فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وأجيب عن هذا بما أشرنا إليه آنفًا وبغيره مما لا يخفى، وإلى ذلك ذهب ابن جبير، وقد روي عنه جماعة أنه قال: الجن في الآية حي من الملائكة لم يزالوا يصوغون حلى أهل الجنة حتى تقوم الساعة، وفي رواية أخرى عنه أن معنى {كَانَ مِنَ الجن} كان من خزنة الجنان وهو تأويل عجيب، ومثله ما أخرجه أبو الشيخ في العظمة عن قتادة أن معنى كونه من الجن أنه أجن عن طاعة الله تعالى أي ستر ومنع، ورواية الكثير عنه أنه قائل بما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وقيل: هو من الملائكة ومعنى {كَانَ مِنَ الجن} صار منهم بالمسخ، وقيل: معنى ذلك أنه عد منهم لموافقته إياهم في المعصية حيث أنهم كانوا من قبل عاصين فبعثت طائفة من الملائكة عليهم السلام لقتالهم، وأنت تعلم أنه يشق الجواب على من ادعى أن إبليس من الملائكة مع دعواه عصمتهم، ولابد أن يرتكب خلاف الظاهر في هذه الآية، نعم مسألة عصمتهم عليهم السلام خلافية ولا قاطع في العصمة كما قال العلامة التفتازاني.
وقد ذكر القاضي عياض أن طائفة ذهبوا إلى عصمة الرسل منهم والمقربين عليهم السلام ولم يقولوا بعصمة غيرهم، وإذا ذهب مدعي كون إبليس من الملائكة إلى هذا لم يتخلص من الاعتراض إلا بزعم أنه لم يكن من المقربين ولا تساعده الآثار على ذلك، ويبقى عليه أيضًا أن الآية تأبى مدعاه، وكذا لو ذهب إلى ما نقل عن بعض الصوفية من أن ملائكة الأرض لم يكونوا معصومين وكان إبليس عليه اللعنة منهم {فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبّهِ} أي فخرج عن طاعته سبحانه كما قال الفراء، وأصله من فسق الرطب إذا خرج عن قشره، وسموا الفأرة فاسقه لخروجها من جحرها من البابين ولهذا عدي بعن كما في قول رؤبة:
يهوين في نجد وغورًا غائرا ** فواسقا عن قصدها جوائرًا

والظاهر أن الفسق بهذا المعنى مما تكلمت به العرب من قبل، وقال أبو عبيدة: لم نسمع ذلك في شيء من أشعار الجاهلية ولا أحاديثها وإنما تكلم به العرب بعد نزول القرآن، ووافقه المبرد على ذلك فقال: الأمر على ما ذكره أبو عبيدة، وهي كلمة فصيحة على ألسنة العرب، وكأن ما ذكره الفراء بيان لحاصل المعنى إذ ليس الأمر بمعنى الطاعة أصلًا بل هو إما بمعنى المأمور به وهو السجود وخروجه عنه بمعنى عدم اتصافه به، وإما قوله تعالى: {اسجدوا} وخروجه عنه مخالفته له، وكون حاصل المعنى ذلك على المعنيين ظاهر، وقيل: {عَنْ} للسببية كما في قولهم كسوته عن عرى وأطعمته عن جوع أي فصار فاسقًا كافرًا بسبب أمر الله تعالى الملائكة المعدود هو في عدادهم إذ لولا ذلك الأمر ما تحقق إباء.
وإلى ذلك ذهب قطرب إلا أنه قال: أي ففسق عن رده أمر ربه، ويحتمل أن يكون تقدير معنى وأن يكون تقدير إعراب؛ وجوز على تقدير السببية أن يراد بالأمر المشيئة أي ففسق بسبب مشيئة الله تعالى فسقه ولولا ذلك لأطاع والأظهر ما ذكر أولًا والفاء سببية عطفت ما بعدها على قوله تعالى: {كَانَ مِنَ الجن} وأفادت تسبب فسقه عن كونه من الجن إذ شأنهم التمرد لكدورة مادتهم وخباثة ذاتهم والذي حبث لا يخرج إلا نكدا وإن كان منهم من أطاع وآمن، وجوز أن يكون العطف على ما يفهم من الاستثناء كأنه قيل: فسجدوا إلا إبليس أبى عن السجود ففسق، وتفيد حينئذ تسبب فسقه عن آبائه وتركه السجود.
وقيل: إنها هنا غير عاطفة إذ لا يصح تعليل ترك السجود وآبائه عنه بفسقه عن أمر ربه تعالى.
قال الرضى: والفاء التي لغير العطف وهي التي تسمى فاء السببية لا تخلو أيضًا من معنى الترتيب وتختص بالجمل وتدخل على ما هو جزاء مع تقدم كلمة الشرط وبدونها انتهى.
وليس بشيء لأنه يكفي لصحة ترتب الثاني تسببه كما في {فوكزه موسى فقضى عليه} [القصص: 15] كما صرح به في التسهيل وهنا كذلك والتعرض لعنوان الربوبية المنافية للفسق لبيان قبح ما فعله والمراد من الأمر بذكر وقت القصة ذكر القصة نفسها لما فيها من تشديد النكير على المتكبرين المفتخرين بانسابهم وأموالهم المستنكفين عن الانتظام في سلك فقراء المؤمنين ببيان أن ذلك من صنيع إبليس وأنهم في ذلك تابعون لتسويله كما ينبىء عنه ما يأتي إن شاء الله تعالى، ومنه يعلم وجه الربط، وجوز أن يكون وجه أنه تعالى لما بين حال المغرور بالدنيا والمعرض عنها وكان سبب الاغترار بها حب الشهوات وتسويل الشيطان زهده سبحانه أولًا بزخارف الدنيا بأنها عرضة الزوال وشيكة الانتقال والباقيات الصالحات خير ثوابًا وأحسن أملا من أنفسها وأعلاها ثم نفرهم عن الشيطان بتذكير ما بينهم من العداوة القديمة، واختار أبو حيان في وجهه أنه سبحانه لما ذكر يوم القيامة والحشر وذكر خوف المجرمين مما سطر في كتبهم وكان إبليس اللعين هو الذي حملهم على المعاصي واتخاذ الشركاء ناسب ذكر إبليس والتنفير عنه تبعيدًا عن المعاصي وعن امتثال ما يوسوس به ويدعو إليه.
وأيًا ما كان فلا يعد ذكر هذه القصة هنا مع ذكرها قبل تكرارًا لأن ذكرها هنا لفائدة غير الفائدة التي ذكرت لها فيما قبل وهكذا ذكرها في كل موضع ذكرت فيه من الكتاب الجليل، ومثل هذا يقال في كل ما هو تكرار بحسب الظاهر فيه. ولا يخفى أن أكثر المكررات ظاهرًا مختلفة الأساليب متفاوتة الألفاظ والعبارات وفي ذلك من الأسرار الإلهية ما فيه فلا يستزلنك الشيطان.
{أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرّيَّتَهُ أَوْلِيَاء مِن دُونِى} الهمزة للإنكار والتعجيب والفاء للتعقيب، والمراد إما إنكار أن يعقوب اتخاذه وذريته أولياء العلم بصدور ما صدر منه مع التعجب من ذلك، وإما تعقيب إنكار الاتخاذ المذكور والتعجيب منه أعلام الله تعالى بقبح صنيع اللعين فتأمل، والظاهر أن المراد من الذرية الأولاد فتكون الآية دالة على أنه له أولادًا وبذلك قال جماعة، وقد روي عن ابن زيد أن الله تعالى قال لابليس: أتى لا أخلق لآدم ذرية إلا ذرأت لك مثلها فليس يولد لآدم ولد إلا ولد معه شيطان يقرن به، وعن قتادة أنه قال: إنه ينكح وينسل كما ينسل بنو آدم.
وذكر في البحر أن من القائلين بذلك أيضًا الضحاك والأعمش والشعبي ونقل عن الشعبي أنه قال: لا تكون ذرية إلا من زوجة فيكون قائلًا بالزوجة، والذي في الدر المنثور برواية ابن المنذر عنه أنه سئل عن إبليس هل له زوجة؟ فقال: إن ذلك لعرس ما سمعت به، وأخرج ابن أبي الدنيا في المكائد وابن أبي حاتم عن مجاهد أنه قال: ولد إبليس خمسة ثبر وهو صاحب المصائب والأعور وداسم لا أدري ما يعملان ومسوط وهو صاحب الصخب وزلبنور وهو الذي يفرق بين الناس ويبصر الرجل عيوب أهله وفي رواية أخرى عنه أن الأعور صاحب الزنا ومسوط صاحب أخبار الكذب يلقيها على أفواه الناس ولا يجدون لها أصلًا وراسم صاحب البيوت إذا دخل الرجل بيته ولم يسم دخل معه وإذا أكل ولم يسم أكل معه وزلبنور صاحب الأسواق وكان هؤلاء الخمسة من خمس بيضات باضها اللعين، وقيل إنه عليه اللعنة يدخل ذنبه في دبره فيبيض فتنفلق البيضة عن جماعة من الشياطين.
وأخرج ابن أبي حاتم عن سفيان أن جميع ذريته من خمس بيضات باضها قال: وبلغني أنه يجتمع على مؤمن واحد أكثر من ربيعة ومضر والله تعالى أعلم بصحة هذه الأخبار، وقال بعضهم: لا ولد له، والمراد من الذرية الاتباع من الشياطين، وعبر عنهم بذلك مجازًا تشبيهًا لهم بالأولاد، وقيل ولعله الحق إن له أولادًا واتباعًا، ويجوز أن يراد من الذرية مجموعهما معًا على التغليب أو الجمع بين الحقيقة والمجاز عند من يراه أو عموم المجاز.
وقد جاء في بعض الأخبار أن ممن ينسب إليه بالولاد من آمن بنوح وإبراهيم وموسى وعيسى ونبينا صلى الله عليه وسلم وهو هامة رضي الله تعالى عنه وسبحان من يخرج الحي من الميت، ولا يلزمنا أن نعلم كيفية ولادته فكثير من الأشياء مجهول الكيفية عندنا ونقول به فليكن من هذا القبيل إذا صح الخبر فيه.
واستدل نافي ملكيته بظاهر الآية حيث أفادت أنه له ذرية والملائكة ليس لهم ذلك.
ولمدعيها أن يقول بعد تسليم حمل الذرية على الأولاد إنه بعد أن عصى مسخ وخرج عن الملكية فصار له أولاد ولم تفد الآية أن له أولادًا قبل العصيان والاستدلال بها لا يتم إلا بذلك، وقوله تعالى: {مِن دُونِى} في موضع الحال أي أفتتخذونهم أولياء مجاوزين عني إليهم وتستبدلونهم بي فتطيعونهم بدل طاعتي {وَهُمْ} أي والحال أن إبليس وذريته {لَكُمْ عَدُوٌّ} أي أعداء كما في قوله تعالى: {فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِى إِلاَّ رَبَّ العالمين} [الشعراء: 77] وقوله تعالى: {هُمُ العدو} [المنافقون: 4] وإنما فعل به ذلك تشبيهًا بالمصادر نحو القبول والولوع، وتقييد الاتخاذ بالجملة الحالية لتأكيد الإنكار وتشديده فإن مضمونها مانع من وقوع الاتخاذ ومناف له قطعًا:
ومن نكد الدنيا على الحر أن يرى ** عدوا له ما من صداقته بد

{بِئْسَ للظالمين} الواضعين للشيء في غير موضعه {بَدَلًا} أي من الله سبحانه، وهو نصب على التمييز وفاعل {بِئْسَ} ضمير مستتر يفسره هو والمخصوص بالذم محذوف أي بئس البدل من الله تعالى للظالمين إبليس وذريته، وفي الالتفات إلى الغيبة مع وضع الظالمين موضع ضمير المخاطبين من الإيذان بكمال السخط والإشارة إلى أن ما فعلوه ظلم قبيح ما لا يخفى. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ}.
عطف على جملة {ويوم نسير الجيال} [الكهف: 47] بتقدير: واذكر إذ قلنا للملائكة، تفننا لغرض الموعظة الذي سيقت له هذه الجمل، وهو التذكير بعواقب اتباع الهوى والأعراضُ عن الصالحات، وبمداحض الكبرياء والعُجب واحتقار الفضيلة والابتهاج بالأعراض التي لا تكسب أصحابها كمالًا نفسيًا.
6 وكما وُعظوا بآخر أيام الدنيا ذُكروا هنا بالموعظة بأول أيامها وهو يوم خلق آدم، وهذا أيضًا تمهيد وتوطئة لقوله: {ويوم يقول نادوا شركائي الذين زعمتم} الآية [الكهف: 52]، فإن الإشراك كان من غرور الشيطان ببني آدم.
ولها أيضًا مناسبة بما تقدم من الآيات التي أنحت على الذين افتخروا بجاههم وأموالهم واحتقروا فقراء أهل الإسلام ولم يميزوا بين الكمال الحق والغرور الباطل، كما أشار إليه قوله تعالى: {واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي} [الكهف: 28]، فكان في قصة إبليس نحو آدم مَثل لهم، ولأن في هذه القصة تذكيرًا بأن الشيطان هو أصل الضلال، وأن خسران الخاسرين يوم القيامة آيل إلى اتباعهم خُطواتتِ الشيطان وأوليائه.
ولهذا فرع على الأمرين قوله تعالى: {أفتتخذونه وذريته أولياء من دوني وهم لكم عدو}.
وهذه القصة تكررت في مواضع كثيرة من القرآن، وهي في كل موضع تشتمل على شيء لم تشتمل عليه في الآخر، ولها في كل موضع ذُكرت فيه عبرة تخالف عِبرة غيره، فذكرها في سورة البقرة مَثلًا إعلام بمبادىء الأمور، وذكرها هنا تنظير للحال وتوطئة للإنكار والتوبيخ، وقس على ذلك.
وفَسق: تجاوز عن طاعته.
وأصله قولهم: فسقت الرُّطبَة، إذا خرجت من قشرها فاستعمل مجازًا في التجاوز.
قال أبو عبيدة.
والفسق بمعنى التجاوز عن الطاعة.
قال أبو عبيدة: لم نسمع ذلك في شيء من أشعار الجاهلية ولا أحاديثها وإنما تكلم به العرب بعد نزول القرآن، أي في هذه الآية ونحوها.
ووافقه المبرد وابن الأعرابي.
وأطلق الفسق في مواضع من القرآن على العصيان العظيم، وتقدم في سورة البقرة (26) عند قوله تعالى: {وما يضل به إلا الفاسقين}.
والأمر في قوله: {عن أمر ربه} بمعنى المأمور، أي ترك وابتعد عما أمره الله به.
والعدول في قوله: {عن أمر ربه} إلى التعريف بطريق الإضافة دون الضمير لتفظيع فسق الشيطان عن أمر الله بأنه فسق عبد عن أمر من تجب عليه طاعته لأنه مالكه.
وفرع على التذكير بفسق الشيطان وعلى تعاظمه على أصل النوع الإنساني إنكار اتخاذه واتخاذ جنده أولياء لأن تكبره على آدم يقتضي عداوته للنوع، ولأن عصيانه أمر مالكه يقتضي أنه لا يرجى منه خير وليس أهلًا لأن يُتبع.
والاستفهام مستعمل في الإنكار والتوبيخ للمشركين، إذ كانوا يعبدون الجن، قال تعالى: {وجعلوا لله شركاء الجن} [الأنعام: 100].
ولذلك علل النهي بجملة الحال وهي جملة {وهم لكم عدو}. والذرية: النسل، وذرية الشيطان الشياطين والجن. والعدو: اسم يصدق على الواحد وعلى الجمع، قال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة} [الممتحنة: 1] وقال: {هم العدو} [المنافقون: 4].
عومل هذا الاسم معاملة المصادر لأنه على زنة المصدر مثل القبول والوَلُوع، وهما مصدران.
وتقدم عند قوله تعالى: {فإن كان من قوم عدو لكم} في سورة النساء (92). والولي: من يُتولَّى، أي يتخذ ذا وَلاية بفتح الواو وهي القرب. والمراد به القرب المعنوي، وهو الصداقة والنسب والحلف. و{من} زايدة للتوكيد، أي تتخذونهم أولياء مباعدين لي. وذلك هو إشراكهم في العبادة، فإن كل حالة يعبدون فيها الآلهة هي اتخاذٌ لهم أولياء من دون الله. والخطاب في {أفتتخذونه} وما بعده خطاب للمشركين الذين اتخذوه وليًا، وتحذير للمسلمين من ذلك.
وجملة {بئس للظالمين بدلًا} مستأنفة لإنشاء ذم إبليس وذريته باعتبار اتخاذ المشركين إياهم أولياء، أي بئس البَدل للمشركين الشيطان وذريته، فقوله: {بدلًا} تمييز مفسر لاسم {بئس} المحذوف لقصد الاستغناء عنه بالتمييز على طريقة الإجمال ثم التفصيل.
والظالمون هم المشركون.
وإظهار الظالمين في موضع الإضمار للتشهير بهم، ولما في الاسم الظاهر من معنى الظلم الذي هو ذم لهم. اهـ.