعُ مَسَائِلَ:
المسألة الأولى:
قَوْله تَعَالَى: {فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إلَى الْمَدِينَةِ} هَذَا يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ الْوَكَالَةِ، وَهُوَ عَقْدُ نِيَابَةٍ أَذِنَ اللَّهُ فِيهِ لِلْحَاجَةِ إلَيْهِ، وَقِيَامِ الْمَصْلَحَةِ بِهِ، إذْ يَعْجَزُ كُلُّ أَحَدٍ عَنْ تَنَاوُلِ أُمُورِهِ إلَّا بِمَعُونَةٍ مِنْ غَيْرِهِ، أَوْ يَتَرَفَّهُ فَيَسْتَنِيبُ مَنْ يُرِيحُهُ، حَتَّى جَازَ ذَلِكَ فِي الْعِبَادَاتِ؛ لُطْفًا مِنْهُ سُبْحَانَهُ، وَرِفْقًا بِضَعَفَةِ الْخَلِيقَةِ، ذَكَرَهَا اللَّهُ كَمَا تَرَوْنَ، وَبَيَّنَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا تَسْمَعُونَ، وَهُوَ أَقْوَى آيَةٍ فِي الْغَرَضِ.
وَقَدْ تَعَلَّقَ بَعْضُ عُلَمَائِنَا فِي صِحَّةِ الْوَكَالَةِ مِنْ الْقُرْآنِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا} وَبِقَوْلِهِ: {اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هَذَا فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيرًا}.
وَآيَةُ الْقَمِيصِ ضَعِيفَةٌ، وَآيَةُ الْعَامِلِينَ حَسَنَةٌ.
وَقَدْ رَوَى جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: «أَرَدْت الْخُرُوجَ إلَى خَيْبَرَ، فَأَتَيْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقُلْت لَهُ: إنِّي أُرِيدُ الْخُرُوجَ إلَى خَيْبَرَ، فَقَالَ: ائْتِ وَكِيلِي، فَخُذْ مِنْهُ خَمْسَةَ عَشَرَ وَسْقًا، فَإِنْ ابْتَغَى مِنْك آيَةً فَضَعْ يَدَك عَلَى تَرْقُوَتِهِ».
وَقَدْ وَكَّلَ عُمَرَ بْنَ أُمَيَّةَ الضَّمْرِيَّ عَلَى عَقْدِ نِكَاحِ أُمِّ حَبِيبَةَ بِنْتِ أَبِي سُفْيَانَ عِنْدَ النَّجَاشِيِّ، وَوَكَّلَ أَبَا رَافِعٍ عَلَى نِكَاحِ مَيْمُونَةَ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ، وَوَكَّلَ حَكِيمَ بْنُ حِزَامٍ عَلَى شِرَاءِ شَاةٍ، وَالْوَكَالَةُ جَائِزَةٌ فِي كُلِّ حَقٍّ تَجُوزُ النِّيَابَةُ فِيهِ؛ وَقَدْ مَهَّدْنَا ذَلِكَ فِي كُتُبِ الْمَسَائِلِ، تَحْرِيرُهُ فِي خَمْسَةٍ وَعِشْرِينَ مِثَالًا: الْأَوَّلُ: الطَّهَارَةُ: وَهِيَ عِبَادَةٌ تَجُوزُ النِّيَابَةُ فِيهَا فِي صَبِّ الْمَاءِ خَاصَّةً عَلَى أَعْضَاءِ الْوُضُوءِ، وَلَا تَجُوزُ عَلَى عَرْكِهَا، إلَّا أَنْ يَكُونَ الْمُتَوَضِّئُ مَرِيضًا لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ.
الثَّانِي: النَّجَاسَةُ.
الثَّالِثُ: الصَّلَاةُ: وَلَا تَجُوزُ النِّيَابَةُ فِيهَا بِحَالٍ بِإِجْمَاعٍ مِنْ الْأُمَّةِ، وَإِنَّمَا يُؤَدِّيهَا الْمُكَلَّفُ، وَلَوْ بِأَشْفَارِ عَيْنَيْهِ إشَارَةً، إلَّا فِي رَكْعَتَيْ الطَّوَافِ.
الرَّابِعُ: الزَّكَاةُ: وَتَجُوزُ النِّيَابَةُ فِي أَخْذِهَا وَإِعْطَائِهَا.
الْخَامِسُ: الصِّيَامُ: وَلَا تَجُوزُ النِّيَابَةُ فِيهِ بِحَالٍ، إلَّا عِنْدَ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ وَجُمْلَةٍ مِنْ السَّلَفِ الْأَوَّلِ، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ.
السَّادِسُ الِاعْتِكَافُ وَهُوَ مِثْلُهُ.
السَّابِعُ: الْحَجُّ.
الثَّامِنُ: الْبَيْعُ: وَهِيَ الْمُعَاوَضَةُ وَأَنْوَاعُهَا.
التَّاسِعُ: الرَّهْنُ.
الْعَاشِرُ: الْحَجْرُ: يَصِحُّ أَنْ يُوَكِّلَ الْحَاكِمُ مَنْ يَحْجُرُ وَيُنَفِّذُ سَائِرَ الْأَحْكَامِ عَنْهُ، وَكَذَلِكَ الْحَوَالَةُ، وَالضَّمَانُ، وَالشَّرِكَةُ، وَالْإِقْرَارُ، وَالصُّلْحُ، وَالْعَارِيَّةُ؛ فَهَذِهِ سِتَّةَ عَشَرَ مِثَالًا.
وَأَمَّا الْغَصْبُ: فَإِنْ وَكَّلَ فِيهِ كَانَ الْغَاصِبُ الْوَكِيلَ دُونَ الْمُوَكِّلِ؛ لِأَنَّ كُلَّ مُحَرَّمٍ فِعْلُهُ لَا تَجُوزُ النِّيَابَةُ فِيهِ، وَيَتْبَعُ ذَلِكَ الشُّفْعَةُ، وَالْقَرْضُ، وَلَا يَصِحُّ التَّوْكِيلُ فِي اللُّقَطَةِ.
وَأَمَّا قَسْمُ الْفَيْءِ وَالْغَنِيمَةِ فَتَصِحُّ النِّيَابَةُ فِيهِ.
وَالنِّكَاحُ وَأَحْكَامُهُ تَصِحُّ النِّيَابَةُ فِيهِ، كَالطَّلَاقِ.
وَالْإِيلَاءُ يَمِينٌ لَا وَكَالَةَ فِيهِ.
وَأَمَّا اللِّعَانُ: فَلَا تَصِحُّ الْوَكَالَةُ فِيهِ بِحَالٍ.
وَأَمَّا الظِّهَارُ: فَلَا تَصِحُّ النِّيَابَةُ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ مُنْكَرٌ مِنْ الْقَوْلِ وَزُورٌ، وَلَا يَجُوزُ فِعْلُهُ.
وَالْخِيَانَاتُ: لَا يَصِحُّ التَّوْكِيلُ فِيهَا لِهَذِهِ الْعِلَّةِ مِنْ أَنَّهَا بَاطِلٌ وَظُلْمٌ، وَيَجُوزُ التَّوْكِيلُ عَلَى طَلَبِ الْقِصَاصِ وَاسْتِيفَائِهِ، وَكَذَلِكَ فِي الدِّيَةِ، وَلَا وَكَالَةَ فِي الْقَسَامَةِ؛ لِأَنَّهَا أَيْمَانٌ.
وَيَصِحُّ التَّوْكِيلُ فِي الزَّكَاةِ، وَفِي الْعِتْقِ وَتَوَابِعِهِ إلَّا فِي الِاسْتِيلَادِ؛ فَهَذِهِ خَمْسَةٌ وَعِشْرُونَ مِثَالًا، تَكُونُ دُسْتُورًا لِغَيْرِهَا، وَإِنْ كَانَ لَمْ يَبْقَ بَعْدَهَا إلَّا يَسِيرُ فَرْعٍ لَهَا.
المسألة الثانية:
قَالَ عُلَمَاؤُنَا: فِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ الِاجْتِمَاعِ عَلَى الطَّعَامِ الْمُشْتَرَكِ وَأَكْلِهِ عَلَى الْإِشَاعَةِ.
وَلَيْسَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى مَا قَالُوهُ؛ لِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ قَدْ أَعْطَاهُ وَرِقَهُ مُفْرَدًا، فَلَا يَكُونُ فِيهِ اشْتِرَاكٌ، وَلَا مُعَوِّلَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ إلَّا عَلَى حَدِيثَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ ابْنَ عُمَرَ مَرَّ بِقَوْمٍ يَأْكُلُونَ تَمْرًا، فَقَالَ: نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الْإِقْرَانِ إلَّا أَنْ يَسْتَأْذِنَ الرَّجُلُ أَخَاهُ.
الثَّانِي: حَدِيثُ أَبِي عُبَيْدَةَ فِي جَيْشِ الْخَبَطِ وَأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَهُمْ وَفَقَدُوا الزَّادَ، فَأَمَرَ أَبُو عُبَيْدَةَ بِأَزْوَادِ ذَلِكَ الْجَيْشِ، فَجُمِعَتْ، فَكَانَ يَقُوتُنَا كُلَّ يَوْمٍ قَلِيلًا.
وَهَذَا دُونَ الْأَوَّلِ فِي الظُّهُورِ؛ لِأَنَّهُ كَانَ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ أَبُو عُبَيْدَةَ كَانَ يُعْطِيهِمْ كَفَافًا مِنْ ذَلِكَ الْقُوتِ، وَلَا يَجْمَعُهُمْ عَلَيْهِ.
وَقَدْ بَيَّنَّا أَحَادِيثَ ذَلِكَ وَمَسَائِلَهُ فِي شَرْحِ الصَّحِيحِ.
المسألة الثالثة:
فِي هَذِهِ الْآيَةِ نُكْتَةٌ وَهِيَ أَنَّ الْوَكَالَةَ فِيهَا إنَّمَا كَانَتْ مَعَ التَّقِيَّةِ وَخَوْفِ أَنْ يَشْعُرَ بِهِمْ أَحَدٌ لَمَّا كَانُوا يَخَافُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ مِنْهُمْ، وَجَوَازُ تَوْكِيلِ ذِي الْعُذْرِ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، فَأَمَّا مَنْ لَا عُذْرَ لَهُ فَأَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ عَلَى جَوَازِ تَوْكِيلِهِ.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يَجُوزُ.
وَكَانَ سَحْنُونٌ قَدْ تَلَقَّفَهُ عَنْ أَسَدِ بْنِ الْفُرَاتِ، فَحَكَمَ بِهِ أَيَّامَ قَضَائِهِ.
وَلَعَلَّهُ كَانَ يَفْعَلُ ذَلِكَ بِأَهْلِ الظُّلْمِ وَالْجَبَرُوتِ؛ إنْصَافًا مِنْهُمْ، وَإِرْذَالًا بِهِمْ.
وَهُوَ الْحَقُّ، فَإِنَّ الْوَكَالَةَ مَعُونَةٌ، وَلَا تَكُونُ لِأَهْلِ الْبَاطِلِ.
وَالدَّلِيلُ عَلَى جَوَازِ النِّيَابَةِ فِي ذَلِكَ قَائِمٌ؛ لِأَنَّهُ حَقٌّ مِنْ الْحُقُوقِ الَّتِي تَجُوزُ النِّيَابَةُ فِيهَا، فَجَازَتْ الْوَكَالَةُ عَلَيْهِ؛ أَصْلُهُ دَفْعُ الدَّيْنِ.
وَمُعَوِّلُهُمْ عَلَى أَنَّ الْحُقُوقَ تَخْتَلِفُ، وَالنَّاسُ فِي الْأَخْلَاقِ يَتَفَاوَتُونَ، فَرُبَّمَا أَضَرَّ الْوَكِيلُ بِالْآخَرِ.
قُلْنَا: وَرُبَّمَا كَانَ أَحَدُهُمَا ضَعِيفًا فَيَنْظُرُ لِنَفْسِهِ فِيمَنْ يُقَاوِمُ خَصْمَهُ، وَهَذَا مِمَّا لَا يَنْضَبِطُ، فَرَجَعْنَا إلَى الْأَصْلِ، وَهُوَ جَوَازُ النِّيَابَةِ فِي الْإِطْلَاقِ، وَلِلْوَكَالَةِ مَسَائِلُ يَأْتِي فِي أَبْوَابِهَا ذِكْرُ فُرُوعِهَا إنْ شَاءَ اللَّهُ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ:
قَوْلُهُ: {فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا} قِيلَ: أَرَادَ أَكْثَرَ.
وَقِيلَ: أَرَادَ أَطْهَرَ، يَعْنِي أَزْكَى وَأَحَلَّ، وَلَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ أَنْ يَسْتَبْعِدَ طَلَبَهُ أَكْثَرَ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ بَابِ النَّهَامَةِ، وَإِنَّمَا مَحْمَلُهُ عَلَى أَنَّهُ إنْ كَانَ مُرَادًا فَمَعْنَاهُ يَرْجِعُ إلَى أَنَّ رِزْقَهُمْ كَانَ مِنْ عَدَدِهِمْ، فَاحْتَاجُوا إلَى وَضْعٍ فِي الْمَطْعُومِ لِيَقُومَ بِهِمْ.
وَالْمَعْنَى الْآخَرُ مِنْ طَلَبِ الطَّهَارَةِ بَيِّنٌ، وَلَعَلَّهُ أَرَادَ الْمَعْنَيَيْنِ جَمِيعًا، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
الْآيَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْله تَعَالَى: {وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا إلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا} فِيهَا سَبْعُ مَسَائِلَ:
المسألة الأولى:
فِي سَبَبِ نُزُولِهَا: قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ وَغَيْرُهُ: قَالَ أَبُو جَهْلٍ: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، وَاَللَّهِ مَا أَرَانَا إلَّا قَدْ أُعْذِرْنَا فِي أَمْرِ هَذَا الرَّجُلِ مِنْ بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَاَللَّهِ لَئِنْ أَصْبَحْت، ثُمَّ صَنَعَ كَمَا كَانَ يَصْنَعُ فِي صَلَاتِهِ، لَقَدْ أَخَذْت صَخْرَةً، ثُمَّ رَضَخْت رَأْسَهُ فَاسْتَرَحْنَا مِنْهُ، فَامْنَعُونِي عِنْدَ ذَلِكَ، أَوْ أَسْلِمُونِي.
قَالُوا: يَا أَبَا الْحَكَمِ، وَاَللَّهِ لَا نُسْلِمُك أَبَدًا.