فصل: قال الشوكاني:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



{كَمَاء} استئناف لبيان المثل أي هي كماء {أَنزَلْنَاهُ مِنَ السماء} وجوزوا أن يكون مفعولًا ثانيًا لأضرب على أنه بمعنى صير.
وتعقب بأن الكاف تنبو عنه إلا أن تكون مقحمة.
ورد بأنه مما لا وجه لأن المعنى صير المثل هذا اللفظ فالمثل بمعنى الكلام الواقع فيه التمثيل.
وقال الحوفي: الكاف متعلقة بمحذوف صفة لمصدر محذوف أي ضربًا كماء وليس بشيء.
{فاختلط بِهِ نَبَاتُ الأرض} أي فاشتبك وخالط بعضه بعضًا لكثرته وتكاثفه بسبب كثرية سقي الماء إياه أو المراد فدخل الماء في النبات حتى روى ورف، وكان الظاهر في هذا المعنى افختلط بنبات الأرض لأن المعروف في عرف اللغة والاستعمال دخول الباء على الكثير الغير الطارىء وإن صدق بحسب الوضع على كل من التداخلين أنه مختلط ومختلط به إلا أنه اختير ما في النظم الكريم للمبالغة في كثرة الماء حتى كأنه الأصل الكثير ففي الكلام قلب مقبول {فَأَصْبَحَ} ذلك النبات الملتف إثر بهجته ونضارته {هَشِيمًا} أي يابسًا متفتتًا، وهو فعيل بمعنى مفعول، وقيل جمع هشيم وأصبح بمعنى صار فلا يفيد تقييد الخبر بالصباح كما في قوله:
أصبحت لا أحمل السلاح ولا ** أملك رأس البعير إن نفرًا

وقيل هي على ظاهرها مفيدة لتقييد الخبر بذلك لأن الآفات السماوية أكثر ما تطرق ليلًا.
وتعقب بأنه ليس في الآية ما يدل على أن اتصافه بكونه هشيمًا لآفة سماوية بل المراد بيان ما يؤول إليه بعد النضارة من اليبس والتفتت كقوله تعالى: {والذى أَخْرَجَ المرعى فَجَعَلَهُ غُثَاء أحوى} [الأعلى: 4، 5] {تَذْرُوهُ الرياح} أي تفرقه كما قال أبو عبيدة، وقال الأخفش: ترفعه، وقال ابن كيسان: تجيء به وتذهب، وقرأ ابن مسعود {تذريه} من أذرى رباعيًا وهو لغة في ذري وقرأ زيد بن علي والحسن والنخعي والأعمش وطلحة وابن أبي ليلى وابن محيصن وخلف وابن عيسى وابن جرير {تَذْرُوهُ الريح} بالافراد، وليس المشبه به نفس الماء بل هو الهيئة المنتزعة من الجملة وهي حال النبات المنبت بالماء يكون أخضر مهتزًا ثم يصير يابسًا تطيره الرياح حتى كأنه لم يكن، وعبر بالفاء في الآية للإشعار بسرعة زواله وصيرورته بتلك الصفة فليست فصيحية، وقيل هي فصيحية والتقدير فزها ومكث مدة فأصبح هشيمًا {وَكَانَ الله على كُلّ شَىْء} من الأشياء التي من جملتها الانشاء والافناء {مُّقْتَدِرًا} كامل القدرة.
{الْمَالُ والبنون زِينَةُ الحياة الدنيا} بيان لشأن ما كانوا يفتخرون به من محسنات الحياة الدنيا كما افتخر الأخ الكافر بما افتخر به من ذلك إثر بيان شأن نفسها بما مر من المثل، وتقديم المال على البنين مع كونهم أعز منه عند أكثر الناس لعراقته فيما نيط به من الزينة والإمداد وغير ذلك.
وعمومه بالنسبة إلى الأفراد والأوقات فإنه زينة وممد لكل أحد من الآباء والبنين في كل وقت وحين وأما البنون فزينتهم وإمدادهم إنما يكون بالنسبة إلى من بلغ الأبوة ولأن المال مناط لبقاء النفس والبنون لبقاء النوع ولأن الحاجة إليه أمس من الحاجة إليهم ولأنه أقدم منهم في الوجود ولأنه زينة بدونهم من غير عكس فإن من له بنون بلا مال فهو في أضيق حال ونكال كذا في إرشاد العقل السليم، والزينة مصدر وأطلق على ما يتزين به للمبالغة ولذلك أخبره به عن أمرين وإضافتها إلى الحياة الدنيا اختصاصية، وجوز أن تكون على معنى في والمعنى أن ما يفتخرون به من المال والبنين شيء يتزين به في الحياة وقد علم شأنها في سرعة الزوال وقرب الاضمحلال فما الظن بما هو من أوصافها التي شأنها أن تزول قبل زوالها.
وذكر أن هذا إشارة إلى ما يرد افتخارهم بالمال والبنين كأنه قيل: المال والبنون زينة الحياة الدنيا وكل ما كان زينة الحياة الدنيا فهو سريع الزوال ينتج المال والبنون سريعًا الزوال، أما الصغرى فبديهية وأما الكبرى فدليلها يعلم مما مر من بيان شأن نفس الحياة الدنيا ثم يقال: المال والبنون سريعًا الزوال وكل ما كان سريع الزوال يقبح بالعاقل أن يفتخر به ينتج المال والبنون يقبح بالعاقل أن يفتخر بهما وكلتا المتقدمين لا خفاء فيها.
{والباقيات الصالحات} أخرج سعيد بن منصور وأحمد وأبو يعلى وابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه والحاكم وصححه عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «استكثروا من الباقيات الصالحات قيل وما هي يا رسول الله؟ قال: التكبير والتهليل والتسبيح والتحميد ولا حول ولا قوة إلا بالله» وأخرج الطبراني وابن شاهين في الترغيب وابن مردويه عن أبي الدرداء قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله هن الباقيات الصالحات وهن يحططن الخطايا كما تحط الشجرة ورقها وهن من كنوز الجنة» وجاء تفسيرها بما ذكر في غير ذلك من الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأخرج ابن المنذر وابن أبي شيبة عن ابن عباس تفسيرها بما ذكر أيضًا لكن بدون الذكر الأخير وأخرج ابن أبي حاتم وابن المنذر في رواية أخرى عنه تفسيرها بالصلوات الخمس، وأخرج ابن مردويه وابن المنذر وابن أبي حاتم في رواية أخرى عنه أيضًا تفسيرها بجميع أعمال الحسنات، وفي معناه ما أخرجه ابن أبي حاتم وابن مردويه عن قتادة أنها كل ما أريد به وجه الله تعالى، وعن الحسن وابن عطاى أنها النيات الصالحة؛ واختار الطبري وغيره ما في الرواية الأخيرة عن ابن عباس ويندرج فيها ما جاء في ما ذكر من الروايات وغيرها.
وادعى الخفاجي أن كل ما ذكر في تفسيرها غير العام ذكر على طريق التمثيل، ويبعد ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: «وهن الباقيات» المفيد للحصر بعد التنصيص على ما لا عموم فيه فتأمل، وأيًا ما كان فالباقيات صفة لمقدر كالكلمات أو الأعمال وإسناد الباقيات إلى ذلك مجاز أي الباقي ثمرتها وثوابها بقرينة ما بعد فهي صفة جرت على غير ما هي له بحسب الأصل أو هناك مقدر مرفوع بالوصف مضاف إلى ضمير الموصوف استتر الضمير المجرور وارتفع بعد حذفه وكذا تدخل أعمال فقراء المؤمنين الذي يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه دخولًا أوليًا فإن لهم من كل نوع من أنواع الخيرات الحظ الأوفر، والكلام متضمن للتنويه بشأنهم وحط قدر شانئهم فكأنه قيل ما افتخر به أولئك الكفرة من المال والبنين سريع الزوال لا ينبغي أن يفتخر به وما جاء به أولئك المؤمنين {خَيْرٌ} من ذلك {عِندَ رَبّكَ} أي في الآخرة، وهو بيان لما يظهر فيه آثار خيريتها بمنزلة إضافة الزينة إلى الحياة الدنيا لا لأفضليتها من المال والبنبن مع مشاركة الكل في الأصل إذ لا مشاركة لهما في الخيرية في الآخرة، وقيل: معنى عند ربك في حكمه سبحانه وتعالى: {ثَوَابًا} جزاء وأجرًا، وقيل: نفعًا.
{وَخَيْرٌ أَمَلًا} حيث ينال بها صاحبها في الآخرة ما يؤمله بها في الدنيا وأما المال والبنون فليس لصاحبهما ذلك، وتكرير {خَيْرٌ} للمبالغة، وقيل: لها وللإشعار باختلاف جهتي الخيرية. اهـ.

.قال الشوكاني:

{وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ}.
ثم ضرب سبحانه مثلًا آخر لجبابرة قريش فقال: {واضرب لَهُم مَّثَلَ الحياة الدنيا} أي: اذكر لهم ما يشبه الحياة الدنيا في حسنها ونضارتها وسرعة زوالها لئلا يركنوا إليها، وقد تقدّم هذا المثل في سورة يونس، ثم بيّن سبحانه هذا المثل فقال: {كَمَاء أَنزَلْنَاهُ مِنَ السماء} ويجوز أن يكون هذا هو المفعول الثاني {لقوله} اضرب على جعله بمعنى: صير {فاختلط بِهِ نَبَاتُ الأرض} أي: اختلط بالماء نبات الأرض حتى استوى؛ وقيل: المعنى إن النبات اختلط بعضه ببعض حين نزل عليه الماء، لأن النبات إنما يختلط ويكثر بالمطر، فتكون الباء في {به} سببية {فَأَصْبَحَ} النبات {هَشِيمًا} الهشيم: الكسير، وهو من النبات ما تكسر بسبب انقطاع الماء عنه وتفتت، ورجل هشيم: ضعيف البدن، وتهشم عليه فلان: إذا تعطف.
واهتشم ما في ضرع الناقة إذا احتلبه، وهشم الثريد كسره وثرده، ومنه قول ابن الزبعري:
عمرو الذي هشم الثريد لقومه ** ورجال مكة مسنتون عجاف

{تَذْرُوهُ الرياح} تفرقه.
قال أبو عبيدة وابن قتيبة: تذروه: تنسفه.
وقال ابن كيسان: تذهب به وتجيء، والمعنى متقارب.
وقرأ طلحة بن مصرّف {تذريه الريح} قال الكسائي: وفي قراءة عبد الله {تذريه} يقال: ذرته الريح تذروه، وأذرته تذريه.
وحكى الفراء: أذريت الرجل عن فرسه أي: قلبته {وَكَانَ الله على كُلّ شيء مُّقْتَدِرًا} أي: على كل شيء من الأشياء يحييه ويفنيه بقدرته لا يعجز عن شيء {المال والبنون زِينَةُ الحياة الدنيا} هذا ردّ على الرؤساء الذين كانوا يفتخرون بالمال والغنى والأبناء فأخبرهم سبحانه أن ذلك مما يتزين به في الدنيا لا مما ينفع في الآخرة، كما قال في الآية الأخرى {إِنَّمَا أموالكم وأولادكم فِتْنَةٌ} [التغابن: 15].
وقال: {إِنَّ مِنْ أزواجكم وأولادكم عَدُوًّا لَّكُمْ فاحذروهم} [التغابن: 14].
ولهذا عقب هذه الزينة الدنيوية بقوله: {والباقيات الصالحات} أي: أعمال الخير، وهي ما كان يفعله فقراء المسلمين من الطاعات {خَيْرٌ عِندَ رَبّكَ ثَوَابًا} أي: أفضل من هذه الزينة بالمال والبنين ثوابًا، وأكثر عائدة ومنفعة لأهلها {وَخَيْرٌ أَمَلًا} أي أفضل أملًا، يعني: أن هذه الأعمال الصالحة لأهلها من الأمل أفضل مما يؤمله أهل المال والبنين، لأنهم ينالون بها في الآخرة أفضل مما كان يؤمله هؤلاء الأغنياء في الدنيا، وليس في زينة الدنيا خير حتى تفضل عليها الآخرة، ولكن هذا التفضيل خرّج مخرج قوله تعالى: {أصحاب الجنة يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُّسْتَقَرًّا} [الفرقان: 24].
والظاهر أن الباقيات الصالحات كل عمل خير فلا وجه لقصرها على الصلاة كما قال بعض، ولا لقصرها على نوع من أنواع الذكر كما قاله بعض آخر، ولا على ما كان يفعله فقراء المهاجرين باعتبار السبب، لأن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، وبهذا تعرف أن تفسير الباقيات الصالحات في الأحاديث بما سيأتي لا ينافي إطلاق هذا اللفظ على ما هو عمل صالح من غيرها.
وقد أخرج ابن أبي حاتم عن عليّ قال: {المال والبنون} حرث الدنيا والعمل الصالح حرث الآخرة، وقد جمعهما الله لأقوام.
وأخرج ابن أبي شيبة، وابن المنذر عن ابن عباس في قوله: {والباقيات الصالحات} قال: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر.
وأخرج سعيد بن منصور، وأحمد، وأبو يعلى، وابن جرير، وابن أبي حاتم، وابن حبان، والحاكم وصححه، وابن مردويه عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «استكثروا من الباقيات الصالحات، قيل: وما هنّ يا رسول الله؟ قال: التكبير والتهليل والتسبيح والتحميد ولا حول ولا قوّة إلا بالله»، وأخرج الطبراني وابن شاهين وابن مردويه عن أبي الدرداء مرفوعًا بلفظ: «سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، ولا حول ولا قوّة إلا بالله، هنّ الباقيات الصالحات» وأخرج النسائي، وابن جرير، وابن أبي حاتم، والطبراني في الصغير، والحاكم وصححه، وابن مردويه، والبيهقي عن أبي هريرة مرفوعًا: «خذوا جِنَّتَكم، قيل: يا رسول الله من أيّ عدوّ قد حضر؟ قال: بل جِنَّتَكم من النار قول: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر، فإنهنّ يأتين يوم القيامة مقدّمات معقبات ومجنبات، وهي الباقيات الصالحات» وأخرج سعيد بن منصور، وأحمد، وابن مردويه عن النعمان بن بشير، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ألا وإن سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، الباقيات الصالحات» وأخرج ابن مردويه نحوه من حديث أنس مرفوعًا، وزاد التكبير وسماهنّ الباقيات الصالحات.
وأخرج ابن مردويه نحوه من حديث أبي هريرة. وأخرج ابن أبي شيبة، وابن المنذر، وابن مردويه من حديث عائشة مرفوعًا نحوه، وزادت: «ولا حول ولا قوة إلا بالله» وأخرج ابن أبي حاتم، وابن مردويه من حديث عليّ مرفوعًا نحوه.
وأخرج ابن مردويه من طريق الضحاك عن ابن عباس مرفوعًا فذكر نحوه دون الحوقلة.
وأخرج الطبراني عن سعد بن جنادة مرفوعًا نحوه.
وأخرج البخاري في تاريخه، وابن جرير عن ابن عمر من قوله نحوه.
وأخرج ابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن مردويه عن ابن عباس من قوله نحوه.
وكل هذه الأحاديث مصرحة بأنها الباقيات الصالحات، وأما ما ورد في فضل هذه الكلمات من غير تقييد بكونها المرادة في الآية فأحاديث كثيرة لا فائدة في ذكرها هنا.
وأخرج ابن أبي شيبة، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن قتادة قال: كل شيء من طاعة الله، فهو من الباقيات الصالحات. اهـ.

.قال القاسمي:

{وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} أي: اذكر لهم ما تشبهه في زهرتها وسرعة زوالها: {كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ} أي: فالتف بسببه وتكاثف، حتى خالط بعضه بعضًا، فشب وحسن وعلاه الزهر والنور والنضرة: {فَأَصْبَحَ} أي: بعد ذلك الزهو: {هَشِيمًا} أي: جافًا يابسًا مكسورًا: {تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ} أي: تفرقه وتنسفه ذات اليمين وذات الشمال كأن لم يكن، وهكذا حال الدنيا وحال مجرميها، فإن ما نالهم من شرف الحياة كالذي حصل للنبات من شرف النمو. ثم يزولون زوال النبات: {وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا} أي: على كل من الإنشاء والإفناء كامل القدرة. ولما كان هذا المثل للحياة الدنيا من أبهج المُثُل وأبدعها، ضرب كثيرًا في التنزيل، كقوله تعالى في سورة يونس: {إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ} [يونس: 24]. وفي الزمر: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ} [الزمر: 21] الآية. وفي الحديد: {اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ} [الحديد: 20] الآية. ثم بين تعالى شأن ما كانوا يفتخرون من محسنات الدنيا، بقوله: {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا}.
وذلك لإعانتهما فيها، ووجود الشرف بهما ثم أشار إلى أنهما ليسا من أسباب الشرف الأخروي، إذ لا يحتاج فيها إليهما، بقوله: {وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا} أي: والأعمال التي تبقى ثمراتها الأخروية، من الاعتقادات والأخلاق والعبادات الكاملات، خير عند ربك من المال والبنين، في الجزاء والفائدة وخير مما يتعلق بهما من الأمل. فإن ما ينال بهما من الآمال الدنيوية، أمرها إلى الزوال. وما ينال بالباقيات الصالحات من منازل القرب الرباني والنعيم الأبدي، لا يزول ولا يحول.
لطائف:
1- تقديم المال على البنين لعراقته فيما نيط به من الزينة والإمداد. ولكون الحاجة إليه أمسّ. ولأنه زينة بدونهم، من غير عكس.
2- إفراد الزينة مع أنها مسندة إلى الاثنين، لما أنها مصدر في الأصل. أطلق على المفعول مبالغة. كأنها نفس الزينة. وإضافتها إلى الحياة اختصاصية، لأن زينتها مختصة بها.
3- إخراج بقاء الأعمال وصلاحها، مخرج الصفات المفروغ عنها، مع أن حقهما أن يكونا مقصودي الإفادة، لاسيما في مقابلة إثبات الفناء لما يقابلهما من المال والبنين على طريقة: {مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ} [النحل: 96]، للإيذان بأن بقاءها أمر محقق لا حاجة إلى بيانه. بل لفظ الباقيات اسم لها لا وصف. ولذلك لم يذكر الموصوف. وإنما الذي يحتاج إلى التعرض له خيريّتها.
4- تكرير خير للإشعار باختلاف حيثيتي الخيرية والمبالغة. كذا يستفاد من أبي السعود، مع زيادة.
5- وقع في كلام السلف تفسير الباقيات الصالحات بالصلوات وأعمال الحج والصدقات والصوم والجهاد والعتق وقوله: «سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر» والكلام الطيب، وبغيرهما، مما روي مرفوعا وموقوفا. والمرفوع من ذلك كله لم يخرّج في الصحيحين. وكله على طريق التمثيل. وإن اللفظ الكريم يتناولها لكونها من أفراده. اهـ.