فصل: قال القرطبي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



قوله تعالى: {فاتخذ سبيله في البحر سربًا} أي: مسلكًا ومذهبًا.
قال ابن عباس: جعل الحوت لا يمسُّ شيئًا من البحر إِلا يبس حتى يكون صخرة.
وقال قتادة: جعل لا يسلك طريقًا إِلا صار الماء جامدًا.
وقد ذكرنا في حديث أُبيّ بن كعب أن الماء صار مثل الطاق على الحوت.
قوله تعالى: {فلما جاوزا} ذلك المكان الذي ذهب فيه الحوت، أصابهما ما يصيب المسافر من النَّصَب، فدعا موسى بالطعام، فقال: {آتنا غداءنا} وهو الطعام الذي يؤكل بالغداة.
والنَّصَب: الإِعياءِ.
وهذا يدل على إِباحة إِظهار مثل هذا القول عندما يلحق الإِنسانَ من الأذى والتعب، ولا يكون ذلك شكوى.
{قال} يوشع لموسى {أرأيتَ إِذ أوينا إِلى الصخرة} أي: حين نزلنا هناك {فإني نسيتُ الحوت} فيه قولان.
أحدهما: نسيتُ أن أخبرك خبر الحوت.
والثاني: نسيت حمل الحوت.
قوله تعالى: {وما أنسانيه} قرأ الكسائي: {أنسانيه} باماله السين مع كسر الهاء.
وقرأ ابن كثير: {أنسانيهي} بإثبات ياء في الوصل بعد الهاء.
وروى حفص عن عاصم: {أنسانيهُ إِلا} بضم الهاء في الوصل.
قوله تعالى: {واتخذ سبيله في البحر عجبًا} الهاء في السبيل ترجع إِلى الحوت.
وفي المُتَّخِذ قولان.
أحدهما: أنه الحوت، ثم في المخبر عنه قولان.
أحدهما: أنه الله عز وجل، ثم في معنى الكلام ثلاثة أقوال.
أحدها: فاتخذ سبيله في البحر يُري عجبًا، ويُحدث عجبًا.
والثاني: أنه لما قال الله تعالى: {واتخذ سبيله في البحر}، قال: اعجبوا لذلك عجبًا، وتنَّبهوا لهذه الآية.
والثالث: أن إِخبار الله تعالى انقطع عند قوله: {في البحر} فقال موسى: عجبًا، لِما شوهد من الحوت.
ذكر هذه الأقوال ابن الأنباري.
والثاني: أن المُخْبِر عن الحوت يوشع، وصف لموسى ما فعل الحوت.
والقول الثاني: أن المتخِذ موسى، اتخذ سبيل الحوت في البحر عجبًا، فدخل في المكان الذي مَرَّ فيه الحوت، فرأى الخَضِر.
وروى عطية عن ابن عباس قال: رجع موسى إِلى الصخرة فوجد الحوت، فجعل الحوت يضرب في البحر، ويتبعه موسى، حتى انتهى به إِلى جزيرة من جزائر البحر، فلقي الخضر.
قوله تعالى: {قال} يعني: موسى {ذلك ما كُنَّا نبغي} أي: ذلك الذي نطلب من العلامة الدَّالة على مطلوبنا.
قرأ ابن كثير: {نبغي} بياء في الوصل والوقف.
وقرأ نافع، وأبو عمرو، والكسائي، بياء في الوصل.
وقرأ ابن عامر، وعاصم، وحمزة، بحذف الياء في الحالين.
قوله تعالى: {فارتدا على آثارهما} قال الزجاج: أي: رجعا في الطريق الذي سلكاه، يقصَّان الأثر والقَصَص: اتِّباع الأثر. اهـ.

.قال القرطبي:

{وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لَا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا (60)}.
فيه أربع مسائل:
الأولى: قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ موسى لِفَتَاهُ لا أَبْرَحُ} الجمهور من العلماء وأهل التاريخ أنه موسى بن عِمران المذكور في القرآن ليس فيه موسى غيره.
وقالت فرقة منها نَوْف البِكَاليّ: إنه ليس ابن عمران وإنما هو موسى بن منشا بن يوسف بن يعقوب وكان نبيًا قبل موسى بن عمران.
وقد ردّ هذا القول ابن عباس في صحيح البخاري وغيره.
وفتاه: هو يوشع بن نون.
وقد مضى ذكره في المائدة وآخر يوسف.
ومن قال هو ابن منشا فليس الفتى يوشع بن نون.
{لاَ أَبْرَحُ} أي لا أزال أسِير؛ قال الشاعر:
وأَبرحُ ما أدامَ اللَّهُ قَومِي ** بحمد الله مُنْتَطِقًا مُجِيدَا

وقيل: {لاَ أَبْرَحُ} لا أفارقك.
{حتى أَبْلُغَ مَجْمَعَ البحرين} أي ملتقاهما.
قال قتادة: وهو بحر فارس والروم؛ وقاله مجاهد.
قال ابن عطية: وهو ذراع يخرج من البحر المحيط من شمال إلى جنوب في أرض فارس من وراء أَذْرَبِيجان، فالركن الذي لاجتماع البحرين مما يلي بَرّ الشام هو مجمع البحرين على هذا القول.
وقيل: هما بحر الأرْدُنّ وبحر القُلْزُم.
وقيل: مجمع البحرين عند طنجة؛ قاله محمد بن كعب.
وروي عن أبيّ بن كعب أنه بأفريقية.
وقال السدي: الكُرّوالرَّسُّ بأرمينية.
وقال بعض أهل العلم: هو بحر الأندلس من البحر المحيط؛ حكاه النقاش؛ وهذا مما يذكر كثيرًا.
وقالت فرقة: إنما هما موسى والخضر؛ وهذا قول ضعيف؛ وحكي عن ابن عباس، ولا يصح؛ فإن الأمر بيِّن من الأحاديث أنه إنما وُسِم له بحر ماء.
وسبب هذه القصة ما خرجه الصحيحان عن أبيّ بن كعب أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن موسى عليه السلام قام خطيبًا في بني إسرائيل فسئل أي الناس أعلم فقال: أنا فعتَب الله عليه إذ لم يردّ العلم إليه فأوحى الله إليه إن لي عبدًا بمجمع البحرين هو أعلم منك قال موسى: يا رب فكيف لي به قال: تأخذ معك حوتًا فتجعله في مِكتَل فحيثما فَقدتَ الحُوت فهو ثَمَّ» وذكر الحديث، واللفظ للبخاري.
وقال ابن عباس: لما ظهر موسى وقومه على أرض مصر أنزل قومه مصر، فلما استقرت بهم الدار أمره الله أن ذكرّهم بأيام الله، فخطب قومه فذكّرهم ما آتاهم الله من الخير والنعمة إذ نجاهم من آل فرعون، وأهلك عدوّهم، واستخلفهم في الأرض، ثم قال: وكلم الله نبيكم تكليما، واصطفاه لنفسه، وألقى عليّ محبة منه، وآتاكم من كل ما سألتموه، فجعلكم أفضل أهل الأرض، ورزقكم العز بعد الذل، والغنى بعد الفقر، والتوراة بعد أن كنتم جهالا؛ فقال له رجل من بني إسرائيل: عَرَفنا الذي تقول، فهل على وجه الأرض أحد أعلم منك يا نبي الله؟ قال: لا؛ فعتب الله عليه حين لم يرد العلم إليه، فبعث إليه جبريل: أن يا موسى وما يدريك أين أضع علمي؟ بلى إن لي عبدًا بمجمع البحرين أعلم منك؛ وذكر الحديث.
قال علماؤنا: وقوله في الحديث: «هو أعلم منك» أي بأحكام وقائع مفصَّلة، وحُكم نوازل معينة، لا مطلقًا، بدليل قول الخضر لموسى: إنك على علم علّمكه الله لا أعلمه أنا، وأنا على علم علّمنيه لا تعلمه أنت، وعلى هذا فيصدق على كل واحد منهما أنه أعلم من الآخر بالنسبة إلى ما يعلمه واحد منهما ولا يعلمه الآخر، فلما سمع موسى هذا تشوقت نفسه الفاضلة؛ وهمته العالية، لتحصيل علم ما لم يعلم، وللقاء من قيل فيه: إنه أعلم منك؛ فعزم فسأل سؤال الذليل بكيف السبيل، فأمر بالارتحال على كل حال.
وقيل له احمل معك حوتًا مالحا في مِكْتل وهو الزنبيل فحيث يحيا وتفقده فثَمَّ السبيل، فانطلق مع فتاه لما واتاه، مجتهدًا طالبًا قائلًا: {لا أبرح حتى أبلغ مجمع البحرين}.
{أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا} بضم الحاء والقاف وهو الدهر، والجمع أحقاب.
وقد تسكن قافه فيقال: حُقْب.
وهو ثمانون سنة.
ويقال: أكثر من ذلك.
والجمع حِقاب.
والحِقْبة بكسر الحاء واحدة الحقُب وهي السنون.
الثانية: في هذا من الفقه رحلة العالم في طلب الازدياد من العلم، والاستعانة على ذلك بالخادم والصاحب، واغتنام لقاء الفضلاء والعلماء وإن بعدت أقطارهم، وذلك في دأب السلف الصالح، وبسبب ذلك وصل المرتحلون إلى الحظ الراجح، وحصلوا على السعي الناجح، فرسخت لهم في العلوم أقدام، وصح لهم من الذكر والأجر والفضل أفضل الأقسام، قال البخاري: ورحل جابر بن عبد الله مسيرة شهر إلى عبد الله بن أنيس في حديث.
الثالثة: قوله تعالى: {وَإذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ} للعلماء فيه ثلاثة أقوال: أحدها: أنه كان معه يخدمه، والفتى في كلام العرب الشاب، ولما كان الخدمة أكثر ما يكونون فتيانًا قيل للخادم فتى على جهة حسن الأدب، وندبت الشريعة إلى ذلك في قول النبي صلى الله عليه وسلم: «لا يقل أحدكم عبدي ولا أمتي وليقل فَتايَ وفتاتي» فهذا ندبٌ إلى التواضع؛ وقد تقدم هذا في يوسف.
والفتى في الآية هو الخادم وهو يوشع بن نون بن إفراثيم بن يوسف عليه السلام.
ويقال: هو ابن أخت موسى عليه السلام.
وقيل: إنما سمي فتى موسى لأنه لزمه ليتعلم منه وإن كان حرًا؛ وهذا معنى الأوّل.
وقيل: إنما سماه فتى لأنه قام مقام الفتى وهو العبد، قال الله تعالى: {وَقَالَ لِفِتْيَانِهِ اجعلوا بِضَاعَتَهُمْ فِي رِحَالِهِمْ} [يوسف: 62] وقال: {تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَن نَّفْسِهِ} [يوسف: 30] قال ابن العربي: فظاهر القرآن يقتضي أنه عبد، وفي الحديث: أنه كان يوشع بن نون.
وفي التفسير أنه ابن أخته، وهذا كله مما لا يُقطع به، والتوقف فيه أسلم.
الرابعة: قوله تعالى: {أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا} قال عبد الله بن عمرو: الحُقب ثمانون سنة.
مجاهد: سبعون خريفًا.
قتادة: زمان.
النحاس: الذي يعرفه أهل اللغة أن الحُقب والحِقبة زمان من الدهر مبهم غير محدود؛ كما أن رهطًا وقومًا مبهم غير محدود: وجمعه أحقاب.
قوله تعالى: {فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا فاتخذ سَبِيلَهُ فِي البحر سَرَبًا}.
الضمير في قوله: {بينهما} للبحرين؛ قاله مجاهد.
والسَّرَب المسلك؛ قاله مجاهد أيضًا.
وقال قتادة: جَمَد الماء فصار كالسَّرَب.
وجمهور المفسرين أن الحوت بقي موضع سلوكه فارغًا، وأن موسى مشى عليه متبعًا للحوت، حتى أفضى به الطريق إلى جزيرة في البحر، وفيها وجد الخضر.
وظاهر الروايات والكتاب أنه إنما وجد الخضر في ضفة البحر.
وقوله: {نسيا حوتهما} وإنما كان النسيان من الفتى وحده فقيل: المعنى؛ نسي أن يُعلِم موسى بما رأى من حاله فنسب النسيان إليهما للصحبة، كقوله تعالى: {يَخْرُجُ مِنْهُمَا الُّلؤْلُؤُ وَالمَرْجَانُ} [الرحمن: 22] وإنما يخرج من الملح، وقوله: {يا معشر الجِن والإنس ألم يأتِكم رسل مِنكم} وإنما الرسل من الإنس لا من الجن.
وفي البخاري؛ فقال لفتاه: لا أكلفك إلا أن تخبرني بحيث يفارقك الحوت، قال: ما كلَّفتَ كبيرًا؛ فذلك قوله عز وجل: {وإذ قال موسى لفتاه} يوشع بن نون ليست عن سعيد قال: فبينا هو في ظل صخرة في مكانٍ ثَرْيَانَ إذ تضرَّب الحوتُ وموسى نائم فقال فتاه: لا أوقظه؛ حتى إذا استيقظ نسي أن يخبره، وتَضَرَّبَ الحوتُ حتى دخل البحر، فأمسك الله عنه جِرْيَةَ البحرِ حتى كأنّ أثرَه في حَجَر؛ قال لي عمرو: هكذا كأنّ أثره في حَجَر وحَلَّقَ بين إبهاميه واللتين تَلِيانِهِما.
وفي رواية: وأمسك الله عن الحوت جِرْية الماء فصار عليه مثل الطاق، فلما استيقظ نسي صاحبُه أن يخبره بالحوت فانطلقا بقية يومهما وليلتهما، حتى إذا كان من الغد قال موسى لفتاه: {آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِن سَفَرِنَا هذا نَصَبًا} ولم يجد موسى النَّصَبَ حتى جاوز المكان الذي أمر الله به، فقال له فتاه: {أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَآ إِلَى الصخرة فَإِنِّي نَسِيتُ الحوت وَمَآ أَنْسَانِيهُ إِلاَّ الشيطان أَنْ أَذْكُرَهُ}.
وقيل: إن النسيان كان منهما لقوله تعالى: {نسِيا} فنسب النسيان إليهما؛ وذلك أن بدو حمل الحوت كان من موسى لأنه الذي أمر به، فلما مضيا كان فتاه هو الحامل له حتى أويا إلى الصخرة نزلا؛ {فَلَمَّا جَاوَزَا} يعني الحوت هناك منسيًا أي متروكًا فلما سأل موسى الغداء نسب الفتى النسيان إلى نفسه عند المخاطبة، وإنما ذكر الله نسيانهما عند بلوغ مجمع البحرين وهو الصخرة، فقد كان موسى شريكًا في النسيان؛ لأن النسيان التأخير؛ من ذلك قولهم في الدعاء: أنسأ الله في أجلِك.
فلما مضيا من الصخرة أخّرا حوتهما عن حمله فلم يحمله واحد منهما، فجاز أن ينسب إليهما لأنهما مضيا وتركا الحوت.
قوله تعالى: {آتِنَا غَدَاءَنَا} فيه مسألة واحدة، وهو اتخاذ الزاد في الأسفار، وهو ردٌّ على الصوفية الجهلة الأغمار، الذين يقتحمون المهامه والقِفار، زعمًا منهم أن ذلك هو التوكل على الله الواحد القهار؛ هذا موسى نبي الله وكليمه من أهل الأرض قد اتخذ الزاد مع معرفته بربه، وتوكله على رب العباد.