فصل: تفسير الآيات (51- 52):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.تفسير الآيات (51- 52):

قوله تعالى: {مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا (51) وَيَوْمَ يَقُولُ نَادُوا شُرَكَائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ مَوْبِقًا (52)}.

.مناسبة الآيتين لما قبلهما:

قال البقاعي:
ولما كان الشريك لا يستأثر بفعل أمر عظيم في المشترك فيه من غير علم لشريكه به، قال معللًا للذم على هذا الظلم بما يدل عل حقارتهم عن هذه الرتبة، عادلًا في أسلوب التكلم إلى التجريد عن مظهر العظمة لئلا يتعنت من أهل الإشراك متعنت كما عدل في {دوني} لذلك: {ما أشهدتهم} أي إبليس وذريته {خلق السماوات والأرض} نوعًا من أنواع الإشهاد {ولا خلق أنفسهم} إشارة إلى أنهم مخلوقون وأنه لا يصح في عقل عاقل أن يكون مخلوق شريكًا لخالقه أصلًا {وما كنت} أي أزلًا وأبدًا متخذهم، هكذا الأصل ولكنه أبرز إرشادًا إلى أن المضل لا يستعان به، لأنه مع عدم نفعه يضر، فقال تعالى: {متخذ المضلين عضدًا} إشارة إلى أنه لا يؤسف على فوات إسلام أحد، فإن من علم الله فيه خيرًا أسمعه، ومن لم يسمعه فهو مضل ليس أهلًا لنصرة الدين.
ولما أقام البرهان القاطع على بعد رتبتهم عن المنزلة التي أحلوهم بها من الشرك، أتبعه التعريف بأنهم مع عدم نفعهم لهم في الدنيا يتخلون عنهم في الآخرة أحوج ما يكونون إليهم تخييبًا لظنهم أنهم يقربونهم إلى الله زلفى، فقال تعالى عاطفًا على {إذ قلنا} عادلًا إلى مقام الغيبة، إشارة إلى بعدهم عن حضرته الشماء وتعاليه عما قد يتوهم من قوله تعالى: {وعرضوا على ربك صفًا لقد جئتمونا} [الكهف: 48] في حجب الجلال والكبرياء، وجرى حمزة في قراءته بالنون على أسلوب التكلم الذي كان فيه مع زيادة العظمة: {ويوم} أي واذكر يوم {يقول} الله لهم تهكمًا بهم: {نادوا شركاءي} وبين أن الإضافة ليست على حقيقتها، بل هي توبيخ لهم فقال تعالى: {الذين زعمتم} أنهم شركاء {فدعوهم} تماديًا في الجهل والضلال {فلم يستجيبوا لهم} أي لم يطلبوا ويريدوا أن يجيبوهم إعراضًا عنهم استهانة بهم واشتغالًا بأنفسهم فضلًا عن أن يعينوهم.
ولما كانوا في غاية الاستبعاد لأن يحال بينهم وبين معبوداتهم، قال في مظهر العظمة: {وجعلنا بينهم} أي المشركين والشركاء {موبقًا} أي هلاكًا أو موضع هلاك، فاصلًا حائلًا بينهم، مهلكًا قويًا ثابتًا حفيظًا، لا يشذ عنه منهم أحد، وإنما فسرته بذلك لأنه مثل قوله تعالى: {فزيلنا بينهم} [يونس: 28] أي بالقلوب أي جعلنا ما كان بينهم من الوصلة عداوة، ومثل قوله تعالى: {ربنا هؤلاء أضلونا فأتهم عذابًا ضعفًا من النار} [الأعراف: 38] {هؤلاء شركاؤنا الذين كنا ندعو من دونك} [النحل: 86] ونحوه، لأن معنى ذلك كله أنه يبدل ما كان بينهم من الود في الدنيا والوصلة ببغض وقطيعة كما قال تعالى: {ثم يوم القيامة يكفر بعضكم ببعض ويلعن بعضكم بعضًا} [العنكبوت: 25] وأن كل فريق يطلب للآخر الهلاك، فاقتضى ذلك اجتماع الكل فيه، هذا ما يرشد إلى المعنى من آيات الكتاب، ونقل ابن كثير عن عبد الله بن عمرو- رضى الله عنهما- أنه قال: هو واد عميق فرق به يوم القيامة بين أهل الهدى وأهل الضلالة، وقال الحسن البصري: عداوة.
وأما أخذه من اللفظ فلأن مادة وبق- يائية وواوية مهموزة وغير مهموزة، ولها أحد عشر تركيبًا: واحد يائي: بقي، وستة واوية: قبو، قوب، بقو، بوق، وقب، وبق، وأربعة مهموزة: قبأ، قأب، بأق، أبق- كلها تدور على الجمع، وخصوصًا ترتيب وبق يدور على الحائل بين شيئين، ويلزمه القوة والثبات والحفظ والهلاك قوة أو فعلًا، لأن من حيل بينه وبين شيء فقد هلك بفقد ذلك الشيء بالفعل إن كان الحائل موتًا، وبالقوة إن كان غيره، يقال: قبل الشيء: جمعه بأصابعه، والبناء: رفعه، والزعفران: جناه، والقبا- بالقصر: نبت- لأنه سبب الاجتماع لرعيه والانتفاع به وهو يجمع أيضًا، والقبا: تقويس الشيء- لأنه أقرب إلى اجتماع بعض أجزائه ببعض، والقبوة: انضمام ما بين الشفتين، ومنه القباء من الثياب، وقباه تقبية: عباه، أي جمعه حتى صار كأنه في مكان مقبو، وقبى عليه تقبية: عدا عليه في أمره- لأنه كان كأنه أوقعه في حفرة، والثوب: جعل منه قباء، وتقبى القباء: لبسه، وزيدًا: أتاه من قفاه- لأن من يريد رمي أحد في حفرة كذلك يأتيه مخاتلة، وتقبى الشيء: صار كالقبة، وامرأة قابية: تلقط العصفر وتجمعه، والقابياء: اللئيم- لأنه بناء مبالغة، فيدل على كثرة الجمع والحرص اللازمين للؤم، وبنو قابياء: المجتمعون لشرب الخمر- لأنها حالة تظهر لؤم اللئام، وقباء- بالضم ويذكر ويقصر- موضع قرب المدينة الشريفة، وموضع بين مكة والبصرة، وانقبى: استخفى، وقبى قوسين وقباء قوسين- ككساء: قاب قوسين، والمقبي: الكثير الشحم- كأنه جمع لنفسه منه بالراحة ما صار كالبناء، والقباية: المفازة- لأنها تجمع ما فيها كما تجمع القبة والقباء والوقبة ما فيها.
ومن مهموزة: قبأ الطعام- كجمع: أكله، ومن الشراب: امتلأ، والقباءة: حشيشة ترعى- لأن المال يجتمع على رعيها.
ومن الواوي: قاب الأرض يقوبها وقوّبها: حفر فيها شبه التقوير- لأن الدائرة أجمع ما يكون لغيرها وفي نفسها، لأنه لا زوايا فيها فاصلة، وقوبت الأرض: آثرت فيها، والقوبة: ما يظهر في الجسد ويخرج عليه- لأنه يكون غالبًا على هيئة الدائرة، وتقوب جلده: تقلع عنه الجرب، وانحلق عنه الشعر- إما من الإزالة، وإما لأن آثاره تكون كالدوائر، وقوب الشيء: قلعه من أصله- لأن أثره إذا انقلع يكون حفرًا مستديرًا، وتقوب هو: تقلع، والقائبة والقابة: البيضة- لأنها لتدويرها تشبه ذلك الحفر، والقوب- بالفتح: فلق الطير بيضه، وبالضم: الفرخ- لأنه منها، وفي المثل: تخلصت قائبة من قوب- يضرب لمن انفصل من صاحبه، والقوبيّ: المولع بأكل الأقواب أي الفراخ، والقوب- كصرد: قشور البيض، وتقوبت البيضه: انقابت أي انحفرت، وأم قوب: الداهية- لجمعها ما تأتي عليه كأنه ابتلعه حفر، وقاب: قرب- لأن القرب مبدأ الجمع، وقاب: هرب، أي سلب القرب- ضد، وقاب: فلق، أي شق الجمع فهو من الإزالة أيضًا، وقاب قوس وقيبه، أي قدره- لأن القوس شبه نصف دائرة من ذلك الحفر، والقاب: ما بين المقبض والسية- لأنه بعض ذلك، ولكل قوس قابان، والأسود المتقوب: الذي انسلخ جلده من الحيات- لتدوّر ذلك الجلد وشبهه بالحفرة، واقتاب الشيء: اختاره، أي جمعه إليه، ورجل مليء قوبة- كهمزة: ثابت الدار مقيم- من الثبات الذي هو لازم الجمع، وقوب من الغبار: اغبر- إما لأن من يحفر ذلك بغير، وإما لأن الغبار كثر عليه حتى غطاه فصار له مثل تلك الحفرة.
ومن مهموزه: قأب الطعام- كمنع: أكله، والماء: شربه كقئبه- كفرح، أو شرب كل ما في الإناء، وقئب من الشراب: تملأ، وهو مقأب- كمنبر: كثير الشرب للماء، وإناء قَوأب: كثير الأخذ للماء- فهو كما ترى جمع مخصوص بالأكل والشرب، أو أنه جمعه في وقبة بطنه.
ومن الواوي: بقاه بعينه: نظر إليه- فهو من الحفظ اللازم للجمع، وابقُه بَقْوَتَك مالَك، وبقاوتك مالك أي احفظه حفظك مالك، وبقوته: انتظرته- وهو يرجع إلى الثبات والمراقبة التي ترجع إلى الحفظ، ويلزم الحفظ الثبات.
ومن اليائي: بقي الشيء بقاء: ثبت ودام ضد فني، والاسم البقوى- كدعوى، ويضم، والبقيا- بالضم والبقية، وقد توضع الباقية موضع المصدر.
ومن واويّه: البوقة: الجمع والدفعة من المطر الشديد أو المنكرة تنباق- أنها نزلت من وقبة لشدتها، والبوائق: العوائد- لأنها جامعة لمن اعتادها، والبوائق: الشر- لأنه مهلك، فكأنه موقع في المهالك، والبوق- بالضم: شبه منقاب ينفخ فيه الطحان، أو الذي ينفخ فيه مطلقًا ويرمز- لأنه لتجويفه يشبه الوقبة، والبوق أيضًا: الباطل والزور- لأن صوته أشبع شيء بذلك، والمبوق- كمعظم: الكلام الباطل، والبوق- بالفتح: من لا يكتم السر- لأن البوق متى نفخ فيه صوّت، والبوقة: شجرة دقيقة- لأنها لدقتها يسرع إليها الهلاك كمن وقع فيه وقبة، والبائقة: الداهية- كأنها تدفع من أتته في الوقبة، وانباقت عليه بائقة: انفتقت، وباق: جاء بالشر والخصومات- من ذلك، وكذا باق، أي تعدى على إنسان، وانباق به: ظلمه، والبائقةُ القومَ: أصابتهم، كانباقت عليهم، أي خرجت لشدتها من وقبة، والباقة: الحزمة من بقل- لاجتماعها، وباق بك: طلع عليك من غيبة- كأنه كان في حفرة فخرج، ومنه باق فلان: هجم على قوم بغير إذنهم، وباق القوم: سرقهم، وباق به: حاق به، أي- أحاط كما تحيط الوقبة، وباق القوم عليه: اجتمعوا فقتلوه ظلمًا، وباق المال: فسد وبار- كحال من وقع في حفرة، ومنه متاع بائق: لا ثمن له، وتبوّق في الماشية: وقع فيها الموت وفشا، والحاق باق: صوت الفرج عند الجماع- لأنه من الجمع، ولأن الفرج وقبة، ومن مهموزه: بأقتهم الداهية بؤوقًا: أصابتهم، وانبأق عليهم الدهر: هجم عليهم بالداهية.
ومن الواوي، الوقبة: كوة عظيمة فيها ظل، والوقب والوقبة: نقرة في الصخرة يجتمع فيها الماء، وقيل: هي نحو البئر في الصفا تكون قامة أو قامتين يستنقع فيها ماء السماء، وكل نقر في الجسد وقب كنقر العين والكتف، والوقبان من الفرس: هزمتان فوق عينيه، ووقب المحالة: الثقب الذي يدخل فيه المحور، ووقبة الدهن: أنقوعته، وكذا وقبة الثريد، ووقب الشيء: دخل في الوقب، وأوقب الشيء: أدخله فيه، وركية وقباء: غامرة الماء، وامرأة ميقاب: واسعة الفرج وبنو الميقاب نسبوا إلى أمهم، يريدون سبهم بذلك، والميقاب: الرجل الكثير الشرب للماء، والحمقاء أوالمحمقة، وسير الميقاب: أن تواصل سير يوم وليلة- كأن ذلك سير الأحمق الذي لا يبقى على ظهره، ووقب القمر وقوبًا: دخل في الظل الذي يكسفه- كأنه حفرة ابتلعته، ووقبت الشمس وقوبًا: غابت كذلك، وقيل: كل ما غاب فقد وقب، ووقب الظلام، أقبل.
أي فصار كالوقبة، فابتلع الضياء أو ابتلع ما في الكون فحجبه عن الضياء، ورجل وقب: أحمق- كأنه وعاء لكل ما يسمع، لا أهلية له في تمييز جيده من رديئه، والأنثى: وقبة، وقال ثعلب: الوقب: الدنيء، أي لأنه يتبع نفسه هواها فيصير كأنه الوقبة لا ترد شيئًا مما يلقي فيها، ووقب الفرس وقبًا وهو صوت قنبه، أي وعاء قضيبه، وقيل: صوت تقلقل جردان الفرس في قنبه- لأن وعاء جردانه كالوقبة، فهو من اطلاق اسم المحل على ما فيه، والقبة- كعدة: الإنفحة إذا عظمت من الشاة، قال ابن الأعرابي: ولا يكون ذلك في غير الشاء- لأن شبه الإنفحة بالوقبة ظاهر، والوقباء: موضع يمد ويقصر، والوقبى: ماء لبني مازن- لأنه يجمعهم كما تجمع الوقبة ما فيها، والأوقاب: قماش البيت كالبرمة والرحيين والعمد- لأن البيت لها كالوقبة لجمعها أو لأنها جامعة لشمل من فيه، والميقب: الودعة، وأوقب القوم: جاعوا، أي تهيؤوا لإدخال الطعام في وقبة الجوف، وذكر أوقب: ولاّج في الهنات- لأنها كالأوقاب أي الحفر، والوقب: الإقبال والمجيء، وهو سبب الجمع.
ووبق- كوعد ووجل وورث وبوقًا وموبقًا: هلك، أي وقع فيه وقبة، أي حفرة كاستوبق، وكمجلس: المهلك والمحبس، وواد في جهنم، وكل شيء حال بين شيئين- لأن الوقبة تحول بين ما فيها وبين غيره.
ومنه قيل للموعد: موبق، وأوبقه: حبسه أو أهلكه.
ومن مهموزه: أبق العبد- كسمع وضرب ومنع- أبقًا ويحرك- وإباقًا- ككتاب: ذهب بلا خوف ولا كد عمل، أو استخفى ثم ذهب- وكل ذلك يوجع إلى جعله كأنه نزل في وقبة، ومن شأنه حينئذ أن يخفى، ومنه تأبق: استتر أو احتبس، وتأبق الشيء: أنكره- لأن سبب الإنكار الخفاء، وتأبق: تأثم، أي جانب الإثم، فهو لسلب الجمع أو لسلب الهلاك في الوقبة، والأبق- محركة: القنب- لشبهه لتجويفه بالوقبة، والأبق: قشره- لقوته اللازمة للجمع أو لأنه خيوط مجتمعة. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

ثم قال: {مَّا أَشْهَدتُّهُمْ خَلْقَ السموات والأرض وَلاَ خَلْقَ أَنفُسِهِمْ} وفيه مسألتان:
المسألة الأولى:
اختلفوا في أن الضمير في قوله: {مَّا أَشْهَدتُّهُمْ} إلى من يعود؟ فيه وجوه: أحدها: وهو الذي ذهب إليه الأكثرون أن المعنى ما أشهدت الذي اتخذتموهم أولياء خلق السموات والأرض ولا أشهدت بعضهم خلق بعض كقوله: {اقتلوا أَنفُسَكُمْ} [النساء: 66] يعني ما أشهدتهم لأعتضد بهم والدليل عليه قوله: {وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ المضلين عَضُدًا} أي وما كنت متخذهم فوضع الظاهر موضع المضمر بيانًا لإضلالهم وقوله: {عَضُدًا} أي أعوانًا.
وثانيها: وهو أقرب عندي أن الضمير عائد إلى الكفار الذين قالوا للرسول صلى الله عليه وسلم إن لم تطرد من مجلسك هؤلاء الفقراء لم نؤمن بك فكأنه تعالى قال: إن هؤلاء الذين أتوا بهذا الاقتراح الفاسد والتعنت الباطل ما كانوا شركاء لي في تدبير العالم بدليل قوله تعالى: {مَّا أَشْهَدتُّهُمْ خَلْقَ السموات والأرض وَلاَ خَلْقَ أَنفُسِهِمْ} ولا اعتضدت بهم في تدبير الدنيا والآخرة، بل هم قوم كسائر الخلق، فلم أقدموا على هذا الاقتراح الفاسد؟ ونظيره أن من اقترح عليك اقتراحات عظيمة فإنك تقول له لست بسلطان البلد ولا ذرية المملكة حتى نقبل منك هذه الاقتراحات الهائلة، فلم تقدم عليها والذي يؤكد هذا أن الضمير يجب عوده إلى أقرب المذكورات.
وفي هذه الآية المذكورة الأقرب هو ذكر أولئك الكفار وهو قوله تعالى: {بِئْسَ للظالمين بَدَلًا} والمراد بالظالمين أولئك الكفار.
وثالثها: أن يكون المراد من قوله: {مَّا أَشْهَدتُّهُمْ خَلْقَ السموات والأرض وَلاَ خَلْقَ أَنفُسِهِمْ} كون هؤلاء الكفار جاهلين بما جرى به القلم في الأزل من أحوال السعادة والشقاوة.
فكأنه قيل لهم السعيد من حكم الله بسعادته في الأزل والشقي من حكم الله بشقاوته في الأزل، وأنتم غافلون عن أحوال الأزل كأنه تعالى قال: {مَّا أَشْهَدتُّهُمْ خَلْقَ السموات والأرض وَلاَ خَلْقَ أَنفُسِهِمْ} وإذا جهلتم هذه الحالة فكيف يمكنكم أن تحكموا لأنفسكم بالرفعة والعلو والكمال ولغيركم بالدناءة والذل، بل ربما صار الأمر في الدنيا والآخرة على العكس فيما حكمتم به.
المسألة الثانية:
قال صاحب الكشاف قرئ: {وما كنت} بالفتح، والخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم، والمعنى وما صح لك الاعتضاد بهم، وما ينبغي لك أن تعتز بهم.
وقرأ علي رضوان الله عليه: {مُتَّخِذَ المضلين} بالتنوين على الأصل.
وقرأ الحسن: {عَضُدًا} بسكون الضاد ونقل ضمتها إلى العين، وقرئ: {عَضُدًا} بالفتح وسكون الضاد {وعضدًا} بضمتين {وعضدًا} بفتحتين جمع عاضد كخادم وخدم وراصد ورصد من عضده إذا قواه وأعانه، واعلم أنه تعالى لما قرر أن القول الذي قالوه في الافتخار على الفقراء اقتداء بإبليس عاد بعده إلى التهويل بأحوال يوم القيامة فقال: {وَيَوْمَ يَقُولُ نَادُواْ شُرَكَائِىَ الذين زَعَمْتُمْ} وفيه أبحاث:
البحث الأول:
قرأ حمزة: {نقول} بالنون عطفًا على قوله: {وَإِذْ قُلْنَا للملائكة اسجدوا لآدَمَ} و{أَوْلِيَاء مِن دُونِى} و{مَا أَشْهَدتُّهُمْ خَلْقَ السموات والأرض} {وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ المضلين عَضُدًا} والباقون قرأوا بالياء.
البحث الثاني:
واذكر يوم نقول عطفًا على قوله: {وَإِذْ قُلْنَا للملائكة اسجدوا}.
البحث الثالث:
المعنى واذكر لهم يا محمد أحوالهم وأحوال آلهتهم يوم القيامة إذ يقول الله لهم: {نَادُواْ شُرَكَائِىَ} أي ادعوا من زعمتم أنهم شركاء لي حيث أهلتموهم للعبادة، ادعوهم يشفعوا لكم وينصروكم والمراد بالشركاء الجن فدعوهم ولم يذكر تعالى في هذه الآية أنهم كيف دعوا الشركاء لأنه تعالى بين ذلك في آية أخرى وهو أنهم قالوا: {إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنتُمْ مُّغْنُونَ عَنَّا} [غافر: 47] ثم قال تعالى: {فَلَمْ يَسْتَجِيبُواْ لَهُمْ} أي لم يجيبوهم إلى ما دعوهم إليه ولم يدفعوا عنهم ضررًا وما أوصلوا إليهم نفعًا.
ثم قال تعالى: {وَجَعَلْنَا بَيْنَهُم مَّوْبِقًا} وفيه وجوه:
الأول: قال صاحب الكشاف: الموبق المهلك من وبق يبق وبوقًا ووبقًا.
إذا هلك وأوبقه غيره فيجوز أن يكون مصدرًا كالمورد والموعد وتقرير هذا الوجه أن يقال: إن هؤلاء المشركين الذين اتخذوا من دون الله آلهة كالملائكة وعيسى دعوا هؤلاء فلم يستجيبوا لهم ثم حيل بينهم وبينهم فأدخل الله تعالى هؤلاء المشركين جهنم وأدخل عيسى الجنة وصار الملائكة إلى حيث أراد الله من دار الكرامة وحصل بين أولئك الكفار وبين الملائكة وعيسى عليه السلام هذا الموبق وهو ذلك الوادي في جهنم.
الوجه الثاني:
قال الحسن: {موبقًا} أي عداوة والمعنى عداوة هي في شدتها هلاك.
ومنه قوله: لا يكن حبك كلفًا، ولا بغضك تلفًا.
الوجه الثالث:
قال الفراء البين المواصلة أي جعلنا مواصلتهم في الدنيا هلاكًا في يوم القيامة.
الوجه الرابع: الموبق البرزخ البعيد أي جعلنا بين هؤلاء الكفار وبين الملائكة وعيسى برزخًا بعيدًا يهلك فيه الساري لفرط بعده، لأنهم في قعر جهنم وهم في أعلى الجنان. اهـ.

.قال الماوردي:

قوله عز وجل: {ما أشهدتهم خلق السموات والأرض} فيه وجهان:
أحدهما: ما أشهدت إبليس وذريته.
الثاني: ما أشهدت جميع الخلق خلق السموات والأرض.
وفيه وجهان:
أحدهما: ما أشهدتهم إياها استعانة بهم في خلقها.
الثاني: ما أشهدتهم خلقها فيعلموا من قدرتي ما لا يكفرون معه.
ويحتمل ثالثًا: ما أشهدتهم خلقها فيحيطون علمًا بغيبها لاختصاص الله بعلم الغيب دونه خلقه.
{ولا خلق أنفسهم} فيه وجهان:
أحدهما: ما استعنت ببعضهم على خلق بعض.
الثاني: ما أشهدت بعضهم خلق بعض.
ويحتمل ثالثًا: ما أعلمتم خلق أنفسهم فكيف يعلمون خلق غيرهم.
{وما كنت متخذ المضلين عضدا} يحتمل وجهين:
أحدهما: يعني أولياء.
الثاني: أعوانًا، ووجدته منقولًا عن الكلبي.
وفيما أراد أنه لم يتخذهم فيه أعوانًا وجهان:
أحدهما: أعوانًا في خلق السموات والأرض.
الثاني: أعوانًا لعبدة الأوثان، قاله الكلبي.
وفي هؤلاء المضلين قولان:
أحدهما: إبليس وذريته.
الثاني: كل مضل من الخلائق كلهم.
قال بعض السلف: إذا كان ذنب المرء من قبل الشهوة فارْجُه، وإذا كان من قبل الكبر فلا ترْجه، لأن إبليس كان ذنبه من قبل الكبر فلم تقبل توبته، وكان ذنب آدم من قبل الشهوة فتاب الله عليه. وقد أشار بعض الشعراء إلى هذا المعنى فقال:
إذا ما الفتى طاح في غيّه ** فَرَجِّ الفتى للتُّقى رَجّه

فقد يغلط الركب نهج الط ** ريق ثم يعود إلى نهجه

قوله عز وجل: {وجعلنا بينهم موبقًا}.
فيه ستة أقاويل:
أحدها: مجلسًا، قاله الربيع.
الثاني: مهلكًا، قاله ابن عباس وقتادة والضحاك، قال الشاعر:
استغفر الله أعمالي التي سلفت ** من عثرةٍ إن تؤاخذني بها أبق

أي أهلك، ومثله قول زهير:
ومن يشتري حسن الثناء بماله ** يصن عرضَه من كل شنعاء موبق

قال الفراء: جعل تواصلهم في الدنيا مهلكًا في الآخرة.
الثالث: موعدًا، قاله أبو عبيدة.
الرابع: عداوة، قاله الحسن.
الخامس: أنه واد في جهنم، قاله أنس بن مالك.
السادس: أنه واد يفصل بين الجنة والنار، حكاه بعض المتأخرين. اهـ.