فصل: تفسير الآيات (32- 36):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



الْآيَةُ الرَّابِعَةُ: قَوْلُهُ: {وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلَاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا قُلْ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا}.
فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ:
المسألة الأولى:
قَالَ مَالِكٌ: الْكَهْفُ مِنْ نَاحِيَةِ الرُّومِ. وَرَوَى سُفْيَانُ عَنْ يَعْلَى بْنِ مُسْلِمٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: غَزَوْنَا مَعَ مُعَاوِيَةَ غَزْوَةَ الْمَضِيقِ نَحْوَ الرُّومِ، فَمَرَرْنَا بِالْكَهْفِ الَّذِي فِيهِ أَصْحَابُ الْكَهْفِ الَّذِي ذَكَرَ اللَّهُ فِي الْقُرْآنِ، وَذَكَرَ الْحَدِيثَ بِطُولِهِ. وَاسْمُ الْجَبَلِ الَّذِي فِيهِ الْكَهْفُ بنجلوس. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: الْكَهْفُ الْغَارُ فِي الْوَادِي، وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ.
وَقَالَ قَوْمٌ: إنَّ الْكَهْفَ فِي نَاحِيَةِ الشَّامِ عَلَى قُرْبٍ مِنْ وَادِي مُوسَى، يَنْزِلُهُ الْحُجَّاجُ إذَا سَارُوا إلَى مَكَّةَ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِصِحَّةِ ذَلِكَ. وَقَالَ الْبُخَارِيُّ فِي بَابِ: أَمْ حَسِبْت أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ.
ثُمَّ أَدْخَلَ عَلَيْهِ بَاب حَدِيثُ الْغَارِ وَذَكَرَ عَلَيْهِ خَبَرَ الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ آوَاهُمْ الْمَطَرُ إلَى غَارٍ، وَانْطَبَقَ عَلَيْهِمْ، فَقَالُوا: «وَاَللَّهِ لَا يُنْجِيكُمْ إلَّا الصِّدْقُ» وَذَكَرَ الْحَدِيثَ.
المسألة الثانية:
فِي قَوْلِهِ: {قُلْ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا} هِيَ الْحُجَّةُ: لِأَنَّ قَوْلَهُ: {وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ} مِنْ كَلَامِهِمْ.
وَقَدْ قَدَّمْنَا فِيمَا قَبْلُ سُكْنَى الْجِبَالِ وَدُخُولَ الْغِيرَانِ لِلْعُزْلَةِ عَنْ الْخَلْقِ وَالِانْفِرَادِ بِالْخَالِقِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
المسألة الثالثة:
فِيهِ جَوَازُ الْفِرَارِ مِنْ الظَّالِمِ: وَهِيَ سُنَّةُ الْأَنْبِيَاءِ وَالْأَوْلِيَاءِ، وَحِكْمَةُ اللَّهِ فِي الْخَلِيقَةِ.
وَقَدْ شَرَحْنَاهَا فِي كُتُبِ الْحَدِيثِ. اهـ.

.تفسير الآيات (32- 36):

قوله تعالى: {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا (32) كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا وَفَجَّرْنَا خِلَالَهُمَا نَهَرًا (33) وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا (34) وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا (35) وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا (36)}.

.مناسبة الآيات لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما كان إنما محط حال المشركين العاجل، وكان قد تقدم قولهم {أو يكون لك جنة من نخيل وعنب} [الإسراء: 91] الآية، وقوله تعالى: {إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها} [الكهف: 7] الآية، وقوله تعالى في حق فقراء المؤمنين الذين تقذروهم {ولا تعد عيناك عنهم تريد زينة الحياة الدنيا} [الكهف: 28] الآية واستمر إلى أن ختم بأن جنات المؤمنين عظيم حسنها من جهة الارتفاق، عطف على قوله تعالى: {وقل الحق من ربكم} [الكهف: 29] قوله تعالى كاشفًا بضرب المثل أن ما فيه الكفار من الارتفاق العاجل ليس أهلًا لأن يفتخر به لأنه إلى زوال: {واضرب لهم} أي لهؤلاء الضعفاء والمتجبرين الذين يستكبرون على المؤمنين، ويطلبون طردهم لضعفهم وفقرهم: {مثلًا} لما آتاهم الله من زينة الحياة الدنيا، فاعتمدوا عليهم وركنوا إليه ولم يشكروا من آتاهم إياه عليه، بل أداهم إلى الافتقار والتكبر على من زوى ذلك عنه إكرامًا له وصيانة عنه {رجلين} فكأنه قيل: فما مثلهما؟ فقيل: {جعلنا} أي بما لنا من العظمة {لأحدهما} وهو المجعول مثلًا لهم {جنتين} أي بساتين يستر ما فيهما من الأشجار من يدخلهما على أي وضع من الأوضاع كانتا، ومن جملة الأوضاع أن تكون إحداهما من السهل والأخرى في الجبل، ليبعد عموم عاهة لهما لأنها إما من برد أو حر {من أعناب} لأنها من أشجار البلاد الباردة وتصبر على الحر، وهي فاكهة وقوت بالعنب والزبيب والخل وغيرها {وحففناهما} أي حططناهما بعظمتنا {بنخل} لأنها من أشجار البلاد الحارة، وتصبر على البرد، وربما منعت عن الأعناب بعض أسباب العاهات، وثمرها فاكهة بالبسر والرطب وقوت بالتمر والخل فكأن النخل كالإكليل من وراء العنب، وهو مما يؤثره الدهاقين لأنه في غاية البهجة والمنفعة {وجعلنا بينهما} أي أرضي الجنتين {زرعًا} لبعد شمول الآفة للكل، لأن زمان الزرع ومكانه غير زمان أثمار الشجر المقدم ومكانه، وذلك هو العمدة في القوت، فكانت الجنتان أرضًا جامعة لخير الفواكه وأفضل الأقوات، وعمارتهما متواصلة متشابكة لم يتوسطها ما يقطعها ويفصل بينها، مع سعة الأطراف، وتباعد الأكناف، وحسن الهيئات والأوصاف.
ولما كان الشجر قد يكون فاسدًا من جهة أرضه، نفى ذلك بقوله تعالى؛ جوابًا لمن كأنه قال: ما حال أرضهما المنتج لزكاء ثمرهما؟: {كلتا} أي كل واحدة من {الجنتين} المذكورتين {ءاتت أكلها} أي ما يطلب منها ويؤكل من ثمر وحب، كاملًا غير منسوب شيء منهما إلى نقص ولا رداءة، وهو معنى: {ولم تظلم} أي تنقص حسًا ولا معنى كمن يضع الشيء في غير موضعه {منه شيئًا}.
ولما كان الشجر ربما أضر بدوامه قلة السقي قال تعالى: {وفجرنا} أي تفجيرًا يناسب عظمتنا {خلالهما نهرًا} أي يمتد فيتشعب فيكون كالأنهار لتدوم طراوة الأرض ويستغني عن المطر عند القحط؛ ثم زاد في ضخامة هذا الرجل فبين أن له غير هاتين الجنتين والزرع بقوله تعالى: {وكان له} أي صاحب الجنتين {ثمر} أي مال مثمر غير ما تقدم كثير، ذو أنواع ليكون متمكنًا من العمارة بالأعوان والآلات وجميع ما يريد {فقال} أي هذا الكافر {لصاحبه} أي المسلم المجعول مثلًا لفقراء المؤمنين {وهو} أي صاحب الجنان {يحاوره} أي يراجعه الكلام، من حار يحور- إذا رجع افتخارًا عليه وتقبيحًا لحاله بالنسبة إليه، والمسلم يحاوره بالوعظ وتقبيح الركون إلى الدنيا: {أنا أكثر منك مالًا} لما ترى من جناني وثماري {وأعز نفرًا} أي ناسًا يقومون معي في المهمات، وينفرون عند الضرورات، لأن ذلك لازم لكثرة المال {ودخل جنته} وحد لإرادة الجنس ودلالة على ما أفاده الكلام من أنهما لاتصالهما كالجنة الواحدة، وإشارة إلى أنه لا جنة له غيرها لأنه لا حظ له في الآخرة {وهو} أي والحال أنه {ظالم لنفسه} بالاعتماد على ماله والإعراض عن ربه؛ ثم استأنف بيان ظلمه بقوله: {قال} لما استولى عليه من طول أمله وشدة حرصه وتمادي غفلته واطراحه للنظر في العواقب بطول المهلة وسبوغ النعمة: {ما أظن أن تبيد} أي تهلك هلاكًا ظاهرًا مستوليًا {هذه أبدًا} ثم زاد في الطغيان والبطر بقصر النظر على الحاضر فقال: {وما أظن الساعة قائمة} استلذاذًا بما هو فيه وإخلادًا إليه واعتمادًا عليه.
ولما كان الإنسان مجبولًا على غلبة الرجاء عليه، فإذا حصل له من دواعي الغنى وطول الراحة وبلوغ المأمول والاستدراج بالظفر بالسؤال ما يربيه، ويثبت أصوله ويقويه، اضمحل الخوف فلم يزل يتضاءل حتى لا يتلاشى فكان عدمًا، فقال تعالى حاكيًا عن هذا الكافر ما أثمر له الرجاء من أمانه من سوء ما يأتي به القدر مقسمًا: {ولئن رددت} أي ردني راد {إلى ربي} المحسن إلي في هذه الدار، في السعة على تقدير قيامها الذي يستعمل في فرضه أداة الشك {لأجدن خيرًا منها} أي هذه الجنة؛ وقرأ ابن كثير وابن عامر بالتثنية للجنتين {منقلبًا} أي من جهة الانقلاب وزمانه ومكانه، لأنه ما أعطاني ذلك إلا باستحقاقي، وهو وصف لي غير منفك في الدارين، وإن لم يقولوا نحو هذا بألسنة مقالهم فإن ألسنة أحوالهم ناطقة به، فكأنه قيل: إن هذا لفي عداد البهائم حيث قصر النظر على الجزئيات، ولم يجوز أن يكون التمويل استدراجًا. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

{وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا (32)}.
اعلم أن المقصود من هذا أن الكفار افتخروا بأموالهم وأنصارهم على فقراء المسلمين فبين الله تعالى أن ذلك مما لا يوجب الافتخار لاحتمال أن يصير الفقير غنيًا والغني فقيرًا، أما الذي يجب حصول المفاخرة به فطاعة الله وعبادته وهي حاصلة لفقراء المؤمنين وبين ذلك بضرب هذا المثل المذكور في الآية فقال: {واضرب لهُمْ مَّثَلًا رَّجُلَيْنِ} أي مثل حال الكافرين والمؤمنين بحال رجلين كانا أخوين في بني إسرائيل أحدهما كافر اسمه براطوس والآخر مؤمن اسمه يهوذا وقيل هما المذكوران في سورة الصافات في قوله تعالى: {قَالَ قَائِلٌ مّنْهُمْ إِنّى كَانَ لِى قَرِينٌ} [الصافات: 51] ورثا من أبيهما ثمانية آلاف دينار فأخذ كل واحد منهما النصف فاشترى الكافر أرضًا فقال المؤمن اللهم إني أشتري منك أرضًا في الجنة بألف فتصدق به ثم بنى أخوه دارًا بألف فقال المؤمن: اللهم إني اشتري منك دارًا في الجنة بألف فتصدق به ثم تزوج أخوه امرأة بألف فقال المؤمن اللهم إني جعلت ألفًا صداقًا للحور العين ثم اشترى أخوه خدمًا وضياعًا بألف فقال المؤمن: اللهم إني اشتريت منك الولدان بألف فتصدق به ثم أصابه حاجة فجلس لأخيه على طريقه فمر به في حشمه فتعرض له فطرده ووبخه على التصدق بماله وقوله تعالى: {جَعَلْنَا لأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ}، فاعلم أن الله تعالى وصف تلك الجنة بصفات: الصفة الأولى: كونها جنة وسمى البستان جنة لاستتار ما يستتر فيها بظل الأشجار وأصل الكلمة من الستر والتغطية، والصفة الثانية: قوله: {وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ} أي وجعلنا النخل محيطًا بالجنتين نظيره قوله تعالى: {وَتَرَى الملائكة حَافّينَ مِنْ حَوْلِ العرش} [الزمر: 75] أي واقفين حول العرش محيطين به، والحفاف جانب الشيء والأحفة جمع فمعنى قول القائل حف به القوم أي صاروا في أحفته وهي جوانبه قال الشاعر:
له لحظات في حفافي سريره ** إذا كرها فيها عقاب ونائل

قال صاحب الكشاف: حفوه إذا طافوا به، وحففته بهم أي جعلتهم حافين حوله وهو متعد إلى مفعول واحد فتزيده الباء مفعولًا ثانيًا كقوله: غشيته وغشيته به، قال: وهذه الصفة مما يؤثرها الدهاقين في كرومهم وهي أن يجعلوها محفوفة بالأشجار المثمرة، وهو أيضًا حسن في المنظر.
الصفة الثالثة: {وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا} والمقصود منه أمور.
أحدها: أن تكون تلك الأرض جامعة للأقوات والفواكه.
وثانيها: أن تكون تلك الأرض متسعة الأطراف متباعدة الأكناف ومع ذلك فإنها لم يتوسطها ما يقطع بعضها عن بعض.
وثالثها: أن مثل هذه الأرض تأتي في كل وقت بمنفعة أخرى وهي ثمرة أخرى فكانت منافعها دارة متواصلة.
الصفة الرابعة: قوله تعالى: {كِلْتَا الجنتين أَتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمِ مّنْهُ شَيْئًا} كلا اسم مفرد معرفة يؤكد به مذكران معرفتان، وكلتا اسم مفرد يؤكد به مؤنثان معرفتان.
وإذا أضيفا إلى المظهر كانا بالألف في الأحوال الثلاثة كقولك جاءني كلا أخويك، ورأيت كلا أخويك، ومررت بكلا أخويك.
وجاءني كلتا أختيك، ورأيت كلتا أختيك، ومررت بكلتا أختيك، وإذا أضيفا إلى المضمر كانا في الرفع بالألف، وفي الجر والنصب بالياء وبعضهم يقول مع المضمر بالألف في الأحوال الثلاثة أيضًا.
وقوله: {أَتَتْ أُكُلَهَا} حمل على اللفظ لأن كلتا لفظه لفظ مفرد ولو قيل أتتا على المعنى لجاز، وقوله: {وَلَمْ تَظْلِمِ مّنْهُ شَيْئًا} أي لم تنقص والظلم النقصان، يقول الرجل: ظلمني حقي أي نقصني.
الصفة الخامسة: قوله تعالى: {وَفَجَّرْنَا خلالهما نَهَرًا} أي كان النهر يجري في داخل تلك الجنتين.
وفي قراءة يعقوب وفجرنا مخففة وفي قراءة الباقين وفجرنا مشددة والتخفيف هو الأصل لأنه نهر واحد والتشديد على المبالغة لأن النهر يمتد فيكون كأنهار و{خلالهما} أي وسطهما وبينهما.
ومنه قوله تعالى: {ولأَوْضَعُواْ خلالكم} [التوبة: 47].
ومنه يقال خللت القوم أي دخلت بين القوم.
الصفة السادسة: قوله تعالى: {وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ} قرأ عاصم بفتح الثاء والميم في الموضعين وهو جمع ثمار أو ثمرة، وقرأ أبو عمرو بضم الثاء وسكون الميم في الحرفين والباقون بضم الثاء والميم في الحرفين ذكر أهل اللغة: أنه بالضم أنواع الأموال من الذهب والفضة وغيرهما، وبالفتح حمل الشجر قال قطرب: كان أبو عمرو بن العلاء يقول: الثمر المال والولد، وأنشد للحارث بن كلدة:
ولقد رأيت معاشرا ** قد أثمروا مالًا وولدا

وقال النابغه:
مهلًا فداء لك الأقوام كلهم ** ما أثمروه أمن مال ومن ولد

وقوله: {وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ} أي أنواع من المال من ثمر ماله إذا كثر.
وعن مجاهد الذهب والفضة: أي كان مع الجنتين أشياء من النقود، ولما ذكر الله تعالى هذه الصفات قال بعده: {فَقَالَ لَهُ صاحبه وَهُوَ يحاوره أَنَاْ أَكْثَرُ مِنكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا} والمعنى أن المسلم كان يحاوره بالوعظ والدعاء إلى الإيمان بالله وبالبعث والمحاورة مراجعة الكلام من قولهم: حار إذا رجع، قال تعالى: {إِنَّهُ ظَنَّ أَن لَّن يَحُورَ بلى} [الانشقاق: 14، 15]، فذكر تعالى أن عند هذه المحاورة قال الكافر: {أَنَاْ أَكْثَرُ مِنكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا} والنفر عشيرة الرجل وأصحابه الذين يقومون بالذب عنه وينفرون معه، وحاصل الكلام أن الكافر ترفع على المؤمن بجاهه وماله، ثم إنه أراد أن يظهر لذلك المسلم كثرة ماله فأخبر الله تعالى عن هذه الحالة فقال: {وَدَخَلَ جَنَّتَهُ} وأراه إياها على الحالة الموجبة للبهجة والسرور وأخبره بصنوف ما يملكه من المال، فإن قيل: لم أفرد الجنة بعد التثنية؟ قلنا: المراد أنه ليس له جنة ولا نصيب في الجنة التي وعد المتقون المؤمنون وهذا الذي ملكه في الدنيا هو جنته لا غير ولم يقصد الجنتين ولا واحدًا منهما، ثم قال تعالى: {وَهُوَ ظَالِمٌ لّنَفْسِهِ} وهو اعتراض وقع في أثناء الكلام، والمراد التنبيه على أنه لما اعتز بتلك النعم وتوسل بها إلى الكفران والجحود لقدرته على البعث كان واضعًا تلك النعم في غير موضعها، ثم حكى تعالى عن الكافر أنه قال: {وَمَا أَظُنُّ أَن تَبِيدَ هذه أَبَدًا وَمَا أَظُنُّ الساعة قَائِمَةً} فجمع بين هذين، فالأول قطعه بأن تلك الأشياء لا تهلك ولا تبيد أبدًا مع أنها متغيرة متبدلة.
فإن قيل: هب أنه شك في القيامة فكيف قال: ما أظن أن تبيد هذه أبدًا مع أن الحدس يدل على أن أحوال الدنيا بأسرها ذاهبة باطلة غير باقية؟ قلنا: المراد أنها لا تبيد مدة حياته ووجوده، ثم قال: {وَلَئِن رُّدِدتُّ إلى رَبّى لأَجِدَنَّ خَيْرًا مّنْهَا مُنْقَلَبًا} أي مرجعًا وعاقبة وانتصابه على التمييز ونظيره قوله تعالى: {وَلَئِن رُّجّعْتُ إلى رَبّى إِنَّ لِى عِندَهُ للحسنى} وقوله: {لأَوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا} [مريم: 77] والسبب في وقوع هذه الشبهة أنه تعالى لما أعطاه المال في الدنيا ظن أنه إنما أعطاه ذلك لكونه مستحقًا له، والاستحقاق باق بعد الموت فوجب حصول العطاء.
والمقدمة الأولى كاذبة فإن فتح باب الدنيا على الإنسان يكون في أكثر الأمر للاستدراج والتملية، قرأ نافع وابن كثير {خيرًا منهما}، والمقصود عود الكناية إلى الجنتين، والباقون منها، والمقصود عود الكناية إلى الجنة التي دخلها. اهـ.