فصل: قال الشنقيطي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



و{أن يفقهوه} مجرور بحرف محذوف، أي مِنْ أن يفقهوه، لتضمين {أكنة} معنى الحائل أو المانع.
والوقر: ثقل السمع المانع من وصول الصوت إلى الصماخ. والضمير المفرد في {يفقهوه} عائد إلى القرآن المفهوم من المقام والمعبر عنه بالآيات.
وجملة {وإن تدعهم إلى الهدى} عطف على جملة {إنا جعلنا على قلوبهم}، وهي متفرعة عليها، ولكنها لم تعطف بالفاء لأن المقصود جعل ذلك في الإخبار المستقل.
وأكد نفي اهتدائهم بحرف توكيد النفي وهو {لن}، وبلفظ {أبدا} المؤكد لمعنى {لن}، وبحرف الجزاء المفيد تسبب الجواب على الشرط.
وإنما حصل معنى الجزاء باعتبار تفرع جملة الشرط على جملة الاستئناف البياني، أي ذلك مسبب على فطر قلوبهم على عدم قبول الحق.
{وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُمْ بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلًا (58)}.
جرى القرآن على عادته في تعقيب الترهيب بالترغيب والعكسسِ، فلما رماهم بقوارع التهديد والوعيد عطف على ذلك التعريضَ بالتذكير بالمغفرة لعلهم يتفكرون في مرضاته، ثم التذكير بأنه يشمل الخلق برحمته في حين الوعيد فيؤخر ما توعدهم به إلى حد معلوم إمهالًا للناس لعلهم يرجعون عن ضلالهم ويتدبرون فيما هم فيه من نعم الله تعالى فلعلهم يشكرون، موجهًا الخطاب إلى النبي صلى الله عليه وسلم مفتتحًا باستحضار الجلالة بعنوان الربوبية للنبيء صلى الله عليه وسلم إيماءً إلى أن مضمون الخبر تكريم له، كقوله: {وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم} [الأنفال: 33].
والوجه في نظم الآية أن يكون {الغفور} نعتًا للمبتدأ ويكون {ذو الرحمة} هو الخبر لأنه المناسب للمقام ولما بعده من جملة {لو يؤاخذهم}، فيكون ذكر {الغفور} إدماجًا في خلال المقصود.
فخُص بالذكر من أسماء الله تعالى اسم {الغفور} تعريضًا بالترغيب في الاستغفار.
والغفور: اسم يتضمن مبالغة الغفران لأنه تعالى واسع المغفرة إذ يغفر لمن لا يُحصَون ويغفر ذنوبًا لا تُحصى إن جاءه عبده تائبًا مقلعًا منكسرًا، على أن إمهاله الكفارَ والعصاةَ هو أيضًا من أثر المغفرة إذ هو مغفرة مؤقتة.
وأما قوله: {ذو الرحمة} فهو المقصود تمهيدًا لجملة {لو يؤاخذهم بما كسبوا}، فلذلك كانت تلك الجملة بيانًا لجملة {وربك الغفور ذو الرحمة} باعتبار الغفور الخبر وهو الوصف الثاني.
والمعنى: أنهم فيما كسبوه من الشرك والعناد أحرياء بتعجيل العقوبة لكن الله يمهلهم إلى أمد معلوم مقدر.
وفي ذلك التأجيل رحمة بالناس بتمكين بعضهم من مهلة التدارك وإعادة النظر، وفيه استبْقاؤهم على حالهم زمنًا.
فوصف {ذو الرحمة} يساوي وصف الرحيم لأن {ذو} تقتضي رسوخ النسبة بين موصوفها وما تضاف إليه.
وإنما عدل عن وصف الرحيم إلى {ذو الرحمة} للتنبيه على أنه خبر لا نعت تنبيهًا بطريقة تغيير الأسلوب، فإن اسم الرحيم صار شبيهًا بالأسماء الجامدة، لأنه صيغ بصيغة الصفة المشبهة فبعُد عن ملاحظة الاشتقاق فيه واقترب من صنف الصفة الذاتية.
و{بل} للإضراب الإبطالي عن مضمون جواب {لو}، أي لم يعجل لهم العذاب إذْ لهم موعد للعذاب متأخرٌ، وهذا تهديد بما يحصل لهم يوم بدر.
والموْئل: مَفْعل من وَأَلَ بمعنى لَجَأ، فهو اسم مكان بمعنى الملْجأ.
وأكد النفي ب {لن} ردًا على إنكارهم، إذ هم يحسبون أنهم مفلتون من العذاب حين يرون أنه تأخر مدةً طويلة، أي لأن لا ملجأ لهم من العذاب دون وقت وَعده أو مكان وَعده، فهو مَلجؤهم.
وهذا من تأكيد الشيء بما يشبه ضده، أي هم غير مُفلَتِين منه.
{وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِدًا (59)}.
بعد أن أزيل غرُورهم بتأخر العذاب، وأبطل ظنهم الإفلات منه ببيان أن ذلك إمهال من أثر رحمة الله بخلقه، ضرب لهم المثل في ذلك بحال أهل القرى السالفين الذين أُخر عنهم العذاب مدة ثم لم ينجوا منه بأخَرة، فالجملة معطوفة على جملة {بل لهم موعد} [الكهف: 58].
والإشارة بتلك إلى مقدر في الذهن، وكاف الخطاب المتصلة باسم الإشارة لا يراد به مخاطب ولكنها من تمام اسم الإشارة، وتجري على ما يناسب حال المخاطب بالإشارة من واحد أو أكثر، والعرب يعرفون ديار عاد وثمود ومدين ويسمعون بقوم لوط وقوم فرعون فكانت كالحاضرة حين الإشارة.
والظلم: الشرك وتكذيب الرسل.
والمُهلك بضم الميم وفتح اللام مصدر ميمي من أهلك، أي جعلنا لإهلاكنا إياهم وقتًا معينًا في علمنا إذا جاء حلَّ بهم الهلاك.
هذه قراءة الجمهور.
وقرأه حفص عن عاصم بفتح الميم وكسر اللام على أنه اسم زمان على وزن مَفعل.
وقرأه أبو بكر عن عاصم بفتح الميم وفتح اللام على أنه مصدر ميمي لِهَلَك. اهـ.

.قال الشنقيطي:

قوله تعالى: {وَمَا نُرْسِلُ المرسلين إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ} الآية.
ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أنه ما يرسل الرسل إلا مبشرين من أطاعهم بالجنة، ومنذرين من عصاهم بالنار. وكرر هذا المهنى في مواضع أخر، كقوله: {وَمَا نُرْسِلُ المرسلين إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} [الأنعام: 84]. وقد أوضحنا معنى البشارة والإنذار في أول هذه السورة الكريمة في الكلام على قوله تعالى: {لِّيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِّن لَّدُنْهُ} [الكهف: 2] الآية، وانتصاب قوله: {مبشرين} على الحال، اس ما نرسلهم إلا في حال كونهم مبشرين ومنذرين.
قوله تعالى: {وَيُجَادِلُ الذين كَفَرُواْ بالباطل لِيُدْحِضُواْ بِهِ الحق} الآية.
ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أن الذين كفروا يجادلون بالباطل، أي يخاصمون الرسل بالباطل، كقولهم في الرسل: ساحر، شاعر، كاهن. وكقولهم في القرآن: اساطير الأولين، سحر، شعر، كهانة. وكسؤالهم عن أصحاب الكهف، وذي القرنين. وسؤالهم عن الروح عنادًا وتعنتًا، ليبطلوا الحق بجدالهم وخصامهم بالباطل، فلاجدال: المخاصة. ومفعول {يجادل} محذوف دل ما قبله عليه، لأن قوله: {وَمَا نُرْسِلُ المرسلين} [الكهف: 56] يدل على أن الذين يجادلهم الكفار بالباطل هم المرسلون المذكورون آنفًا، وحذف الفضلة إذا دل المقام عليها جائز، واقع كثيرًا في القرآن وفي كلام العرب: كما عقده في الخلاصة بقوله:
وحذف فضلة أجز إن لم يضر ** كحذف ما سيق جوابًا أو حصر

والباطل: ضد الحق وكل شيء زائل مضمحل تسميه العرب: باطلًا، ومنه قول لبيد:
ألا كل شيء ما خلا الله باطل ** وكل نعم لا محالة زائل

ويجم اباطل كثيرًا على أباطيل على غير القياس، فيدخل في قول ابن مالك في الخلاصة:
وحائد عن القياس كل ما ** خالف في البابين حكمًا رسما

ومنه قول كعب بن زهير:
كانت مواعيد عرقوب لها مثلًا ** وما مواعيده إلالأباطيل

ويجمع أيضًا على البواطل قياسًا. والحق: ضد الباطل. وكل شيء ثابت غير زائل ولا مضمحل تسميه العرب حقًا. وقوله تعالى: {لِيُدْحِضُواْ بِهِ الحق} [الكهف: 56] أي ليبطلوه ويزيلوه به زأصله من إخاص القدم، وهو إزلاقها وإزالتها عن موضعها. تقول العرب، دحضت رجله: إذا زلقت، وأدحضها الله، أزلقها ودحضت حجته إذا بطلت، وأدحضها الله أبطلها، والمكان الدحض: هو الذي تزل فيه الأقدام؟ منه قول طرفة:
أبا منذر رمت الوفاء فهبته ** وحدت كما حاد البعير عن الرحض

وهذا الذي ذكره هنا من مجادلة الكفار للرسل بالباطل أوضحه في مواضع أخر: كقوله: {والذين يُحَآجُّونَ فِي الله مِن بَعْدِ مَا استجيب لَهُ حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِندَ رَبِّهِمْ} [الشورى: 16] الآية. وقوله جل وعلا: {يُرِيدُونَ أَن يُطْفِئُواْ نُورَ الله بِأَفْوَاهِهِمْ ويأبى الله إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الكافرون} [التوبة: 32]، وقوله تعالى: {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُواْ نُورَ الله بِأَفْوَاهِهِمْ والله مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الكافرون} [الصف: 8] وإرادتهم إطفاء نور الله بأفواههم، إنما هي بخاصمهم وجدالهم بالباطل.
وقد بين تعالى في مواضع أخر. أنا ما أراده الكفار من إدحاض الحق بالباطل لا يكون، وأنهم لا يصلون إلى ما أرادوا، بل الذي سيكون هوعكس ما أرادوه- فيحق ويبطل الباطل، كما قال تعالى: {هُوَ الذي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بالهدى وَدِينِ الحق لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدين كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ المشركون} [التوبة: 33]. وكقوله: {ويأبى الله إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الكافرون}، وقوله: {والله مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الكافرون}، وقوله تعالى: {بَلْ نَقْذِفُ بالحق عَلَى الباطل فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الويل مِمَّا تَصِفُونَ} [الأنبياء: 18]، وقوله تعالى: {وَقُلْ جَاءَ الحق وَزَهَقَ الباطل إِنَّ الباطل كَانَ زَهُوقًا} [الإسراء: 81]، وقوله تعالى: {أَنَزَلَ مِنَ السماء مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فاحتمل السيل زَبَدًا رَّابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النار ابتغاء حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِّثْلُهُ كذلك يَضْرِبُ الله الحق والباطل فَأَمَّا الزبد فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ الناس فَيَمْكُثُ فِي الأرض كذلك يَضْرِبُ الله الأمثال} [الرعد: 17] إلى غير ذلك من الآيات الدالة على أن الحق سيظهر ويعلو، وأن الباطل سيضمحل ويزهق ويذهب جفاء. وذلك هو نقيض ما كان يريدخ الكفار من إبطال الحق وإدخاصه بالباطل عن طريق الخصام والجدال.
قوله تعالى: {واتخذوا آيَاتِي وَمَا أُنْذِرُواْ هُزُوًا}.
ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أن الفار اتخذوا آياته التي أنزلها على رسوله، وإنذاره لهم هزؤا، أي سخرية واستخفافًا، والمصدر بمعنى اسم المفعول، أي اتخذوها مهزوءًا بها مستخفًا: كقوله: {إِنَّ قَوْمِي اتخذوا هذا القرآن مَهْجُورًا} [الفرقان: 30].
وهذا المعنى المذكورة هنا جاء مبينًا في آيات كثيرة، كقوله تعالى: {وَإِذَا عَلِمَ مِنْ آيَاتِنَا شَيْئًا اتخذها هُزُوًا أولئك لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ} [الجاثية: 9] وكقوله تعالى: {ياحسرة عَلَى العباد مَا يَأْتِيهِمْ مِّن رَّسُولٍ إِلاَّ كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} [يس: 30]، وقوله تعالى: {وَلَقَدِ استهزىء بِرُسُلٍ مِّن قَبْلِكَ فَحَاقَ بالذين سَخِرُواْ مِنْهُمْ مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ} [الأنعام: 10]، وقوله تعالى: {وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أبالله وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِءُونَ لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} [التوبة: 65-66] الآية، إلى غير ذلك من الآيات. {ما} في قوله: {ما أنذروا} مصدرية، كما قررنا، وعليه فلا ضمير محذوف. وقيل هي موصوله والعائد محذوف. تقديره: وما أنذروا بهه هزؤا. وحذف العائد المجرور بحرف إنما يطرد بالشروط التي ذكرها في الخلاصة بقوله:
كذاك الذي جر بما الموصول جر ** كمر بالذي مررت فهو بر

وفي قوله: {هزؤا} ثلاث قراءات سبعيه قرأه حمزة بإسكان الزاي في الوصل. وبقية السبعة بضم الزاي وتحقيق الهمزة. إلا حفصًا عن عاصم فإنه يبدل الهمزة واوًا، وذلك مروي عن حمزة في الوقف.
قوله تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بِآيِاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ}. الآية.
ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمه: أنه لا أحد أظلم. أي أكثر ظلمًا لنفسه ممن ذكر. أي وعظ بآيات ربه، وهي هذا القرآن العظيم {فأعرض عنها} أي تولى وصد عنها. وإنما قلنا: إن المراد بالآيات هذا القرآن العظيم لقرينة تذكير الضمير العائد إلى الآيات في قوله: {أن يفقهوه}، أي القرآن المعبر عنه بالآيات. ويحتمل شمول الآيات للقرآن وغيره، ويكون الضمير في قوله: {أن يفقهوه} أي ما ذكر من الآيات، كقول رؤبة:
فيها خطوط من سواد وبلق ** كأنه في الجلد توليع البهق

ونظير ذلك في القرآن قوله تعالى: {قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لاَّ فَارِضٌ وَلاَ بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذلك} [البقرة: 68] أي ذلك الذي ذكر من الفارض والبكر. ونظيره من كلام العرب قول ابن الزبعري:
إن للخير وللشر مدى ** وكلا ذلك وجه وقبل

أي كلا ذلك المذكور من خير وشر. وقد قدمنا إيضاح هذا. وقوله: {وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ} أي من المعاصي والكفر، مع أن الله لم ينسه بل هو محصيه عليه ومجازيه، كما قال تعالى: {يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ الله جَمِيعًا فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عملوا أَحْصَاهُ الله وَنَسُوهُ والله على كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [المجادلة: 6]، وقال تعالى: {وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذلك وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا} [مريم: 64]، وقال تعالى: {قَالَ عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لاَّ يَضِلُّ رَبِّي وَلاَ يَنسَى} [طه: 52]. وقال بعض العلماء في قوله: {وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ} أي تركه عمدًا ولم يتب منه. وبه صدر القرطبي رحمه الله تعالى. وما ذكره هنا من أن صاحبه من أعظم الناس ظلمًا. ومن نتائجه السيئة جعل الأكنة على القلوب حتى لا تفقه الحق، ودم الاهتداء أبدًا كما قال هنا مبينًا بعض ما ينشأ عنه من العواقب السيئة: {إِنَّا جَعَلْنَا على قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِن تَدْعُهُمْ إلى الهدى فَلَنْ يهتدوا إِذًا أَبَدًا} [الكهف: 57] ومنها انتقام الله جل وعلا من المعرض عن التذكره، كما قال تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَآ إِنَّا مِنَ المجرمين مُنتَقِمُونَ} [السجدة: 22]. ومنها كون المعرض كالحمار، كما قال تعالى: {فَمَا لَهُمْ عَنِ التذكرة مُعْرِضِينَ كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُّسْتَنفِرَةٌ} [المدثر: 49-50] الآية. ومنها الإنذار بصاعقةمثل صاعقة عاد وثمود، كما قال تعالى: {فَإِنْ أَعْرَضُواْ فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِّثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ} [فصلت: 13] الآية. ومنها المعيشية الضنك والعمى، كما قال تعالى: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ القيامة أعمى} [طه: 124]. ومنها سلكه العذاب الصعد، كما قال تعالى: {وَمَن يُعْرِضْ عَن ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَابًا صَعَدًا} [الجن: 17] ومنها تقبيض القرناء من الشياطين، كما قال تعالى: {وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرحمن نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ} [الزخرف: 36] إلى غير ذلك من النتائج السيئة، والعواقب الوخيمة، الناشئة عن الإعراض عن التذكير بآيات الله جل وعلا. وقد أمر تعالى في موضع آخر بالإعراض عن المتولي عن ذكره، القاصر نظره على الحياة الدنيا. وبين أن ذلك هو مبلغه من العلم، فلا علم عنده بما ينفعه في معاده، وذلك في قوله تعالى: {فَأَعْرِضْ عَن مَّن تولى عَن ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلاَّ الحياة الدنيا ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِّنَ العلم إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهتدى} [النجم: 29-30]. وقد نهى جل وعلا عن طاعة مثل ذلك المتولي عن الذكر الغافل عنه في قوله: {وَلاَ تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا واتبع هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا} [الكهف: 28] كما تقدم ايضاحه.