فصل: قال الشوكاني في الآيات السابقة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الشوكاني في الآيات السابقة:

{وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا (54)}.
لما ذكر سبحانه افتخار الكفرة على فقراء المسلمين بأموالهم وعشائرهم، وأجابهم عن ذلك وضرب لهم الأمثال الواضحة، حكى بعض أهوال الآخرة فقال: {وَلَقَدْ صَرَّفْنَا} أي: كرّرنا ورددنا {فِى هذا القرآن للناس} أي لأجلهم ولرعاية مصلحتهم ومنفعتهم {مِن كُلّ مَثَلٍ} من الأمثال التي من جملتها الأمثال المذكورة في هذه السورة، وقد تقدّم تفسير هذه الآية في سورة بني إسرائيل، وحين لم يترك الكفار ما هم فيه من الجدال بالباطل، ختم الآية بقوله: {وَكَانَ الإنسان أَكْثَرَ شيء جَدَلًا} قال الزجاج: المراد بالإنسان: الكافر، واستدل على أن المراد الكافر بقوله تعالى: {ويجادل الذين كَفَرُواْ بالباطل} وقيل: المراد به في الآية: النضر بن الحارث، والظاهر العموم وأن هذا النوع أكثر الأشياء التي يتأتى منها الجدال جدلًا، ويؤيد هذا ما ثبت في الصحيحين وغيرهما من حديث عليّ: أن النبيّ صلى الله عليه وسلم طرقه وفاطمة ليلًا، فقال: «ألا تصليان؟» فقلت: يا رسول الله إنما أنفسنا بيد الله إن شاء أن يبعثنا بعثنا، فانصرف حين قلت ذلك ولم يرجع إليّ شيئًا، ثم سمعته يضرب فخذه ويقول: «{وَكَانَ الإنسان أَكْثَرَ شيء جَدَلًا}»، وانتصاب جدلًا على التمييز.
{وَمَا مَنَعَ الناس أَن يُؤْمِنُواْ إِذْ جَاءهُمُ الهدى وَيَسْتَغْفِرُواْ رَبَّهُمْ إِلاَّ أَن تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الأولين} قد تقدّم الكلام على مثل هذا في سورة بني إسرائيل، وذكرنا أنّ {أن} الأولى في محل نصب، والثانية في محل رفع، والهدى: القرآن ومحمد صلى الله عليه وسلم، والناس هنا هم أهل مكة، والمعنى على حذف مضاف، أي: ما منع الناس من الإيمان والاستغفار إلا طلب إتيان سنة الأوّلين، أو انتظار إتيان سنة الأوّلين، وزاد الاستغفار في هذه السورة لأنه قد ذكر هنا ما فرط منهم من الذنوب التي من جملتها جدالهم بالباطل، وسنة الأوّلين هو أنهم إذا لم يؤمنوا عذبوا عذاب الاستئصال.
قال الزجاج: سنّتهم هو قولهم: {إِن كَانَ هذا هُوَ الحق مِنْ عِندِكَ} الآية [الأنفال: 2] {أَوْ يَأْتِيَهُمُ العذاب} أي: عذاب الآخرة {قُبُلًا} قال الفراء: إن قبلًا جمع قبيل، أي: متفرقًا يتلو بعضه بعضًا، وقيل: عيانًا، وقيل: فجأة.
ويناسب ما قاله الفراء قراءة أبي جعفر وعاصم والأعمش وحمزة والكسائي ويحيى بن وثاب وخلف {قُبُلًا} بضمتين فإنه جمع قبيل، نحو سبيل وسبل، والمراد: أصناف العذاب، ويناسب التفسير الثاني، أي: عيانًا، قراءة الباقين بكسر القاف وفتح الباء أي: مقابلة ومعاينة، وقرئ بفتحتين على معنى: أو يأتيهم العذاب مستقبلًا، وانتصابه على الحال.
فحاصل معنى الآية أنهم لا يؤمنون ولا يستغفرون إلا عند نزول عذاب الدنيا المستأصل لهم، أو عند إتيان أصناف عذاب الآخرة أو معاينته.
{وَمَا نُرْسِلُ المرسلين} من رسلنا إلى الأمم {إِلا} حال كونهم {مُبَشّرِينَ} للمؤمنين {وَمُنذِرِينَ} للكافرين فالاستثناء مفرّغ من أعمّ العام، وقد تقدّم تفسير هذا {ويجادل الذين كَفَرُواْ بالباطل لِيُدْحِضُواْ بِهِ الحق} أي: ليزيلوا بالجدال بالباطل الحق ويبطلوه وأصل الدحض: الزلق يقال: دحضت رجله، أي: زلقت تدحض دحضًا، ودحضت الشمس عن كبد السماء: زالت، ودحضت حجته دحوضًا بطلت، ومن ذلك قول طرفة:
أبا منذر رمت الوفاء فهبته ** وحدت كما حاد البعير عن الدحض

ومن مجادلة هؤلاء الكفار بالباطل قولهم للرسل {مَا أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مّثْلُنَا} [الشعراء: 154].
ونحو ذلك: {واتخذوا ءاياتى} أي: القرآن {وَمَا أُنْذِرُواْ} به من الوعيد والتهديد {هزؤا} أي: لعبًا وباطلًا، وقد تقدّم هذا في البقرة.
{وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكّرَ بئايات رَبّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا} أي: لا أحد أظلم لنفسه ممن وعظ بآيات ربه التنزيلية أو التكوينية أو مجموعهما فتهاون بها وأعرض عن قبولها، ولم يتدبرها حقّ التدبر ويتفكر فيها حق التفكر {وَنَسِىَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ} من الكفر والمعاصي، فلم يتب عنها.
قيل: والنسيان هنا بمعنى الترك، وقيل: هو على حقيقته {إِنَّا جَعَلْنَا على قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ} أي: أغطية، والأكنة: جمع كنان، والجملة تعليل لإعراضهم ونسيانهم.
قال الزجاج: أخبر الله سبحانه أن هؤلاء طبع على قلوبهم {وفي آذنهم وقرا} أي: وجعلنا في آذانهم ثقلًا يمنع من استماعه، وقد تقدّم تفسير هذا في الأنعام {وَإِن تَدْعُهُمْ إلى الهدى فَلَنْ يَهْتَدُواْ إِذًا أَبَدًا} لأن الله قد طبع على قلوبهم بسبب كفرهم ومعاصيهم.
{وَرَبُّكَ الغفور ذُو الرحمة} أي: كثير المغفرة، وصاحب الرحمة التي وسعت كل شيء فلم يعاجلهم بالعقوبة، ولهذا قال: {لَوْ يُؤَاخِذُهُم بِمَا كَسَبُواْ} أي: بسبب ما كسبوه من المعاصي التي من جملتها الكفر والمجادلة والإعراض {لَعَجَّلَ لَهُمُ العذاب} لاستحقاقهم لذلك {بَلِ} جعل {لَّهُم مَّوْعِدٌ} أي: أجل مقدّر لعذابهم، قيل: هو عذاب الآخرة، وقيل: يوم بدر {لَّن يَجِدُواْ مِن دُونِهِ مَوْئِلًا} أي: ملجأً يلجئون إليه.
وقال أبو عبيدة: منجًا، وقيل: محيصًا، ومنه قول الشاعر:
لا وا ألت نفسك خليتها ** للعامريين ولم تكلم

وقال الأعشى:
وقد أخالس ربّ البيت غفلته ** وقد يحاذر مني ثم ما يئل

أي ما ينجو. {وَتِلْكَ القرى} أي: قرى عاد وثمود وأمثالها {أهلكناهم} هذا خبر اسم الإشارة و{القرى} صفته، والكلام على حذف مضاف، أي: أهل القرى أهلكناهم {لَمَّا ظَلَمُواْ} أي: وقت وقوع الظلم منهم بالكفر والمعاصي {وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِم مَّوْعِدًا} أي: وقتًا معينًا، وقرأ عاصم مهلكهم بفتح الميم واللام، وهو مصدر هلك، وأجاز الكسائي والفراء كسر اللام وفتح الميم، وبذلك قرأ حفص، وقرأ الجمهور بضم الميم وفتح اللام.
وقال الزجاج مهلك: اسم للزمان، والتقدير: لوقت مهلكهم.
وقد أخرج ابن أبي حاتم عن قتادة في قوله: {إِلاَّ أَن تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الأولين} قال: عقوبة الأولين.
وأخرج ابن أبي حاتم عن الأعمش في قوله: {قُبُلًا} قال: جهارًا.
وأخرج ابن أبي شيبة، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن مجاهد قال: فجأة.
وأخرج ابن أبي حاتم عن قتادة في قوله: {وَنَسِىَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ} قال: نسي ما سلف من الذنوب الكثيرة.
وأخرج أيضًا عن ابن عباس {بِمَا كَسَبُواْ} يقول: بما عملوا.
وأخرج ابن أبي حاتم عن السدّي {بَل لَّهُم مَّوْعِدٌ} قال: الموعد يوم القيامة.
وأخرج ابن المنذر، وابن أبي حاتم من طريق عليّ بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله: {مَوْئِلًا} قال: ملجأ.
وأخرج ابن أبي شيبة، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن مجاهد {مَوْئِلًا} قال: محرزًا. اهـ.

.قال سيد قطب:

{وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا (47)} انتهى. الدرس السابق بالحديث عن الباقيات الصالحات؛ فهنا يصله بوصف اليوم الذي يكون للباقيات الصالحات وزن فيه وحساب، يعرضه في مشهد من مشاهد القيامة. ويتبعه في السياق بإشارة إلى ما كان من إبليس يوم أمر بالسجود لآدم ففسق عن أمر ربه للتعجيب من ابناء آدم الذين يتخذون الشياطين أولياء، وقد علموا أنهم لهم أعداء، وبذلك ينتهون إلى العذاب في يوم الحساب. ويعرج على الشركاء الذين لا يستجيبون لعبادهم في ذلك اليوم الموعود.
هذا وقد صرف الله في القرآن الأمثال للناس ليقوا أنفسهم شر ذلك اليوم، ولكنهم لم يؤمنوا، وطلبوا أن يحل بهم العذاب أو أن يأتيهم الهلاك الذي نزل بالأمم قبلهم. وجادلوا بالباطل ليغلبوا به الحق، واستهزأوا بآيات الله ورسله. ولولا رحمة الله لعجل لهم العذاب..
هذا الشوط من مشاهد القيامة، ومن مصارع المكذبين يرتبط بمحور السورة الأصيل في تصحيح العقيدة، وبيان ما ينتظر المكذبين، لعلهم يهتدون.
{ويوم نسير الجبال وترى الأرض بارزة وحشرناهم فلم نغادر منهم أحدًا وعرضوا على ربك صفًا لقد جئتمونا كما خلقناكم أول مرة بل زعمتم أن لن نجعل لكم موعدًا ووضع الكتاب فترى المجرمين مشفقين مما فيه ويقولون يا ويلتنا مال هذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها ووجدوا ما عملوا حاضرًا ولا يظلم ربك أحدًا}.
إنه مشهد تشترك فيه الطبيعة ويرتسم الهول فيه على صفحاتها وعلى صفحات القلوب. مشهد تتحرك فيه الجبال الراسخة فتسير، فكيف بالقلوب، وتتبدى فيه الأرض عارية، وتبرز فيه صفحتها مكشوفة لا نجاد فيها ولا وهاد، ولا جبال فيها ولا وديان. وكذلك تتكشف خبايا القلوب فلا تخفى منها خافية.
ومن هذه الأرض المستوية المكشوفة التي لا تخبئ شيئًا، ولا تخفي أحدًا: {وحشرناهم فلم نغادر منهم أحدًا}.
ومن الحشر الجامع الذي لا يخلف أحدًا إلى العرض الشامل: {وعرضوا على ربك صفًا}.. هذه الخلائق التي لا يحصى لها عدد، منذ أن قامت البشرية على ظهر هذه الأرض إلى نهاية الحياة.. هذه الخلائق كلها محشورة مجموعة مصفوفة، لم يتخلف منها أحد، فالأرض مكشوفة مستوية لا تخفي أحدًا.
وهنا يتحول السياق من الوصف إلى الخطاب. فكأنما المشهد حاضر اللحظة، شاخص نراه ونسمع ما يدور فيه. ونرى الخزي على وجوه القوم الذين كذبوا بذلك الموقف وأنكروه: {لقد جئتمونا كما خلقناكم أول مرة بل زعمتم أن لن نجعل لكم موعدًا}.
هذا الالتفات من الوصف إلى الخطاب يحيي المشهد ويجسمه. كأنما هو حاضر اللحظة، لا مستقبل في ضمير الغيب في يوم الحساب.
وإننا لنكاد نلمح الخزي على الوجوه، والذل في الملامح.
وصوت الجلالة الرهيب يجبه هؤلاء المجرمين بالتأنيب: {ولقد جئتمونا كما خلقناكم أول مرة} وكنتم تزعمون أن ذلك لن يكون: {بل زعمتم أن لن نجعل لكم موعدًا}!
وبعد إحياء المشهد واستحضاره بهذا الالتفات من الوصف إلى الخطاب يعود إلى وصف ما هناك:
{ووضع الكتاب فترى المجرمين مشفقين مما فيه} فهذا هو سجل أعمالهم يوضع أمامهم، وهم يتملونه ويراجعونه، فإذا هو شامل دقيق. وهم خائفون من العاقبة ضيقو الصدور بهذا الكتاب الذي لا يترك شاردة ولا واردة، ولا تند عنه كبيرة ولا صغيرة: {يقولون يا ويلتنا مال هذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها} وهي قولة المحسور المغيظ الخائف المتوقع لأسوأ العواقب، وقد ضبط مكشوفًا لا يملك تفلتا ولا هربًا، ولا مغالطة ولا مداورة: {ووجدوا ما عملوا حاضرًا} ولاقوا جزاء عادلًا: {ولا يظلم ربك أحدًا}.. هؤلاء المجرمون الذين وقفوا ذلك الموقف كانوا يعرفون أن الشيطان عدو لهم، ولكنهم تولوه فقادهم إلى ذلك الموقف العصيب. فما أعجب أن يتولوا إبليس وذريته وهم لهم عدو منذ ما كان بين آدم وإبليس:
{وإذا قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس كان من الجن ففسق عن أمر ربه أفتتخذونه وذريته أولياء من دوني وهم لكم عدو بئس للظالمين بدلًا}.
وهذه الإشارة إلى تلك القصة القديمة تجيء هنا للتعجيب من أبناء آدم الذين يتخذون ذرية إبليس أولياء من دون الله بعد ذلك العداء القديم.
واتخاذ إبليس وذريته أولياء يتمثل في تلبية دواعي المعصية والتولي عن دواعي الطاعة.
ولماذا يتولون أعداءهم هؤلاء، وليس لديهم علم ولا لهم قوة. فالله لم يشهدهم خلق السماوات والأرض ولا خلق أنفسهم فيطلعهم على غيبه. والله لا يتخذهم عضدًا فتكون لهم قوة:
{ما أشهدتهم خلق السماوات والأرض ولا خلق أنفسهم وما كنت متخذ المضلين عضدًا}.. إنما هو خلق من خلق الله، لا يعلمون غيبه، ولا يستعين بهم سبحانه.. {وما كنت متخذ المضلين عضدًا} فهل يتخذ الله سبحانه غير المضلين عضدًا؟
وتعالى الله الغني عن العالمين، ذو القوة المتين.. إنما هو تعبير فيه مجاراة لأوهام المشركين لتتبعها واستئصالها. فالذين يتولون الشيطان ويشركون به مع الله، إنما يسلكون هذا المسلك توهمًا منهم أن للشيطان علمًا خفيًا، وقوة خارقة. والشيطان مضل، والله يكره الضلال والمضلين. فلو أنه على سبيل الفرض والجدل كان متخذًا له مساعدين، لما اختارهم من المضلين!
وهذا هو الظل الذي يراد أن يلقيه التعبير.. ثم يعرض مشهد من مشاهد القيامة يكشف عن مصير الشركاء ومصير المجرمين:
{ويوم يقول نادوا شركائي الذين زعمتم فدعوهم فلم يستجيبوا لهم وجعلنا بينهم موبقا ورأى المجرمون النار فظنوا أنهم مواقعوها ولم يجدوا عنها مصرفًا}. إنهم في الموقف الذي لا تجدي فيه دعوى بلا برهان. والديان يطالبهم أن يأتوا بشركائهم الذين زعموا، ويأمرهم أن يدعوهم ليحضروا.. وإنهم لفي ذهول ينسون انها الآخرة، فينادون. لكن الشركاء لا يجيبون! وهم بعض خلق الله الذين لا يملكون لأنفسهم ولا لغيرهم شيئًا في الموقف المرهوب. وقد جعل الله بين المعبودين وعبادهم مهلكة لا يجتازها هؤلاء ولا هؤلاء.. إنها النار {وجعلنا بينهم موبقًا}.
ويتطلع المجرمون، فتمتلئ نفوسهم بالخوف والهلع، وهم يتوقعون في كل لحظة أن يقعوا فيها. وما أشق توقع العذاب وهو حاضر، وقد أيقنوا أن لا نجاة منها ولا محيص:
{ورأى المجرمون النار فظنوا أنهم مواقعوها ولم يجدوا عنها مصرفًا}.
ولقد كان لهم عنها مصرف، لو أنهم صرفوا قلوبهم من قبل للقرآن، ولم يجادلوا في الحق الذي جاء به، وقد ضرب الله لهم فيه الأمثال ونوعها لتشمل جيمع الأحوال:
{ولقد صرفنا في هذا القرآن للناس من كل مثل وكان الإنسان أكثر شيء جدلًا}..
ويعبر السياق عن الإنسان في هذا المقام بانه {شيء} وأنه أكثر شيء جدلا. ذلك كي يطامن الإنسان من كبريائه، ويقلل من غروره، ويشعر أنه خلق من مخلوقات الله الكثيرة. وأنه أكثر هذه الخلائق جدلًا. بعد ما صرف الله في هذا القرآن من كل مثل.
ثم يعرض الشبهة التي تعلق بها من لم يؤمنوا وهم كثرة الناس على مدار الزمان والرسالات:
{وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى ويستغفروا ربهم إلا أن تأتيهم سنة الأولين أو يأتيهم العذاب قبلًا}.. فلقد جاءهم من الهدى ما يكفي للاهتداء.. ولكنهم كانوا يطلبون أن يحل بهم ما حل بالمكذبين من قبلهم من هلاك استبعادًا لوقوعه واستهزاء أو أن يأتيهم العذاب مواجهة يرون أنه سيقع بهم. وعندئذ فقط يوقنون فيؤمنون!
وليس هذا أو ذاك من شأن الرسل. فأخذ المكذبين بالهلاك كما جرت سنة الله في الأولين بعد مجيء الخوارق وتكذيبهم بها أو إرسال العذاب.. كله من أمر الله. أما الرسل فهم مبشرون ومنذرون:
{وما نرسل المرسلين إلا مبشرين ومنذرين ويجادل الذين كفروا بالباطل ليدحضوا به الحق واتخذوا آياتي وما أنذروا هزوا}.
والحق واضح. ولكن الذين كفروا يجادلون بالباطل ليغلبوا به الحق ويبطلوه. وهم حين يبطلون الخوارق، ويستعجلون بالعذاب لا يبتغون اقتناعًا، إنما هم يستهزئون بالآيات والنذر ويسخرون.
{ومن أظلم ممن ذكر بآيات ربه فأعرض عنها ونسي ما قدمت يداه إنا جعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقرًا وإن تدعهم إلى الهدى فلن يهتدوا إذًا أبدًا}.. فهؤلاء الذين يستهزئون بآيات الله ونذره لا يرجى منهم أن يفقهوا هذا القرآن، ولا أن ينتفعوا به.
لذلك جعل الله على قلوبهم أغطية تحول دون فقهه، وجعل في آذانهم كالصمم فلا يستمعون إليه. وقدر عليهم الضلال بسبب استهزائهم وإعراضهم فلن يهتدوا إذن ابدًا. فللهدى قلوب متفتحة مستعدة للتلقي.
{وربك الغفور ذو الرحمة لو يؤاخذهم بما كسبوا لعجل لهم العذاب}.. ولكن الله يمهلهم رحمة بهم، ويؤخر عنهم الهلاك الذي يستعجلون به، ولكنه لن يهملهم: {بل لهم موعد لن يجدوا من دونه موئلًا}.. موعد في الدنيا يحل بهم فيه شيء من العذاب. وموعد في الآخرة يوفون فيه الحساب.
ولقد ظلموا فكانوا مستحقين للعذاب أو الهلاك كالقرى قبلهم. لولا أن الله قدر إمهالهم إلى موعدهم، لحكمة اقتضتها إرادته فيهم، فلم يأخذهم أخذ القرى؛ بل جعل لهم موعدًا آخر لا يخلفونه:
{وتلك القرى أهلكناهم لما ظلموا وجعلنا لمهلكهم موعدًا}.. فلا يغرنهم إمهال الله لهم، فإن موعدهم بعد ذلك آت. وسنة الله لا تتخلف. والله لا يخلف الميعاد.. اهـ.