فصل: قال الشعراوي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الشعراوي:

{وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا (47)} أي: اذكر جيدًا يوم نُسيِّر الجبال وتنتهي هذه الدنيا، واعمل الباقيات الصالحات لأننا سنُسيّر الجبال التي تراها ثابتة راسخة تتوارث الأجيال حجمها وجِرْمها، وقوتها وصلابتها، وهي باقية على حالها. ومعنى تسيير الجبال: إزالتها عن أماكنها، كما قال في آية أخرى: {وَسُيِّرَتِ الجبال فَكَانَتْ سَرَابًا} [النبأ: 20].
وقال في آية أخرى {وَإِذَا الجبال سُيِّرَتْ} [التكوير: 3] وقال: {وَإِذَا الجبال نُسِفَتْ} [المرسلات: 10] وقال: {يَوْمَ تَكُونُ السماء كالمهل وَتَكُونُ الجبال كالعهن} [المعارج: 8-9]. ونلحظ أن الحق سبحانه ذكر أقوى مظهر ثابت في الحياة الدنيا، وإلا ففي الأرض أشياء أخرى قوية وثابتة كالعمائر ناطحات السحاب، والشجر الكبير الضخم المعمّر وغيرها كثير. فإذا كان الحق سبحانه سينسف هذه الجبال ويُزيلها عن أماكنها، فغيرها مما على وجه الأرض زائل من باب أَوْلَى.
ثم يقول سبحانه: {وَتَرَى الأرض بَارِزَةً} [الكهف: 47].
الأرض: كُلّ ما أقلَّك من هذه البسيطة التي نعيش عليها، وكل ما يعلوك ويُظِلُّك فهو سماء، ومعنى: {بَارِزَةً} البَرَازُ: هو الفضاء، أي: وترى الأرض فضاءً خالية مما كان عليها من أشكال الجبال والمباني والأشجار، حتى البحر الذي يغطي جزءًا كبيرًا من الأرض.
كل هذه الأشكال ذهبتْ لا وجودَ لها، فكأن الأرض بَرزَتْ بعد أنْ كانت مختبئة: بعضها تحت الجبال، وبعضها تحت الأشجار، وبعضها تحت المباني، وبعضها تحت الماء، فأصبحتْ فضاء واسعًا، ليس فيه مَعْلَمٌ لشيء.
ومن ذلك ما نُسمِّيه نحن المبارزة، فنرى الفتوة يقول للآخر اطلع لي بره أي: في مكان خال حتى لا يجد شيئًا يحتمي به، أو حائطًا مثلًا يستند عليه، وبرز فلان لفلان وبارزه أي: صارعه.
{وَحَشَرْنَاهُمْ} [الكهف: 47] أي: جمعناهم ليوم الحساب؛ لأنهم فارقوا الدنيا على مراحل من لَدُن آدم عليه السلام، والموت يحصد الأرواح، وقد جاء اليوم الذي يُجمع فيه هؤلاء.
{فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا} [الكهف: 47] أي: لم نترك منهم واحدًا، الكلُّ معرض على الله، وكلمة {نُغَادِرْ} [الكهف: 47] ومادة غدر تؤدي جميعها معنى الترْك، فالغدر مثلًا تَرْك الوفاء وخيانة الأمانة، حتى غدير وهو جدول الماء الصغير سُمِّي غديرًا؛ لأن المطر حينما ينزل على الأرض يذهب ويترك شيئًا قليلًا في المواطئ.
ثم يقول الحق سبحانه: {وَعُرِضُواْ على رَبِّكَ صَفًَّا لَّقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ}.
قوله تعالى: {وَعُرِضُواْ على رَبِّكَ صَفًَّا} [الكهف: 48] العرض: أن يستقبل العارض المعروضَ استقبالًا مُنظّمًا يدلّ على كُلِّ هيئاته، كما يستعرض القائد الجنود في العرض العسكري مثلًا، فيرى كل واحد من جنوده {صَفًّا} أي: صُفوفًا منتظمة، حتى الملائكة تأتي صُفوفًا، كما قال تعالى: {وَجَاءَ رَبُّكَ والملك صَفًّا صَفًّا} [الفجر: 22].
أي: أنها عملية مُنظمة لا يستطيع فيها أحد التخفي، ولن يكون لأحد منها مفَرٌّ، وهي صفوف متداخلة بطريقة لا يُخِفي فيها صَفٌّ الصفَّ الذي يليه، فالجميع واضح بكل أحواله.
وفي الحديث عن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «يَحشر الله الخَلْق ثم ينادي: يا عبادي أحضروا حُجتكم ويسِّروا جوابكم، فإنكم مجموعون مُحَاسَبُون مَسْئولون، يا ملائكتي أقيموا عبادي صفوفًا على أطراف أنامل أقدامهم للحساب».
ولك أنْ تتصوَّر المعاناة والألم الذي يجده مَنْ يقف على أطراف أنامل قدميْه؛ لأن ثقل الجسم يُوزَّع على القدمين في حال الوقوف، وعلى المقعدة في حال الجلوس، وعلى الجسم كله في حال النوم، وهكذا يخفّ ثقل الجسم حسب الحالة التي هو عليها، فإنْ تركّز الثقل كله على أطراف أنامل القدمين، فلا شَكَّ أنه وَضْع مؤلم وشاقّ، يصعُب على الناس حتى إنهم ليتمنون الانصراف ولو إلى النار.
ثم يقول تعالى: {لَّقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} [الكهف: 48].
أي: على الحالة التي نزلتَ عليها من بطن أمك عريانًا، لا تملك شيئًا حتى ما يستر عورتك، وقد فُصِّل هذا المعنى في قوله تعالى: {وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فرادى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَّا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نرى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الذين زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنكُم مَّا كُنتُمْ تَزْعُمُونَ} [الأنعام: 94].
وقوله تعالى: {بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّن نَّجْعَلَ لَكُمْ مَّوْعِدًا} [الكهف: 48] والخطاب هنا مُوجَّه للكفار الذين أنكروا البعث والحساب {زَعَمْتُمْ} [الكهف: 48] والزعْم مطيّة الكذب.
ثم يقول الحق سبحانه: {وَوُضِعَ الكتاب فَتَرَى المجرمين مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ}.
قوله تعالى: {وَوُضِعَ الكتاب} [الكهف: 49] أي: وضعته الملائكة بأمر من الله تعالى، فيعطون كل واحد كتابه، فهي إذن صور متعددة، فمَنْ أخذ كتابه بيمينه فرح وقال: {هَآؤُمُ اقرءوا كِتَابيَهْ} [الحاقة: 19] يعرضه على ناس، وهو فخور بما فيه؛ لأنه كتاب مُشرِّف ليس فيه ما يُخجل؛ لذلك يتباهى به ويدعو الناس إلى قراءته، فهو كالتلميذ الذي حصل على درجات عالية، فطار بها ليعرضها ويذيعها.
وهذا بخلاف مَنْ أوتي كتابه بشماله فإنه يقول: {ياليتني لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ ياليتها كَانَتِ القاضية مَآ أغنى عَنِّي مَالِيَهْ هَّلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ} [الحاقة: 25-29].
إنه الخزي والانكسار والندم على صحيفة مُخْجِلة.
{فَتَرَى المجرمين مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ} [الكهف: 49] أي: خائفين يرتعدون، والحق سبحانه وتعالى يصور لنا حالة الخوف هذه لِيُفزع عباده ويُحذِّرهم ويُضخِّم لهم العقوبة، وهم ما يزالون في وقت التدارك والتعديل من السلوك، وهذا من رحمة الله تعالى بعباده.
فحالتهم الأولى الإشفاق، وهو عملية هبوط القلب ولجلجته، ثم يأتي نزوع القول: {وَيَقُولُونَ ياويلتنا} [الكهف: 49] يا: أداة للنداء، كأنهم يقولون: يا حسرتنا يا هلاكنا، هذا أوانُك فاحضري.
ومن ذلك قوله تعالى في قصة ابني آدم عليه السلام لما قتل قابيل هابيل، وكانت أول حادثة قتل، وأول ميت في ذرية آدم؛ لذلك بعث الله له غرابًا يُعلِّمه كيف يدفن أخاه، فقال: {يَاوَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هذا الغراب فَأُوَارِيَ سَوْءَةَ أَخِي} [المائدة: 31] {يَاوَيْلَتَا} [المائدة: 31] يا هلاكي كأن يتحسَّر على ما أصبح فيه، وأن الغراب أعقل منه، وأكثر منه خبرة؛ لكي لا نظلم هذه المخلوقات ونقول: إنها بهائم لا تَفهم، والحقيقة: ليتنا مثلهم.
قوله تعالى: {مَالِ هذا الكتاب لاَ يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا} [الكهف: 49] أي: لا يترك كبيرة أو صغيرة إلا عدَّها وحسبها {وَوَجَدُواْ مَا عَمِلُواْ حَاضِرًا} [الكهف: 49] فكل ما فعلوه مُسجَّل مُسطّر في كُتبهم {وَلاَ يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} [الكهف: 49] لأنه سبحانه وتعالى عادل لا يؤاخذهم إلا بما عملوه. اهـ.

.التفسير المأثور:

قال السيوطي:
{الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا (46)}.
أخرج ابن أبي حاتم والخطيب، عن سفيان الثوري قال: كان يقال إنما سمي المال، لأنه يميل بالناس، وإنما سميت الدنيا لأنها دنت.
وأخرج ابن أبي حاتم، عن عياض بن عقبة أنه مات له ابن يقال له يحيى، فلما نزل في قبره قال له رجل: والله إن كان لسيد الجيش فاحتسبه. فقال: وما يمنعني أن أحتسبه؟ وكان أمس من زينة الدنيا، وهو اليوم من الباقيات الصالحات.
وأخرج ابن أبي حاتم، عن علي بن أبي طالب قال: {المال والبنون} حرث الدنيا، والعمل الصالح حرث الآخرة، وقد يجمعهما الله لأقوام.
وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر، عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله: {والباقيات الصالحات} قال سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله. والله أكبر.
وأخرج سعيد بن منصور وأحمد وأبو يعلى وابن جرير وابن أبي حاتم وابن حبان والحاكم وصححه وابن مردويه، عن أبي سعيد الخدري: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «استكثروا من الباقيات الصالحات قيل: وما هن يا رسول الله؟ قال: التكبير والتهليل والتسبيح والتحميد ولا حول ولا قوة إلا بالله».
وأخرج سعيد بن منصور وأحمد وابن مردويه، عن النعمان بن بشير: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ألا وأن سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر من الباقيات الصالحات».
وأخرج النسائي وابن جرير وابن أبي حاتم والطبراني في الصغير والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «خذوا جنتكم. قيل: يا رسول الله أمن عدوّ قد حضر قال: لا. بل جنتكم من النار قول: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر فإنهن يأتين يوم القيامة مقدمات معقبات محسنات وهن الباقيات الصالحات».
وأخرج الطبراني وابن شاهين في الترغيب في الذكر وابن مردويه، عن أبي الدرداء قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله هن الباقيات الصالحات وهن يحططن الخطايا كما تحط الشجرة ورقها وهن من كنوز الجنة».
وأخرج ابن مردويه، عن أنس بن مالك قال: «مر رسول الله صلى الله عليه وسلم بشجرة يابسة، فتناول عودًا من أعوادها فتناثر كل ورق عليها فقال: والذي نفسي بيده، إن قائلًا يقول: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر لتتناثر الذنوب عن قائلها، كما يتناثر الورق عن هذه الشجرة قال الله في كتابه: هن {الباقيات الصالحات}».
وأخرج أحمد، عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر تنفض الخطايا كما تنفض الشجرة ورقها».
وأخرج ابن أبي شيبة ومسلم والنسائي والبيهقي في الأسماء والصفات، عن سمرة بن جندب: ما من الكلام شيء أحب إلى الله من الحمد لله وسبحان الله ولا إله إلا الله والله أكبر هن أربع فلا تكثر علي لا يضرك بأيهن بدأت.
وأخرج ابن مردويه، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن عجزتم عن الليل أن تكابدوه، والعدوّ، أن تجاهدوه، فلا تعجزوا عن قول: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر فإنهن الباقيات الصالحات».
وأخرج ابن مردويه، عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «خذوا جنتكم من النار، قولوا سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله، فإنهن المقدمات، وإنهن المؤخرات، وهن المنجيات، وهن الباقيات الصالحاتة».
وأخرج ابن أبي شيبة، وابن المنذر وابن مردويه، عن عائشة: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ذات يوم لأصحابه «خذوا جنتكم» مرتين، أو ثلاثًا، قالوا: من عدوّ حضر؟ قال: «بل من النار. قولوا سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله، فإنهن يجئن يوم القيامة مقدمات ومحسنات ومعقبات وهن الباقيات الصالحات».
وأخرج ابن مردويه، عن علي: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «الباقيات الصالحات من قال: لا إله إلا الله والله أكبر وسبحان الله والحمد لله ولا حول ولا قوة إلا بالله».