فصل: قال ابن عطية:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال ابن عطية:

قوله: {وما نرسل المرسلين} الآية، كأنه لما تفجع عليهم وعلى ضلالهم ومصيرهم بآرائهم إلى الخسار، قال: وليس الأمر كما يظنوا، والرسل لم نبعثهم ليجادلوا، ولا لتتمنى عليهم الاقتراحات، وإنما بعثناهم مبشرين من آمن بالجنة ومنذرين من كفر بالنار، و{يدحضوا} معناه يزهقوا، والدحض الطين الذي يزهق فيه، ومنه قول الشاعر: الطويل:
وردت ونجى اليشكريّ نجاؤه ** وحاد كما حاد البعير عن الدحض

وقوله: {واتخذوا} إلى آخر الآية توعيد، والآيات تجمع آيات القرآن والعلامات التي ظهرت على لسان النبي صلى الله عليه وسلم، وقوله: {وما أنذروا هزوًا} يريد من عذاب الآخرة، والتقدير ما أنذروه فحذف الضمير والهزاء: السخر والاستخفاف، كقولهم أساطير الأولين، وقولهم لو نشاء لقلنا مثل هذا وقوله: {ومن أظلم} استفهام بمعنى التقرير، وهذا من أفصح التقرير أن يوقف الأمر على ما لا جواب له فيه إلا الذي يريد خصمه، فالمعنى لا أحد {أظلم ممن} هذه صفته، أن يعرض عن الآيات بعد الوقوف عليها بالتذكير، وينسى ويطرح كبائره التي أسلفها هذه غاية الانهمال، ونسب السيئات إلى اليدين، من حيث كانت اليدان آلة التكسب في الأمور الجرمية، فجعلت كذلك في المعاني، استعارة، ثم أخبر الله عز وجل عنهم وعن فعله بهم، جزاء على إعراضهم وتكسبهم القبيح، فإنه تعالى: {جعل على قلوبهم أكنة} وهي جمع كنان، وهو كالغلاف الساتر واختلف الناس في هذا وما أشبهه من الختم والطبع ونحوه، هل هو حقيقة أو مجاز، والحقيقة في هذا غير مستحلية، والتجوز أيضًا فصيح، أي لما كانت هذه المعاني مانعة في الأجسام وحاملة، استعيرت للقلوب التي قد أقساها الله تعالى وأقصاها عن الخير، وأما الوقر في الآذان، فاستعارة بينة لأنا نحس الكفرة يسمعون الدعاء إلى الشرع سماعًا تامًا، ولكن لما كانوا لا يؤثر ذلك فيهم إلا كما يؤثر في الذي به وقر، فلا يسمع، وشبهوا به، وكذلك العمى والصم والبكم، كلها استعارات، وإنما الخلاف في أوصاف القلب، هل هي حقيقة أو مجاز، والوقر: الثقل في السمع، ثم أخبر تعالى عنهم أنهم، وإن دعوا إلى الهدى فإنهم لا يهتدون أبدًا، وهذا يخرج على أحد تأويلين: أحدهما أن يكون هذا اللفظ العام يراد به الخاص، ممن حتم الله عليه أن لا يؤمن ولا يهتدي أبدًا، ويخرج عن العموم كل من قضى الله بهداه في ثاني حال، والآخر أن يريد: وإن تدعهم إلى الهدى جميعًا فلن يؤمنوا جميعًا أبدًا، أي إنهم ربما آمن الأفراد، ويضطرنا إلى أحد هذين التأويلين، أنا نجد المخبر عنهم بهذا الخبر قد آمن منهم واهتدى كثير.
{وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ}.
لما أخبر تعالى عن القوم الذين حتم بكفرهم، أنهم لا يهتدون أبدًا، عقب ذلك بأنه للمؤمنين، {الغفور ذو الرحمة}، ويتحصل للكفار من صفته تعالى بالغفران والرحمة، ترك المعاجلة، ولو أخذوا بحسب ما يستحقونه لبادرهم بالعذاب المبيد لهم، ولكنه تعالى أخرهم إلى موعد لا يجدون عنه منجي، قالت فرقة هو أجل الموت، وقالت فرقة هو عذاب الآخرة، وقال الطبري هو يوم بدر، والحشر والموئل المنجى يقال: وأل الرجل يئل إذا نجا. ومنه قول الشاعر:
لا وألت نفسك خيلتها ** للعامريين ولم تكلم

ومنه قول الأعشى: البسيط:
وقد أخالس رب البيت غفلته ** وقد يحاذر مني ثم ما يئل

ثم عقب تعالى توعدهم بذكر الأمثلة من القرى التي نزل بها ما توعد هؤلاء بمثله، وفي قوله: {وتلك القرى} حذف مضاف تقديره {وتلك} أهل {القرى} يدل على ذلك قوله: {أهلكناهم} فرد الضمير على أهل القرى، و{القرى}: المدن، وهذه الإشارة إلى عاد وثمود ومدين وغيرهم. {وتلك} ابتداء، و{القرى} صفته، و{أهلكناهم} خبر، ويصح أن يكون {تلك} منصوبًا بفعل يدل عليه {أهلكناهم}. وقرأ الجمهور: {لَمُهلكهم} بضم الميم وفتح اللام، من أهلك، ومفعل في مثل هذا يكون لزمن الشيء، ولمكانه، ويكون مصدرًا فالمصدر على هذا مضاف إلى المفعول، وقرأ عاصم في رواية أبي بكر {لَمَهلكهم} بفتح الميم واللام وقرأ في رواية حفص {لِمَهلكهم} بفتح الميم وكسر اللام، وهو مصدر من هلك، وهو في مشهور اللغة غير متعد، فالمصدر على هذا مضاف إلى الفاعل، لأنه بمعنى: وجعلنا لأن هلكوا موعدًا، وقالت فرقة إن هلك يتعدى، تقول أهلكت الرجل وهلكته بمعنى واحد، وأنشد أبو علي في ذلك: الرجز:
ومَهْمَهٍ هالك من تعرجا

فعلى هذا يكون المصدر في كل وجه مضافًا إلى المفعول. اهـ.

.قال ابن الجوزي:

قوله تعالى: {ويجادل الذين كفروا بالباطل}.
قال ابن عباس: يريد: المستهزئين والمقتسمين وأتباعهم.
وجدالُهم بالباطل: أنهم ألزموه أن يأتيَ بالآيات على أهوائهم {ليُدْحِضُوا به الحق} أي: ليُبْطِلوا ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم.
وقيل: جدالُهم: قولُهم: {أإِذا كُنّا عظامًا ورُفاتًا} [الإسراء 49]، {أإِذا ضللنا في الأرض} [السجدة: 10]، ونحو ذلك ليبطلوا به ما جاء في القرآن من ذِكْر البعث والجزاء.
قال أبو عبيدة: ومعنى {ليُدْحِضوا}: ليُزِيلوا ويذهبوا، يقال: مكان دَحْض، أي: مَزَلٌّ لا يثبت فيه قدم ولا حافر.
قوله تعالى: {واتَّخَذُوا آياتي} يعني القرآن.
{وما أُنْذِروا} أي: خُوِّفوا به من النار والقيامة {هُزُوًا} أي: مهزوءًا به.
قوله تعالى: {ومن أظلم} قد شرحنا هذه الكلمة في [البقرة: 114].
و{ذُكِّر} بمعنى: وُعِظ.
وآياتُ ربِّه: القرآن، وإِعراضُه عنها: تهاونُه بها.
{ونسي ما قدَّمت يداه} أي: ما سلف من ذنوبه؛ وقد شرحنا ما بعد هذا في [الأنعام: 21] إِلى قوله: {وإِن تدعُهم إِلى الهُدى} وهو: الإِيمان والقرآن {فلن يهتدوا} هذا إِخبار عن عِلْمه فيهم.
قوله تعالى: {وربُّك الغفور ذو الرحمة} إِذ لم يعاجلهم بالعقوبة.
{بل لهم موعد} للبعث والجزاء {لن يجدوا من دونه موئلا} قال الفراء: الموئل: المنجى، وهو الملجأ في المعنى، لأن المنجى ملجأٌ.
والعرب تقول: إِنه لَيُوائل إِلى موضعه، أي: يذهب إِلى موضعه، قال الشاعر:
لاوَاءَلَتْ نَفْسُكَ خَلَّيْتَها ** للعامِرِيّيْن، وَلمْ تُكْلَمِ

يريد: لا نجت نفسك، وأنشد أبو عبيدة للأعشى:
وَقَدْ أُخالِسُ رَبَّ البَيْتِ غَفْلَتَهُ ** وقَدْ يُحاذِرُ مِنِّي ثَمَّ مَايَئِلُ

أي: ما ينجو.
وقال ابن قتيبة: الموئل: الملجِأ.
يقال: وأل فلان إِلى كذا: إِذا لجأ.
فإن قيل: ظاهر هذه الآية يقتضي أن تأخير العذاب عن الكفار برحمة الله، ومعلوم أنه لا نصيب لهم في رحمته.
فعنه جوابان.
أحدهما: أن الرحمة هاهنا بمعنى النعمة، ونعمة الله لا يخلو منها مؤمن ولا كافر.
فأما الرحمة التي هي الغفران والرضى، فليس للكافر فيها نصيب.
والثاني: أن رحمة الله محظورة على الكفار يوم القيامة، فأما في الدنيا، فإنهم ينالون منها العافية والرزق.
قوله تعالى: {وتلك القرى} يريد: التي قصصنا عليكَ ذِكْرها، والمراد: أهلها، ولذلك قال: {أهلكناهم} والمراد: قوم هود، وصالح، ولوط، وشعيب.
قال الفراء: قوله: {لَمّا ظَلَموا} معناه: بعدما ظَلَموا.
قوله تعالى: {وجعلنا لمهلكهم} قرأ الأكثرون بضم الميم وفتح اللام؛ قال الزجاج: وفيه وجهان.
أحدهما: أن يكون مصدرًا، فيكون المعنى: وجعلنا لإِهلاكهم.
والثاني: أن يكون وقتًا، فالمعنى: لوقت هلاكهم.
وقرأ أبو بكر عن عاصم بفتح الميم واللام، وهو مصدر مثل الهلاك.
وقرأ حفص عن عاصم بفتح الميم وكسر اللام، ومعناه: لوقت إِهلاكهم. اهـ.

.قال القرطبي:

قوله تعالى: {وَمَا نُرْسِلُ المرسلين إِلاَّ مُبَشِّرِينَ} أي بالجنة لمن آمن.
{وَمُنذِرِينَ} أي مخوّفين بالعذاب من كفر.
وقد تقدّم.
{وَيُجَادِلُ الذين كَفَرُواْ بالباطل لِيُدْحِضُواْ بِهِ الحق} قيل: نزلت في المقتسمين، كانوا يجادلون في الرسول صلى الله عليه وسلم، فيقولون: ساحر ومجنون وشاعر وكاهن كما تقدّم.
ومعنى {يُدحِضوا} يزيلوا ويبطلوا.
وأصل الدَّحْض الزَّلَق.
يقال: دَحَضتْ رِجلُه أي زَلِقت، تَدْحَض دَحْضًا، ودَحَضِتِ الشمسُ عن كبد السماء زالت، ودَحَضَت حُجّته دُحوضًا بَطلت، وأدحضها الله.
والإدحاض الإزلاق.
وفي وصف الصراط: «ويُضرَب الجِسرُ على جهنم وتَحِلُّ الشفاعةُ فيقولون اللهم سَلِّم سَلِّم» قيل: يا رسول الله وما الجِسر؟ قال: «دَحْضٌ مَزْلَقة» أي تَزلَق فيه القدم.
قال طَرَفة:
أبا منذِرٍ رُمْتَ الوفاءَ فهِبتَهُ ** وحِدْتَ كما حَادَ البعِيرُ عن الدَّحْضِ

{واتخذوا آيَاتِي} يعني القرآن {وَمَا أُنْذِرُواْ} من الوعيد {هُزُوًا}.
و{ما} بمعنى المصدر أي والإنذار.
وقيل: بمعنى الذي؛ أي اتخذوا القرآن والذي أنذروا به من الوعيد هزوًا أي لعبًا وباطلًا؛ وقد تقدّم في البقرة بيانه.
وقيل: هو قول أبي جهل في الزُّبد والتمّر هذا هو الزقّوم.
وقيل: هو قولهم في القرآن هو سحر وأضغاث أحلام وأساطير الأوّلين، وقالوا للرسول: {هَلْ هَذَا إلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ}، {وَقَالُواْ لَوْلاَ نُزِّلَ هذا القرآن على رَجُلٍ مِّنَ القريتين عَظِيمٍ} [الزخرف: 31] و{مَاذَآ أَرَادَ الله بهذا مَثَلًا} [البقرة: 26].
قوله تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بِآيِاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا} أي لا أحد أظلم لنفسه ممن وعظ بآيات ربه، فتهاون بها وأعرض عن قبولها.
{وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ} أي ترك كفره ومعاصيه فلم يتب منها؛ فالنسيان هنا بمعنى الترك.
وقيل: المعنى نسي ما قدّم لنفسه وحصّل من العذاب؛ والمعنى متقارب.
{إِنَّا جَعَلْنَا على قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا} بسبب كفرهم؛ أي نحن منعنا الإيمان من أن يدخل قلوبهم وأسماعهم.
{وَإِن تَدْعُهُمْ إلى الهدى} أي إلى الإيمان {فَلَنْ يهتدوا إِذًا أَبَدًا} نزل في قوم معينين، وهو يردّ على القَدَرية قولهم؛ وقد تقدّم معنى هذه الآية في سبحان وغيرها.
قوله تعالى: {وَرَبُّكَ الغفور ذُو الرحمة} أي للذنوب.
وهذا يختص به أهل الإيمان دون الكفرة بدليل قوله: {إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ} [النساء: 48].
{ذو الرحمة} فيه أربع تأويلات: أحدها: ذو العفو.
الثاني: ذو الثواب؛ وهو على هذين الوجهين مختص بأهل الإيمان دون الكفر.
الثالث: ذو النعمة.
الرابع: ذو الهدى؛ وهو على هذين الوجهين يعم أهل الإيمان والكفر، لأنه ينعِم في الدنيا على الكافر كإنعامه على المؤمن.
وقد أوضح هداه للكافر كما أوضحه للمؤمن وإن اهتدى به المؤمن دون الكافر.
ومعنى قوله: {لَوْ يُؤَاخِذُهُم بِمَا كَسَبُواْ} أي من الكفر والمعاصي {لَعَجَّلَ لَهُمُ العذاب} ولكنه يمهل.
{بَل لَّهُم مَّوْعِدٌ} أي أجل مقدّر يؤخرون إليه.
نظيره {لِّكُلِّ نَبَإٍ مُّسْتَقَرٌّ} [الأنعام: 67]، {لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ} [الرعد: 38] أي إذا حلّ لم يتأخر عنهم إما في الدنيا وإما في الآخرة.
{لَّن يَجِدُواْ مِن دُونِهِ مَوْئِلاٍ} أي ملجأ؛ قاله ابن عباس وابن زيد، وحكاه الجوهريّ في الصحاح.
وقد وَأَلَ يَئِلُ وَأْلًا وَوُءُولًا على فُعول أي لجأ، ووَاءَل منه على فاعل أي طلب النجاة.
وقال مجاهد: مَحْرِزًا.
قتادة: وليًّا.
أبو عبيدة: مَنْجًى.
وقيل: مَحيصًا؛ والمعنى واحد.
والعرب تقول: لا وَأَلتْ نفسُه أي لا نَجَت؛ ومنه قول الشاعر:
لا وَأَلتْ نفسُك خَلَّيْتَهَا ** للعامِرِيَّيْنِ ولم تُكْلَم

وقال الأعشى:
وقد أخَالِسُ رَبَّ البيتِ غَفْلَتهُ ** وقد يُحاذِرُ منّي ثم ما يَئِلُ

أي ما ينجو.
قوله تعالى: {وَتِلْكَ القرى أَهْلَكْنَاهُمْ} {تلك} في موضع رفع بالابتداء.
{القرى} نعت أو بدل.
و{أهلكناهم} في موضع الخبر محمول على المعنى؛ لأن المعنى أهل القرى.
ويجوز أن تكون {تلك} في موضع نصب على قول من قال: زيدًا ضربته؛ أي وتلك القرى التي قصصنا عليك نبأهم، نحو قُرى عاد وثمود ومدين وقوم لوط أهلكناهم لما ظلموا وكفروا.
{وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِم مَّوْعِدًا} أي وقتًا معلومًا لم تَعْدُه.
و{مُهْلَك} من أُهلِكوا.
وقرأ عاصم {مَهْلَكِهِم} بفتح الميم واللام وهو مصدر هَلَك.
وأجاز الكسائي والفراء {لِمَهْلِكِهِم} بكسر اللام وفتح الميم.
النحاس: قال الكسائي: وهو أحبّ إليّ لأنه من هلك.
الزجاج: مَهْلكْ اسم للزمان والتقدير: لوقت مَهْلِكهم، كما يقال: أتت الناقة على مَضْرِبِها. اهـ.