فصل: قال القرطبي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وقوله: {وجعلنا بينهما زرعًا} إِعلام أن عمارتهما كاملة.
قوله تعالى: {كِلتا الجنتين آتت أُكُلَها} قال الفراء: لم يقل: آتتا، لأن {كلتا} ثنتان لا تُفرد واحدتُهما، وأصله: كُلٌّ، كما تقول للثلاثة: كُلٌّ، فكان القضاء أن يكون للثنتين ما كان للجمع، وجاز توحيده على مذهب كُلّ، وتأنيثه جائز للتأنيث الذي ظهر في {كلتا}، وكذلك فافعل بـ: كلا وكلتا وكُلّ، إِذا أضفتَهُنَّ إِلى مَعْرِفة وجاء الفعل بعدهن، فوحِّد واجمع، فمن التوحيد قوله تعالى: {وكُلُّهم آتيه يوم القيامة فردًا} [مريم: 96]، ومن الجمع: {وكُلٌّ أَتَوه داخرين} [النمل: 87]، والعرب قد تفعل ذلك أيضًا في أي فيؤنّثون ويذكِّرون، قال الله تعالى: {وما تدري نفس بأي أرض تموت} [لقمان: 34]، ويجوز في الكلام بأيت أرض، وكذلك {في أيِّ صورة ما شاء ركبَّك} [الانفطار: 8]، ويجوز في الكلام في أيَّت، قال الشاعر:
بأي بلاءٍ أم بأيَّة نعمةٍ ** تقدَّم قبلي مسلمٌ والمهلَّب

قال ابن الأنباري: {كلتا} وإِن كان واقعًا في المعنى على اثنتين، فإن لفظه لفظ واحدة مؤنثة، فغلب اللفظ، ولم يستعمل المعنى ثقةً بمعرفة المخاطَب به؛ ومن العرب من يؤثر المعنى على اللفظ، فيقول: {كلتا الجنتين آتت أُكُلَها}، ويقول آخرون: {كلتا الجنتين آتى أُكُلَه}، لأن {كلتا} تفيد معنى كُلّ، قال الشاعر:
وكلتاهما قد خطَّ لي في صَحيفتي ** فلا الموت أهواه ولا العيش أروح

يعني: وكلُّهما قد خط لي، وقد قالت العرب: كلكم ذاهب، وكلكم ذاهبون.
فوحَّدوا لِلَفظ كُلّ وجمعوا لتأويلها.
وقال الزجاج: لم يقل آتتا، لأن لفظ {كلتا} لفظ واحدة، والمعنى: كل واحدة منهما آتت أكلها {ولم تظلم} أي: لم تنقص {منه شيئًا وفجرنا خلالهما نَهَرًا} فأعلمَنَا أن شربهما كان من ماء نهر، وهو من أغزر الشرب.
وقال الفراء: إِنما قال: {فجَّرنا} بالتشديد، وهو نَهَر واحد، لأن النهر يمتد، فكان التفجُّر فيه كلِّه.
قرأ أبو رزين، وأبو مجلز، وأبو العالية، وابن يعمر، وابن أبي عبلة: {وفَجَرْنا} بالتخفيف.
وقرأ أبو مجلز، وأبو المتوكل: {خلِلهما}.
وقرأ أبو العالية، وأبو عمران: {نهْرًا} بسكون الهاء.
قوله تعالى: {وكان له} يعني: للأخ الكافر {ثَمَر} قرأ ابن كثير، ونافع، وابن عامر، وحمزة، والكسائي: {وكان له ثُمُر}، {وأُحيط بثُمُره} بضمتين.
وقرأ عاصم: {وكان له ثَمَر}، {وأُحيط بثَمَره} بفتح التاء والميم فيهما.
وقرأ أبو عمرو: {ثُمْر} و{بثُمْره} بضمة واحدة وسكون الميم.
قال الفراء: الثَّمَر، بفتح الثاء والميم: المأكول، وبضمها: المال.
وقال ابن الأنباري: الثَّمر، بالفتح: الجمع الأول، والثُّمُر، بالضم: جمع الثَّمَر، يقال: ثَمَر، وثُمُر، كما يقال: أسَد، وأُسُد، ويصلح أن يكون الثُّمُر جمع الثِّمار، كما يقال: حِمار وحُمُر، وكِتاب وكُتُب؛ فمن ضَمَّ، قال: الثُّمُر أعم، لأنها تحتمل الثمار المأكولة، والأموال المجموعة.
قال أبو علي الفارسي: وقراءة أبي عمرو: {ثُمُر} يجوز أن تكون جمع ثمار، ككتاب، وكُتُب، فتخفف، فيقال: كُتْب، ويجوز أن يكون {ثُمْر} جمع ثَمَرة، كبَدَنة وبُدْن، وخَشَبة، وخُشْب.
ويجوز أن يكون {ثُمُر} واحدًا، كعُنُق، وطُنُب.
وقد ذكر المفسرون في قراءة من ضم ثلاثة أقوال.
أحدها: أنه المال الكثير من صنوف الأموال، قاله ابن عباس.
والثاني: أنه الذهب، والفضة، قاله مجاهد.
والثالث: أنه جمع ثمرة، قال الزجاج: يقال: ثَمَرة، وثِمار، وثمر.
فإن قيل: ما الفائدة في ذِكْر الثّمر بعد ذِكْر الجنَّتين، وقد عُلم أن صاحب الجنة لا يخلو من ثمر؟ فعنه ثلاثة أجوبة.
أحدها: أنه لم يكن أصل الأرض ملكًا له، وإِنما كانت له الثمار، قاله ابن عباس.
والثاني: أن ذِكْر الثّمر دليل على كثرة ما يملك من الثمار في الجنّتين وغيرهما، ذكره ابن الأنباري.
والثالث: إِنا قد ذكرنا أن المراد بالثمر الأموال من الأنواع، وذكرنا أنها الذهب، والفضّة، وذلك يخالف الثمر المأكول؛ قال أبو علي الفارسي: من قال: هو الذهب، والوَرِق، فإنما قيل لذلك: ثُمُر على التفاؤل، لأن الثمر نماء في ذي الثمر، وكونه هاهنا بالجَنى أشبه من الذهب والفضة.
ويقوي ذلك: {وأحيط بثمره فأصبح يقلِّب كفَّيه على ما أنفق فيها}، والإِنفاق من الوَرِق، لا من الشجر.
قوله تعالى: {فقال} يعني الكافر {لصاحبه} المؤمن {وهو يحاوره} أي: يراجعه الكلام ويجاوبه.
وفيما تحاورا فيه قولان.
أحدهما: أنه الإِيمان والكفر.
والثاني: طلب الدنيا، وطلب الآخرة.
فأما النفر فهم الجماعة، ومثلهم: القوم والرهط، ولا واحد لهذه الألفاظ من لفظها.
وقال ابن فارس اللغوي: النفر: عدة رجال من ثلاثة إِلى العشرة.
وفيمن أراد بنَفَره ثلاثة أقوال.
أحدها: عبيده، قاله ابن عباس.
والثاني: ولده، قاله مقاتل.
والثالث: عشيرته ورهطه، قاله أبو سليمان.
قوله تعالى: {ودخل جنَّته} يعني: الكافر {وهو ظالم لنفسه} بالكفر؛ وكان قد أخذ بيد أخيه فأدخله معه، {قال ما أظن أن تبيد هذه أبدًا} أنكر فَناء الدنيا، وفَناء جنته، وأنكر البعث والجزاء بقوله: {وما أظن الساعة قائمةً} وهذا شك منه في البعث، ثم قال: {ولئن رُدِدْتُ إِلى ربِّي} أي: كما تزعُم أنت.
قال ابن عباس: يقول: إِن كان البعث حقًا {لأجدنَّ خيرًا منها} قرأ أبو عمرو، وعاصم، وحمزة، والكسائي: {خيرًا منها}، وكذلك هي في مصاحف أهل البصرة والكوفة.
وقرأ ابن كثير، ونافع، وابن عامر: {خيرًا منهما} بزيادة ميم على التثنية، وكذلك هي في مصاحف أهل مكة والمدينة والشام.
قال أبو علي: الإِفراد أولى، لأنه أقرب إِلى الجَنَّة المفردة في قوله: {ودخل جنته}، والتثنية لا تمتنع، لتقدم ذِكْر الجَنَّتين.
قوله تعالى: {مُنْقَلَبًا} أي: كما أعطاني هذا في الدنيا، سيعطيني في الآخرة أفضل منه. اهـ.

.قال القرطبي:

قوله تعالى: {واضرب لهُمْ مَّثَلًا رَّجُلَيْنِ}.
هذا مثل لمن يتعزز بالدنيا ويستنكف عن مجالسة المؤمنين، وهو متّصل بقوله: {واصبر نَفْسَكَ}.
واختلف في اسم هذين الرجلين وتعيينهما؛ فقال الكلبي: نزلت في أخوين من أهل مكة مخزوميين، أحدهما مؤمن وهو أبو سلمة عبد الله بن عبد الأسد بن هلال بن عبد الله بن عمر بن مخزوم، زوجُ أمِّ سلمة قبل النبيّ صلى الله عليه وسلم. والآخر كافر وهو الأسود بن عبد الأسد، وهما الأخوان المذكوران في سورة الصافات في قوله: {قَالَ قَآئِلٌ مِّنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِين} [الصافات: 51]، وَرِث كل واحد منهما أربعة آلاف دينار، فأنفق أحدُهما مالَه في سبيل الله وطلب من أخيه شيئًا فقال ما قال..؛ ذكره الثعلبِيّ والقُشَيرِيّ.
وقيل: نزلت في النبيّ صلى الله عليه وسلم وأهل مكة.
وقيل: هو مَثَل لجميع مَن آمن بالله وجميع مَن كفر.
وقيل: هو مَثَل لعُيَيْنة بن حِصْن وأصحابه مع سلمان وصُهيب وأصحابه؛ شبّههم الله برجلين من بني إسرائيل أخوين أحدهما مؤمن واسمه يهوذا؛ في قول ابن عباس.
وقال مقاتل: اسمه تمليخا.
والآخر كافر واسمه قرطوش.
وهما اللذان وصفهما الله تعالى في سورة الصافات.
وكذا ذكر محمد بن الحسن المقرئ قال: اسم الخَيِّر منهما تمليخا، والآخر قرطوش، وأنهما كانا شريكين ثم اقتسما المال فصار لكل واحد منهما ثلاثةُ آلاف دينار، فاشترى المؤمن منهما عبيدًا بألف وأعتقهم، وبالألف الثانية ثيابًا فكسا العُراة، وبالألف الثالثة طعامًا فأطعم الجُوّع، وبنى أيضًا مساجد، وفعل خيرًا.
وأما الآخر فنكح بماله نساء ذوات يسار، واشترى دواب وبقرًا فاستنتجها فنمَت له نماء مُفْرِطًا، واتجر بباقيها فربح حتى فاق أهل زمانه غِنًى؛ وأدركت الأوّلَ الحاجةُ، فأراد أن يستخدم نفسه في جنة يخدمها فقال: لو ذهبت لشريكي وصاحبي فسألته أن يستخدمني في بعض جناته رجوت أن يكون ذلك أصلح بي، فجاءه فلم يَكدَ يصل إليه من غِلَظ الحجاب، فلما دخل عليه وعرفه وسأله حاجته قال له: ألم أكن قاسمتك المال نصفين! فما صنعتَ بمالك؟ قال: اشتريت به من الله تعالى ما هو خير منه وأبقى.
فقال: أئنك لمن المصدّقين، ما أظن الساعة قائمةا وما أراك إلا سفيهًا، وما جزاؤك عندي على سفاهتك إلا الحرمان، أو ما ترى ما صنعتُ أنا بمالي حتى آل إلى ما تراه من الثروة وحسن الحال، وذلك أني كَسَبْت وسفهت أنت، أخرج عني.
ثم كان من قصة هذا الغنيّ ما ذكره الله تعالى في القرآن من الإحاطة بثمره وذهابها أصلًا بما أرسل عليها من السماء من الحُسْبان.
وقد ذكر الثعلبيّ هذه القصة بلفظ آخر، والمعنى متقارب.
قال عطاء: كانا شريكين لهما ثمانية آلاف دينار.
وقيل: ورِثاه من أبيهما وكانا أخوين فاقتسماها، فاشترى أحدهما أرضا بألف دينار، فقال صاحبه: اللهم إن فلانًا قد اشترى أرضا بألف دينار وإني اشتريت منك أرضا في الجنة بألف دينار فتصدقَ بها، ثم إن صاحبه بنى دارًا بألف دينار فقال: اللهم إن فلانًا بنى دارًا بألف دينار وإني أشتري منك دارًا في الجنة بألف دينار، فتصدَّق بألف دينار، ثم تزوج امرأة فأنفق عليها ألف دينار، فقال: اللهم إن فلانًا تزوج امرأة بألف دينار وإني أخطب إليك من نساء الجنة بألف دينار، فتصدَّق بألف دينار.
ثم اشترى خدمًا ومتاعًا بألف دينار، وإني أشتري منك خَدَمًا ومتاعًا من الجنة بألف دينار، فتصدَّق بألف دينار.
ثم أصابته حاجة شديدة فقال: لعلّ صاحبي ينالُنِي معروفه فأتاه فقال: ما فعل مالُك؟ فأخبره قصته فقال: وإنك لمن المصدّقين بهذا الحديث! والله لا أعطيك شيئا ثم قال له: أنت تعبد إله السماء، وأنا لا أعبد إلا صنمًا؛ فقال صاحبه: والله لأعظَنّه، فوعظه وذكّره وخوّفه.
فقال: سِرْ بنا نصطد السمك، فمن صاد أكثر فهو على حق؛ فقال له: يا أخي! إن الدنيا أحقر عند الله من أن يجعلها ثوابًا لمحسن أو عقابًا لكافر.
قال: فأكرهه على الخروج معه، فابتلاهما الله، فجعل الكافرُ يرمي شبكته ويسمِّي باسم صنمه، فتطلع متدفّقة سمكًا.
وجعل المؤمن يرمي شبكته ويسمي باسم الله فلا يطلُع له فيها شيء؛ فقال له: كيف ترى أنا أكثر منك في الدنيا نصيبًا ومنزلة ونَفَرًا، كذلك أكون أفضلَ منك في الآخرة إن كان ما تقول بزعمك حقًّا.
قال: فضَجّ المَلَك الموَكَّل بهما، فأمر الله تعالى جبريلَ أن يأخذه فيذهب به إلى الجِنان فيرِيَه منازل المؤمن فيها، فلما رأى ما أعد الله له قال: وعزّتك لا يضرّه ما ناله من الدنيا بعد ما يكون مصيره إلى هذا؛ وأراه منازل الكافر في جهنم فقال: وعزّتك لا ينفعه ما أصابه من الدنيا بعد أن يكون مصيره إلى هذا.
ثم إن الله تعالى تَوفّى المؤمن وأهلك الكافر بعذاب من عنده، فلما استقر المؤمن في الجنة ورأى ما أعد الله له أقبل هو وأصحابه يتساءلون، فقال: {إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ يقول أئنّك لمِن المصَدِّقين} [الصافات: 51-52] الآية؛ فنادى منادٍ: يأهل الجنة! هل أنتم مطَّلِعون فاطلع إلى جهنم فرآه في سواء الجحيم؛ فنزلت {واضرب لهُمْ مَّثَلًا}.
بيّن الله تعالى حال الأخوين في الدنيا في هذه السورة، وبين حالهما في الآخرة في سورة الصافات في قوله: {إني كان لي قرين يقول أئنك لمِن المصدقِين} إلى قوله: {لمثل هذا فليعمل العاملون}.
قال ابن عطية: وذكر إبراهيم بن القاسم الكاتب في كتابه في عجائب البلاد أن بحيرة تِنّيس كانت هاتين الجنتين، وكانتا لأخوين فباع أحدهما نصيبه من الآخر فأنفق في طاعة الله حتى عيّره الآخر، وجرت بينهما المحاورة فغرقها الله تعالى في ليلة، وإياها عنى بهذه الآية.
وقد قيل: إن هذا مَثَل ضربه الله تعالى لهذه الأمة، وليس بخبر عن حال متقدمة، لتزهد في الدنيا وترغب في الآخرة، وجعله زجرًا وإنذارًا؛ ذكره الماوردي.
وسياق الآية يدلّ على خلاف هذا، والله أعلم.
قوله تعالى: {وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ} أي أطفناهما من جوانبهما بنخل.
والحِفاف الجانب، وجمعه أحِفّة؛ ويقال: حَفَّ القوم بفلان يَحُفُّون حَفًّا، أي طافوا به؛ ومنه {حَآفِّينَ مِنْ حَوْلِ العرش} [الزمر: 75].
{وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا} أي جعلنا حول الأعناب النخل، ووسط الأعناب الزرع {كِلْتَا الجنتين} أي كلّ واحدة من الجنتين {آتَتْ أُكُلَهَا} تامّا، ولذلك لم يقل آتتا.
واختلف في لفظي كِلْتا وكِلاَ هل هما مفردان أو مثنّيان؟؛ فقال أهل البصرة: هما مفردان؛ لأن كِلا وكلتا في توكيد الاثنين نظير كُلٍّ في المجموع، وهما اسمان مفردان غير مثنيان؛ فإذا ولِيَا اسما ظاهرًا كانا في الرفع والنصب والخفض على حالة واحدة، تقول: رأيت كِلا الرجلين وجاءني كِلا الرجلين ومررت بكلا الرجلين؛ فإذا اتصلا بمضمر قلبت الألف ياء في موضع الجر والنصب، تقول: رأيت كِلَيْهِما ومررت بكليهما، كما تقول عليهما.
وقال الفراء: هما مثنّيان، وهو مأخوذان من كُلٍّ فخفّفت اللام وزيدت الألف للتثنية.
وكذلك كلتا للمؤنث، ولا يكونان إلا مضافين ولا يتكلم بواحد، ولو تكلم به لقيل: كِلْ وكِلْت وكِلان وكِلْتان.
واحتج بقول الشاعر:
في كِلْتِ رجْليها سُلاَمى واحدَهْ ** كِلتاهما مَقْرونةٌ بزائدهْ

أراد في إحدى رجليها فأفرد.