فصل: قال القرطبي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



قال الفراء: {ما شاء الله} في موضع رفع، إِن شئت رفعته بإضمار هو، يريد: هو ما شاء الله؛ وإن شئتَ أضمرتَ فيه: ما شاء الله كان؛ وجاز طرح جواب الجزاء، كما جاز في قوله: {فإن استطعت أن تبتغيَ نفقًا في الأرض} [الانعام: 35]، ليس له جواب، لأنه معروف.
قال الزجاج: وقوله: {لا قوَّة إِلا بالله} الاختيار النصب بغير تنوين على النفي، كقوله: {لا ريب فيها} [الكهف: 21]، ويجوز: {لا قوة إِلا بالله} على الرفع بالابتداء، والخبر {بالله}، المعنى: لا يقوى أحد في بدنه ولا في ملك يده إِلا بالله تعالى، ولا يكون له إِلا ما شاء الله.
قوله تعالى: {إِن ترنِ} قرأ ابن كثير: {إِن ترني أنا} و{يؤتيني خيرًا} بياء في الوصل والوقف.
وقرأ نافع، وأبو عمرو بياءٍ في الوصل.
وقرأ ابن عامر، وعاصم، وحمزة، بحذف الياء فيهما وصلًا ووقفًا.
{أنا أقَلَّ} وقرأ ابن أبي عبلة: {أنا أقَلُّ} برفع اللام.
قال الفراء: {أنا} هاهنا عماد إِن نصبتَ {أقلَّ}، واسم إِذا رفعت {أقلُّ}، والقراءة بهما جائز.
قوله تعالى: {فعسى ربِّي أن يؤتيَني خيرًا من جنتك} أي: في الآخرة، {ويرسلَ عليها حسبانًا} وفيه أربعة أقوال.
أحدها: أنه العذاب، رواه العوفي عن ابن عباس، وبه قال قتادة، والضحاك.
وقال أبو صالح عن ابن عباس: نارًا من السماء.
والثاني: قضاءً من الله يقضيه، قاله ابن زيد.
والثالث: مراميَ من السماء، واحدها: حسبانة، قاله أبو عبيدة، وابن قتيبة قال النَّضْر ابن شُمَيل: الحُسبان: سهام يرمي بها الرجل في جوف قصبة تُنزع في القوس، ثم يرمي بعشرين منها دفعة، فعلى هذا القول يكون المعنى: ويرسل عليها مراميَ من عذابه، إِما حجارة أو بَرَدًا أو غيرهما مما يشاء من أنواع العذاب.
والرابع: أن الحسبان: الحساب، كقوله: {الشمس والقمر بحسبان} [الرحمن: 5] أي: بحساب، فيكون المعنى: ويرسل عيها عذابَ حسابِ ما كسبت يداه، هذا قول الزجاج.
قوله تعالى: {فتصبحَ صعيدًا زَلَقًا أو يُصْبِحَ ماؤها غَورًا} قال ابن قتيبة: الصعيد: الأملس المستوي، والزَّلَق: الذي تَزِلُّ عنه الأقدام، والغَور: الغائر، فجعل المصدر صفة، يقال: ماءٌ غَوْر، ومياه غَوْرٌ، ولا يثنَّى، ولا يجمع، ولا يؤنَّث، كما يقال: رجلٌ نَوْمٌ، ورجلٌ صَوْمٌ، ورجلٌ فِطْر، ورجالٌ نَوْمُ، ونساءٌ نَوْمٌ، ونساءٌ صَوْمٌ.
ويقال: للنساء إِذا نُحْنَ: نَوْح، والمعنى: يذهب ماؤها غائرًا في الأرض، أي: ذاهبًا فيها.
{فلن تسطيع له طلبًا} فلا يبقى له أثر تطلبه به، ولا تناله الأيدي ولا الأَرْشية.
وقال ابن الأنباري: {غَوْرًا} إِذا غوَّر، فسقط المضاف، وخلَفه المضاف إِليه، والمراد بالطلب هاهنا: الوصول، فقام الطلب مقامه لأنه سببه.
وقرأ أبو الجوزاء، وأبو المتوكل: {غُؤُورًَا} برفع الغين والواو الأولى جميعًا، وواو بعدها. اهـ.

.قال القرطبي:

قوله تعالى: {قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ}.
يهوذا أو تمليخا؛ على الخلاف في اسمه.
{أَكَفَرْتَ بالذي خَلَقَكَ مِن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا} وعظه وبيّن له أن ما اعترف به من هذه الأشياء التي لا ينكرها أحد أبدع من الإعادة.
و{سوَّاك رجلا} أي جعلك معتدل القامة والخَلْق، صحيحَ الأعضاء ذكرًا.
{لَّكِنَّا هُوَ الله رَبِّي} كذا قرأه أبو عبد الرحمن السُّلَمِي وأبو العالية.
وروي عن الكسائي: {لَّكِنَّ هُوَ الله} بمعنى لكن الأمر هو الله ربي، فأضمر اسمها فيها.
وقرأ الباقون: {لكنا} بإثبات الألف.
قال الكسائي: فيه تقديم وتأخير، تقديره: لكن الله هو ربي أنا، فحذفت الهمزة من أنا طلبًا للخفة لكثرة الاستعمال وأدغمت إحدى النونين في الأخرى وحذفت ألف أنا في الوصل وأثبتت في الوقف.
وقال النحاس: مذهب الكسائي والفرّاء والمازِنِيّ أن الأصل لكن أنا فألقيت حركة الهمزة على نون لكن وحذفت الهمزة وأدغمت النون في النون فالوقف عليها لكنا وهي ألف أنا لبيان الحركة.
وقال أبو عبيد: الأصل لكن أنا، فحذفت الألف فالتقت نونان فجاء بالتشديد لذلك، وأنشدنا الكسائي:
لَهنّكِ من عَبْسِيَّة لَوَسِيَمةٌ ** على هَنَوَاتٍ كاذب من يقولها

أراد: لله إنك لوسيمة، فأسقط إحدى اللامين من لله وحذف الألف من إنك.
وقال آخر فجاء به على الأصل:
وترمينني بالطَّرْف أي أنت مذنب ** وتَقْلِيننِي لكنّ إيّاكِ لاَ أَقْلِي

أي لكن أنا.
وقال أبو حاتم: وروَوْا عن عاصم {لكنا هو الله ربي} وزعم أن هذا لحن، يعني إثبات الألف في الإدراج.
قال الزجاج: إثبات الألف في {لكنا هو الله ربي} في الإدراج جيد؛ لأنه قد حذفت الألف من أنا فجاءوا بها عِوضًا.
قال: وفي قراءة أُبَيّ {لكن أنا هو الله ربي}.
وقرأ ابن عامر والمَسِيلِيّ عن نافع ورُويس عن يعقوب {لكنا} في حال الوقف والوصل معًا بإثبات الألف.
وقال الشاعر:
أنا سيف العشيرة فاعرفوني ** حُمَيْدًا قد تَذَرّيْتُ السِّناما

وقال الأعشى:
فكيف أنا وانتحال القوافي ** بعد المشيب كفى ذاك عارًا

ولا خلاف في إثباتها في الوقف.
{هُوَ الله رَبِّي} {هو} ضمير القصة والشأن والأمر؛ كقوله: {فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الذين كَفَرُواْ} [الأنبياء: 79] وقوله: {قل هو الله أحد}.
{وَلاَ أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا} دلّ مفهومه على أن الأخ الآخر كان مشركًا بالله تعالى يعبد غيره.
ويحتمل أنه أراد لا أرى الغنى والفقر إلا منه، وأعلم أنه لو أراد أن يسْلُب صاحب الدنيا دنياه قَدَر عليه؛ وهو الذي آتاني الفقر.
ويحتمل أنه أراد جحودُك البعث مصيرهُ إلى أن الله تعالى لا يقدر عليه، وهو تعجيز الرب سبحانه وتعالى، ومَن عجّزه سبحانه وتعالى شبّهه بخلقه؛ فهو إشراك.
قوله تعالى: {ولولا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ الله لاَ قُوَّةَ إِلاَّ بالله} فيه مسألتان:
الأولى: قوله تعالى: {ولولا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ الله لاَ قُوَّةَ إِلاَّ بالله} أي بالقلب، وهو توبيخ ووصية من المؤمن للكافر وردّ عليه، إذ قال: {مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هذه أبَدًا} و{ما} في موضع رفع، تقديره: هذه الجنة هي ما شاء الله.
وقال الزجاج والفراء: الأمر ما شاء الله، أو هو ما شاء الله؛ أي الأمر مشيئة الله تعالى.
وقيل: الجواب مضمر، أي ما شاء الله كان، وما لا يشاء لا يكون.
{لاَ قُوَّةَ إِلاَّ بالله} أي ما اجتمع لك من المال فهو بقدرة الله تعالى وقوته لا بقدرتك وقوتك، ولو شاء لنزع البركة منه فلم يجتمع.
الثانية قال أشهب قال مالك: ينبغي لكل من دخل منزله أن يقول هذا.
وقال ابن وهب قال لي حفص بن مَيْسرة: رأيت على باب وهب بن منبِّه مكتوبًا ما شاء الله لا قوّة إلا بالله.
وروي عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال لأبي هريرة: «ألا أدلك على كلمة من كنوز الجنة أو قال كنز من كنوز الجنة» قلت: بلى يا رسول الله، قال: «لا حول ولا قوّة إلا بالله إذا قالها العبد قال الله عز وجل أسلم عبدي واستسلم» أخرجه مسلم في صحيحه من حديث أبي موسى.
وفيه: فقال: «يا أبا موسى أو يا عبد الله بن قيس ألا أدُلُّك على كلمة من كنز الجنة في رواية على كنز من كنوز الجنة» قلت: ما هي يا رسول الله، قال: «لا حول ولا قوة إلا بالله».
وعنه قال قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ألا أدلك على كلمة من كنوز الجنة أو قال كنز من كنوز الجنة قلت: بلى؛ فقال: لا حول ولا قوة إلا بالله العليّ العظيم». وروي أنه من دخل منزله أو خرج منه فقال: باسم الله ما شاء الله لا قوة إلا بالله تنافرت عنه الشياطين من بين يديه وأنزل الله تعالى عليه البركات.
وقالت عائشة: إذا خرج الرجل من منزله فقال باسم الله قال المَلَك هُديت، وإذا قال: ما شاء الله قال المَلك: كُفِيت، وإذا قال: لا قوة إلا بالله قال المَلك وُقيت.
خرجه الترمذيّ من حديث أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قال يعني إذا خرج من بيته باسم الله توكلت على الله لا حول ولا قوة إلا بالله يقال كُفِيت ووُقِيت وتنّحى عنه الشيطان». هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه.
خرجه أبو داود أيضًا وزاد فيه فقال له: «هُدِيت وكُفيت ووُقيت» وأخرجه ابن ماجه من حديث أبي هريرة أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «إذا خرج الرجل من باب بيته أو باب داره كان معه مَلَكان موكَّلان به فإذا قال باسم الله قالا هُديت وإذا قال لا حول ولا قوة إلا بالله قالا وقُيت وإذا قال توكّلت على الله قالا كفيت قال فيلقاه قَريناه فيقولان ماذا تريدان من رجل قد هُدِيَ ووُقِي وكُفِي» وقال الحاكم أبو عبد الله في علوم الحديث: سئل محمد بن إسحاق بن خزيمة عن قول النبيّ صلى الله عليه وسلم: «تحاجّت الجنة والنار فقالت هذه يعني الجنة يدخلني الضعفاء» من الضعيف؟ قال: الذي يبرئ نفسه من الحول والقوّة يعني في اليوم عشرين مرة أو خمسين مرة.
وقال أنس بن مالك قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: «من رأى شيئًا فأعجبه فقال ما شاء الله لا قوة إلا بالله لم يضره عين» وقد قال قوم: ما من أحد قال ما شاء الله كان فأصابه شيء إلا رَضِيَ به.
وروي أن من قال أربعًا أمِنَ من أربع: من قال هذه أمِن من العين، ومن قال حسبنا الله ونعم الوكيل أمن من كيد الشيطان، ومن قال وأفوض أمري إلى الله أمن مكر الناس، ومن قال لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين أمن من الغم.
قوله تعالى: {إِن تَرَنِ أَنَاْ أَقَلَّ مِنكَ مَالًا وَوَلَدًا} {إنْ} شرط {تَرَنِ} مجزوم به، والجواب {فعسى رَبِّي} و{أنا} فاصلة لا موضع لها من الإعراب.
ويجوز أن تكون في موضع نصب توكيدًا للنون والياء.
وقرأ عيسى بن عمر {إن ترنِ أنا أقلُ منك} بالرفع؛ يجعل {أنا} مبتدأ و{أقل} خبره، والجملة في موضع المفعول الثاني، والمفعول الأول النون والياء؛ إلا أن الياء حذفت لأن الكسرة تدل عليها، وإثباتها جيّد بالغ وهو الأصل لأنها الاسم على الحقيقة.
و{فعسى} بمعنى لعل، أي فلعلّ ربي.
{أَن يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مِّن جَنَّتِكَ} أي في الآخرة.
وقيل في الدنيا.
{وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا} أي على جنتك.
{حُسْبَانًا} أي مرامي من السماء، واحدها حُسْبانة؛ قاله الأخفش والقُتَبِيّ وأبو عبيدة.
وقال ابن الأعرابي: والحسبانة السحابة، والحسبانة الوِسادة، والحسبانة الصَّاعقة.
وقال الجوهري: والحسبان بالضم: العذاب.
وقال أبو زياد الكلابي: أصاب الأرض حسبان أي جراد.
والحسبان أيضًا الحساب، قال الله تعالى: {الشمس والقمر بِحُسْبَانٍ} [الرحمن: 5] وقد فُسِّر الحُسْبان هنا بهذا.
قال الزجاج: الحسبان من الحساب؛ أي يرسل عليها عذاب الحساب، وهو حساب ما اكتسبت يداك؛ فهو من باب حذف المضاف.
والحسبان أيضًا: سهام قصار يرمى بها في طَلْق واحد، وكان من رَمْي الأكاسرة.
والمرامي من السماء عذاب.
{فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا} يعني أرضًا بيضاء لا ينبت فيها نبات ولا يثبت عليها قدم، وهي أضَرّ أرض بعد أن كانت جنة أنفع أرض؛ و{زلقا} تأكيد لوصف الصعيد؛ أي تزل عنها الأقدام لملاستها.
يقال: مكان زَلَق بالتحريك أي دَحْض، وهو في الأصل مصدر قولك: زلِقت رجله تَزلْقَ زَلَقا، وأزلقها غيره. والزلق أيضًا عجز الدابة.
قال رُؤْبة:
كأنها حَقْباءُ بُلْقاء الزَّلَق

والمَزْلْقَة والمُزْلقة: الموضع الذي لا يثبت عليه قدم.
وكذلك الزَّلاّقة.
والزَّلْق الحَلْق، زَلَق رأسَه يَزْلِقُه زَلْقا حلقه؛ قاله الجوهري.
والزَّلَق المحلوق، كالنَّقْض والنَّقَض.
وليس المراد أنها تصير مزلقة، بل المراد أنها لا يبقى فيها نبات كالرأس إذا حُلق لا يبقى عليه شعر؛ قاله القشَيْرِيّ.
{أَوْ يُصْبِحَ مَآؤُهَا غَوْرًا} أي غائرًا ذاهبًا، فتكون أعدمَ أرض للماء بعد أن كانت أوجدَ أرض للماء.
والغَوْر مصدر وضع موضع الاسم؛ كما يقال: رجلٌ صَوْمٌ وفِطْرٌ وعَدْلٌ ورِضًا وفَضْلٌ وزَوْرٌ ونساءٌ نوحٌ؛ ويستوى فيه المذكر والمؤنث والتثنية والجمع.
قال عمرو بن كُلثوم:
تظَلّ جياده نَوْحًا عليه ** مقلَّدة أعنّتها صُفُونا

وقال آخر:
هَرِيقي من دموعهما سجاما ** ضُباع وجاوبي نوحًا قيامًا

أي نائحات.
وقيل: أو يصبح ماؤها ذا غَوْر؛ فحذف المضاف؛ مثلُ {واسأل القرية} [يوسف: 82] ذكره النحاس.
وقال الكسائي: ماءٌ غَوْرٌ.
وقد غار الماء يَغُور غَوْرًا وغُوُورًا، أي سفَل في الأرض، ويجوز الهمز لانضمام الواو.
وغارت عينه تَغُور غَوْرًا وغُؤُورًا؛ دخلت في الرأس.
وغارت تَغار لغة فيه.
وقال:
أغارتْ عينهُ أم لم تَغَارَا

وغارت الشمس تغور غِيارا، أي غربت.
قال أبو ذُؤيب:
هل الدهر إلاّ ليلة ونهارُها ** وإلا طلوعُ الشمس ثم غيارها

{فَلَن تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَبًا} أي لن تستطيع ردّ الماء الغائر، ولا تقدر عليه بحيلة.
وقيل: فلن تستطيع طلب غيره بدلًا منه.
وإلى هذا الحديث انتهت مناظرة أخيه وإنذاره. اهـ.