فصل: قال الزمخشري:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وقال ابن عباس في رواية أُخرى: كان من الجن وإنما سُمي بالجنان، لأنه كان خازنًا عليها فنُسب إليها، كما يقال للرجل: مكي وكوفي ومدني وبصري. أخبرنا عبد الله بن حامد: أخبرنا محمد ابن يعقوب السّري عن يحيى بن عثمان بن زفر قال: روى يعقوب القمي عن جعفر عن سعيد بن جبير في قوله عزّ وجلّ: {كَانَ مِنَ الجن} قال: كان من الجنانيين الذين يعملون في الجنّة. وقال الحسن: ما كان إبليس من الملائكة طرفة عين، وإنه لأصل الجنّ كما أن آدم أصل الأنس. وقال شهر ابن حوشب: كان إبليس من الجنّ الذين ظفر بهم الملائكة فأسره بعض الملائكة، فذهب به إلى السماء.
وقال قتادة: جنّ عن طاعة الله تعالى، {فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ} يعني: خرج عن طاعة ربه. تقول العرب: فسقت الرطبّة إذا خرجت من قشرها، وفسقت الفأرة إذا خرجت من جحرها، ولذلك قيل لها: الفويسقة. وقيل: هي من الفُسوق، وهي الاتّساع، تقول العرب: فسق فلان في النفقة إذا اتسع فيها، وما أصاب مالًا إلاّ فسقه، أي أهلكه وبذّره. والفاسق سمّي فاسقًا؛ لأنه اتّسع في محارم الله عزّ وجلّ، وهوّنها على نفسه. {أَفَتَتَّخِذُونَهُ}، يعني يا بني آدم {وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِن دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ}: أعداء. وقال الحسن: الإنس من آخرهم من ذريّة آدم، والجن من آخرهم من ذريّة إبليس. قال مجاهد: فمن ذريّة إبليس لافيس وولهان وهو صاحب الطهارة والصلاة، والهفّان ومرّة وبه يُكنّى إبليس وزيلنون وهو صاحب الأسواق يضع رايته بكل سوق من السّماء والأرض، والدثر وهو صاحب المصائب يأمر بضرب الوجه وشقّ الجيوب والدعاء بالويل والحرب، والأعور وهو صاحب أبواب الزّنا، ومبسوط وهو صاحب الأخبار يأتي بها فيلقيها في أفواه النّاس فلا يجدون لها أصلًا، وداسم وهو الذي إذا دخل الرجل بيته فلم يسلم ولم يذكر اسم الله عزّ وجلّ، بصّره من المقابح ما لم يرفع أو لم يحسن موضعه، فإذا أكل ولم يذكر اسم الله عليه أكل معه.
وقال الأعمش: ربما دخلت البيت، ولم أذكر اسم الله ولم أُسلّم فرأيت مطهره فقلت: ارفعوا، وخاصمتهم، ثمّ أذكر فأقول: داسم، داسم.
وروى مخلد عن الشعبي قال: إني لقاعد يومًا إذ أقبل حمال ومعه دن حتى وضعه، ثمّ جاءني فقال: أنت الشعبي؟ قلت: نعم. فقال: أخبرني هل لإبليس زوجة؟ قلت: إن ذلك لعرس ما شهدته. قال: ثمّ ذكرت قول الله تعالى: {أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِن دُونِي}، فعلمت أنه لا يكون ذرية إلاّ من زوجة، قلت: نعم. فأخذ دنّه وانطلق، قال: فرأيت أنه مختاري. قال ابن زيد: إبليس أبو الجن كما إنّ آدم عليه السلام أبو الإنس. قال الله تعالى لإبليس: إني لا أخلق لآدم ذرية إلاّ ذرأت لك مثلها، كلما ولد لآدم. قال قتادة: إنهم يتوالدون كما يتوالد بنو آدم، وما ولد لآدم ذريّة إلاّ ولد له مثله، فليس من ولد آدم أحد إلاّ له شيطان قد قرن به. {بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا}، أي بئس البدل لإبليس وذريّته من الله.
قال قتادة: بئس ما استبدلوا بعبادة ربهم: طاعةَ إبليس وذريّته. اهـ.

.قال الزمخشري:

.[سورة الكهف: آية 32].

{وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ جَعَلْنا لِأَحَدِهِما جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنابٍ وَحَفَفْناهُما بِنَخْلٍ وَجَعَلْنا بَيْنَهُما زَرْعًا (32)}.
{وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ} أي ومثل حال الكافرين والمؤمنين، بحال رجلين وكانا أخوين في بنى إسرائيل: أحدهما كافر اسمه قطروس، والآخر مؤمن اسمه يهوذا. وقيل: هما المذكوران في سورة والصافات في قوله: {قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كانَ لِي قَرِينٌ} ورثا من أبيهما ثمانية آلاف دينار، فتشاطراها. فاشترى الكافر أرضا بألف، فقال المؤمن: اللهم إن أخى اشترى أرضا بألف دينار، وأنا أشترى منك أرضا في الجنة بألف، فتصدّق به. ثم بنى أخوه دارا بألف، فقال: اللهم إنى أشترى منك دارا في الجنة بألف فتصدّق به. ثم تزوّج أخوه امرأة بألف، فقال: اللهم إنى جعلت ألفا صداقا للحور. ثم اشترى أخوه خدما ومتاعا بألف، فقال: اللهم إنى اشتريت منك الولدان المخلدين بألف، فتصدّق به ثم أصابته حاجة، فجلس لأخيه على طريقه فمرّ به في حشمه، فتعرّض له، فطرده ووبخه على التصدّق بماله. وقيل: هما مثل لأخوين من بنى مخزوم: مؤمن وهو أبو سلمة عبد اللّه بن عبد الأشد، وكان زوج أمّ سلمة قبل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم. وكافر وهو الأسود بن عبد الأشد {جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنابٍ} بستانين من كروم {وَحَفَفْناهُما بِنَخْلٍ} وجعلنا النخل محيطا بالجنتين، وهذا مما يؤثره الدهاقين في كرومهم: أن يجعلوها مؤزرة بالأشجار المثمرة. يقال: حفوه، إذا أطافوا به: وحففته بهم. أي جعلتهم حافين حوله، وهو متعدّ إلى مفعول واحد فتزيده الباء مفعولا ثانيا، كقولك: غشيه، وغشيته به {وَجَعَلْنا بَيْنَهُما زَرْعًا} جعلناها أرضا جامعة للأقوات والفواكه. ووصف العمارة بأنها متواصلة متشابكة لم يتوسطها ما يقطعها ويفصل بينها، مع الشكل الحسن والترتيب الأنيق، ونعتهما بوفاء الثمار وتمام الأكل من غير نقص، ثم بما وهو أصل الخير ومادّته من أمر الشرب فجعله أفضل ما يسقى به، وهو السيح بالنهر الجاري فيها.
والأكل: الثمر. وقرئ بضم الكاف {وَلَمْ تَظْلِمْ} ولم تنقص. وآتت: حمل على اللفظ، لأنّ كِلْتَا لفظه لفظ مفرد، ولو قيل: آتتا على المعنى، لجاز. وقرئ: {وفجرنا}، على التخفيف. وقرأ عبد اللّه: {كل الجنتين آتى أكله} بردّ الضمير على كل {وَكانَ لَهُ ثَمَرٌ} أي أنواع من المال، من ثمر ماله إذا كثر.
وعن مجاهد: الذهب والفضة، أى: كانت له إلى الجنتين الموصوفتين الأموال الدثرة من الذهب والفضة وغيرهما، وكان وافر اليسار من كل وجه، متمكنا من عمارة الأرض كيف شاء {وَأَعَزُّ نَفَرًا} يعني أنصارا وحشما. وقيل: أولادا ذكورا، لأنهم ينفرون معه دون الإناث. يحاوره: يراجعه الكلام، من حار يحور إذا رجع، وسألته فما أحار كلمة.

.[سورة الكهف: الآيات 35- 36].

{وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ قالَ ما أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هذِهِ أَبَدًا (35) وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْها مُنْقَلَبًا (36)}.
يعنى قطروس أخذ بيد أخيه المسلم يطوف به في الجنتين ويريه ما فيهما ويعجبه منهما ويفاخره بما ملك من المال دونه. فإن قلت: فلم أفرد الجنة بعد التثنية؟ قلت: معناه ودخل ما هو جنته ما له جنة غيرها، يعني أنه لا نصيب له في الجنة التي وعد المؤمنون، فما ملكه في الدنيا هو جنته لا غير، ولم يقصد الجنتين ولا واحدة منهما {وَهُوَ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ} وهو معجب بما أوتى مفتخر به كافر لنعمة ربه، معرّض بذلك نفسه لسخط اللّه، وهو أفحش الظلم. إخباره عن نفسه بالشك في بيدودة جنته: لطول أمله واستيلا الحرص عليه وتمادى غفلته واغتراره بالمهلة وإطراحه النظر في عواقب أمثاله. وترى أكثر الأغنياء من المسلمين وإن لم يطلقوا بنحو هذا ألسنتهم، فإن ألسنة أحوالهم ناطقة به منادية عليه {وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلى رَبِّي} إقسام منه على أنه إن ردّ إلى ربه على سبيل الفرض والتقدير وكما يزعم صاحبه، ليجدنّ في الآخرة خيرا من جنته في الدنيا، تطمعا وتمنيا على اللّه، وادّعاء لكرامته عليه ومكانته عنده، وأنه ما أولاه الجنتين إلا لاستحقاقه واستئهاله، وأنّ معه هذا الاستحقاق أينما توجه، كقوله: {إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنى}، {لَأُوتَيَنَّ مالًا وَوَلَدًا}. وقرئ: {خيرا منهما}، ردّا على {الجنتين} {مُنْقَلَبًا} مرجعا وعاقبة.
وانتصابه على التمييز، أى: منقلب تلك، خير من منقلب هذه، لأنها فانية وتلك باقية.

.[سورة الكهف: آية 37].

{قالَ لَهُ صاحِبُهُ وَهُوَ يُحاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا (37)}.
{خَلَقَكَ مِنْ تُرابٍ} أي خلق أصلك، لأنّ خلق أصله سبب في خلقه، فكان خلقه خلقا له سَوَّاكَ عدلك وكملك إنسانا ذكرا بالغا مبلغ الرجال. جعله كافرا باللّه جاحدا لأنعمه لشكه في البعث، كما يكون المكذب بالرسول صلى اللّه عليه وسلم كافرا.

.[سورة الكهف: آية 38].

{لكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا (38)}.
{لكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي} أصله لكن أنا، فحذفت الهمزة وألقيت حركتها على نون لكن، فتلاقت النونان فكان الإدغام. ونحوه قول القائل:
وترميننى بالطّرف أي أنت مذنب ** وتقليننى لكنّ إيّاك لا أقلى

أى: لكن أنا لا أقليك وهو ضمير الشأن، والشأن اللّه ربى، والجملة خبر أنا، والراجع منها إليه ياء الضمير. وقرأ ابن عامر بإثبات ألف أنا في الوصل والوقف جميعا، وحسن ذلك وقوع الألف عوضا من حذف الهمزة. وغيره لا يثبتها إلا في الوقف.
وعن أبى عمرو أنه وقف بالهاء: لكنه. وقرئ: {لكن هو اللّه ربى}، بسكون النون وطرح أنا. وقرأ أبىّ بن كعب: {لكن أنا} على الأصل. وفي قراءة عبد اللّه: {لكن أنا لا إله إلا هو ربى}. فإن قلت: هو استدراك لما ذا؟
قلت: لقوله: {أَكَفَرْتَ} قال لأخيه: أنت كافر باللّه، لكنى مؤمن موحد، كما تقول: زيد غائب، لكن عمرا حاضر.

.[سورة الكهف: الآيات 39- 41].

{وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ ما شاءَ اللَّهُ لا قُوَّةَ إِلاَّ بِاللَّهِ إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مالًا وَوَلَدًا (39) فَعَسى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْها حُسْبانًا مِنَ السَّماءِ فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا (40) أَوْ يُصْبِحَ ماؤُها غَوْرًا فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَبًا (41)}.
{ما شاءَ اللَّهُ} يجوز أن تكون ما موصولة مرفوعة المحل على أنها خبر مبتدإ محذوف تقديره: الأمر ما شاء اللّه. أو شرطية منصوبة الموضع والجزاء محذوف، بمعنى: أي شيء شاء اللّه كان. ونظيرها في حذف الجواب لَوْ في قوله: {وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ} والمعنى: هلا قلت عند دخولها والنظر إلى ما رزقك اللّه منها الأمر ما شاء اللّه، اعترافا بأنها وكلّ خير فيها إنما حصل بمشيئة اللّه وفضله، وأن أمرها بيده: إن شاء تركها عامرة وإن شاء خرّبها، وقلت {لا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ} إقرارا بأن ما قويت به على عمارتها وتدبير أمرها إنما هو بمعونته وتأييده، إذ لا يقوى أحد في بدنه ولا في ملك يده إلا باللّه تعالى.
وعن عروة بن الزبير أنه كان يثلم حائطه أيام الرطب، فيدخل من شاء. وكان إذا دخله ردّد هذه الآية حتى يخرج. من قرأ: {أَقَلَّ} بالنصب فقد جعل {أنا} فصلا، ومن رفع جعله مبتدأ و{أقلّ} خبره، والجملة مفعولا ثانيا لـ: {ترني}. وفي قوله: {وَوَلَدًا} نصرة لمن فسر النفر بالأولاد في قوله: {وَأَعَزُّ نَفَرًا} والمعنى إن ترني أفقر منك فأنا أتوقع من صنع اللّه أن يقلب ما بى وما بك من الفقر والغنى، فيرزقنى لإيمانى جنة {خَيْرًا مِنْ جَنَّتِكَ} ويسلبك لكفرك نعمته ويخرّب بستانك. والحسبان: مصدر كالغفران والبطلان، بمعنى الحساب، أى: مقدارا قدره اللّه وحسبه، وهو الحكم بتخريبها وقال الزجاج: عذاب حسبان، وذلك الحسبان حساب ما كسبت يداك. وقيل حسبانا مرامي الواحدة حسبانة وهي الصواعق {صَعِيدًا زَلَقًا} أرضا بيضاء يزلق عليها لملامتها زلقا. و{غَوْرًا} كلاهما وصف بالمصدر.

.[سورة الكهف: الآيات 42- 43].

{وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلى ما أَنْفَقَ فِيها وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها وَيَقُولُ يا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا (42) وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَما كانَ مُنْتَصِرًا (43)}.
{وَأُحِيطَ} به عبارة عن إهلاكه. وأصله من أحاط به العدوّ، لأنه إذا أحاط به فقد ملكه واستولى عليه، ثم استعمل في كل إهلاك. ومنه قوله تعالى: {إِلَّا أَنْ يُحاطَ بِكُمْ} ومثله قولهم: أتى عليه، إذا أهلكه، من أتى عليهم العدوّ: إذا جاءهم مستعليا عليهم. وتقليب الكفين: كناية عن الندم والتحسر، لأنّ النادم يقلب كفيه ظهرا لبطن، كما كنى عن ذلك بعض الكف والسقوط في اليد، ولأنه في معنى الندم عدّى تعديته بعلى، كأنه قيل: فأصبح يندم {عَلى ما أَنْفَقَ فِيها} أي أنفق في عمارتها {وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها} يعني أنّ كرومها المعرشة سقطت عروشها على الأرض، وسقطت فوقها الكروم. قيل: أرسل اللّه عليها نارا فأكلتها {يا لَيْتَنِي} تذكر موعظة أخيه فعلم أنه أتى من جهة شركه وطغيانه، فتمنى لو لم يكن مشركا حتى لا يهلك اللّه بستانه. ويجوز أن يكون توبة من الشرك، وندما على ما كان منه، ودخولا في الإيمان. وقرئ: {وَلَمْ تَكُنْ} بالياء والتاء، وحمل {يَنْصُرُونَهُ} على المعنى دون اللفظ، كقوله: {فِئَةٌ تُقاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرى كافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ}. فإن قلت: ما معنى قوله: {يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ}؟ قلت: معناه يقدرون على نصرته من دون اللّه، أى: هو وحده القادر على نصرته لا يقدر أحد غيره أن ينصره إلا أنه لم ينصره لصارف وهو استيجابه أن يخذل {وَما كانَ مُنْتَصِرًا} وما كان ممتنعا بقوّته عن انتقام اللّه.

.[سورة الكهف: آية 44].

{هُنالِكَ الْوَلايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَوابًا وَخَيْرٌ عُقْبًا (44)}.
{الْوَلايَةُ} بالفتح النصرة والتولي، وبالكسر السلطان والملك، وقد قرئ بهما. والمعنى هنالك، أى: في ذلك المقام وتلك الحال النصرة للّه وحده، لا يملكها غيره، ولا يستطيعها أحد سواه، تقريرا لقوله: {وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ} أو: هنالك السلطان والملك للّه لا يغلب ولا يمتنع منه. أو في مثل تلك الحال الشديدة يتولى اللّه ويؤمن به كل مضطرّ. يعني أنّ قوله: {يا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا} كلمة ألجئ إليها فقالها جزعا مما دهاه من شؤم كفره، ولولا ذلك لم يقلها. ويجوز أن يكون المعنى: هنالك الولاية للّه ينصر فيها أولياءه المؤمنين على الكفرة وينتقم لهم، ويشفى صدورهم من أعدائهم، يعنى: أنه نصر فيما فعل بالكافر أخاه المؤمن، وصدّق قوله: {فَعَسى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْها حُسْبانًا مِنَ السَّماءِ} ويعضده قوله: {خَيْرٌ ثَوابًا وَخَيْرٌ عُقْبًا} أي لأوليائه. وقيل: {هُنالِكَ} إشارة إلى الآخرة أي في تلك الدار الولاية للّه، كقوله: {لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ}. وقرئ: {الحق} بالرفع والجرّ صفة للولاية واللّه.
وقرأ عمرو بن عبيد بالنصب على التأكيد، كقولك: هذا عبد اللّه الحق لا الباطل، وهي قراءة حسنة فصيحة، وكان عمرو بن عبيد من أفصح الناس وأنصحهم. وقرئ: {عُقْبًا} بضم القاف وسكونها، وعقبى على فعلى، وكلها بمعنى العاقبة.