فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



ولقد غفل الفتى عن أمر هذا الحوت، فانسرب منه إلى البحر.. إذ كانا يمشيان على الشاطئ ويتخذانه دليلا لهما إلى الصخرة التي عند مجمع البحرين.. فهما يسيران على شاطىء أحد البحرين إلى أن يلتقى بشاطئ البحر الآخر.. حيث يكون مجمعهما، وحيث توجد الصخرة!.
{فَلَمَّا جاوَزا قالَ لِفَتاهُ آتِنا غَداءَنا لَقَدْ لَقِينا مِنْ سَفَرِنا هذا نَصَبًا قالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَما أَنْسانِيهُ إِلَّا الشَّيْطانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا} أي فلما جاوزا مكانهما الذي كانا فيه عند مجمع البحرين، وسارا حتى أجهدهما السير، وهما يطلبان هذا المجمع، قال موسى لفتاه: {آتِنا غَداءَنا لَقَدْ لَقِينا مِنْ سَفَرِنا هذا نَصَبًا} أي تعبا شديدا، نحتاج معه إلى شيء من الراحة، وشىء من الطعام، حتى نقوى على مواصلة السير.. وقد أسرع الفتى ليعدّ الطعام، ويهيىء الحطب والنار، ليشوى عليها الحوت الذي معهما. وبحث الفتى عن الحوت فلم يجده.. وهنا تذكر أنه نسى الحوت عند ما أويا إلى الصخرة، واستراحا قليلا عندها.. فقال لموسى في أسف، وعجب من أمره: {أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَما أَنْسانِيهُ إِلَّا الشَّيْطانُ أَنْ أَذْكُرَهُ} وأحمله معى فيما أحمل من زاد ومتاع.. ثم إنه لم يمهل موسى، وينتظر رأيه في هذا الأمر، بل اندفع إلى البحر، ليصطاد شيئا يجعلانه غذاء لهما.. {وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا} أي أنه اتجه إلى البحر في قوة وعزم حتى يكفّر عن فعلته تلك، التي عدّها إهمالا منه، ولا يجبره إلا أن يسدّ هذا النقص، ويأتى بحوت كهذا الحوت الذي ضاع، أو بشىء يغنى غناءه..! ولهذا كان منه هذا الأسلوب العجب في الاندفاع نحو البحر.! وقوله تعالى: {قالَ ذلِكَ ما كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلى آثارِهِما قَصَصًا}. القصص: تتبع الأثر..
وهنا يتذكر موسى أمارة من تلك الأمارات التي يتعرف بها إلى المكان الذي يلتقى عنده بالعبد الصالح.. فالعبد الصالح هناك عند صخرة، عند ملتقى البحرين.. ولكن عند ملتقى البحرين صخور لا حصر لها، تمتد إلى مسافات بعيدة، قد تبلغ مسيرة أيام.. فأى الصخور هى؟ إنها صخرة يفقد موسى عندها شيئا من متاعه، على غير قصد منه، وإلّا ما عدّ هذا فقدا.. هكذا كانت الأمارة الدالة على التقائه بالعبد الصالح.. وقد تكون هذه الأمارة وحيا تلقاه من ربّه، أو رؤيا رآها في منامه.. وأما وقد فقد الحوت عند تلك الصخرة التي أويا إليها.. فتلك إذن هي الصخرة المقصودة.. ولهذا، لم يلتفت موسى إلى فتاه، ولا إلى ما كان من نسيان الحوت، بل اتجه إلى المكان الذي عنده الصخرة، قائلا: {ذلِكَ ما كُنَّا نَبْغِ} أي ذلك هو المقصد الذي كنا نقصده، والموضع الذي نبحث عنه..
{فَارْتَدَّا عَلى آثارِهِما قَصَصًا} أي فعادا إلى الوراء، يتبعان آثارهما التي تنتهى بهما إلى حيث أويا إلى الصخرة، التي نسى الحوت عندها.. ذلك- في تقديرنا- هو أقرب مفهوم إلى تلك الآيات، وما ضمّت عليه من أسماء، ومسمّيات.. أما ما ذهب إليه المفسّرون من مقولات، لا يحتملها النظم القرآنى على أية صورة من صور الاحتمال، فذلك ما رأينا أن نصرف النظر عنه، فهو أقرب إلى الأساطير والخرافات منه إلى أي شيء آخر!!. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لَا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا (60)} لما جرى ذكر قصة خلق آدم وأمر الله الملائكة بالسجود له، وما عرض للشيطان من الكبر والاعتزاز بعنصره جهلًا بأسباب الفضائل ومكابرةً في الاعتراف بها وحسدًا في الشرف والفضل، فَضرب بذلك مثلًا لأهل الضلال عبيد الهوى والكبر والحسد، أعقبَ تلك القصة بقصة هي مَثل في ضدها لأن تطلب ذي الفضل والكمال للازدياد منهما وسعيه للظفر بمن يبلغه الزيادة من الكمال، اعترافًا للفاضل بفضيلته.
وفي ذلك إبداء المقابلة بين الخُلُقين وإقامة الحجة على المماثلة والمخالفة بين الفريقين المؤمنين والكافرين، وفي خلال ذلك تعليم وتنويه بشأن العلم والهدى، وتربية للمتقين.
ولأن هذه السورة نزلت بسبب ما سأل المشركون والذين أمْلَوا عليهم من أهل الكتاب عن قصتين قصة أصحاب الكهف وقصة ذي القرنين.
وقد تقضى الجواب عن القصة الأولى وما ذيلت به، وآن أن ينتقل إلى الجواب عن القصة الثانية فتختم بذلك هذه السورة التي أنزلت لبيان القصتين.
قدمت لهذه القصة الثانية قصة لها شبه بها في أنها تَطواف في الأرض لطلب نفع صالح، وهي قصة سفر موسى عليه السلام لطلب لقاء من هو على علم لا يعلمه موسى.
وفي سوق هذه القصة تعريض بأهل الكتاب بأن الأولى لهم أن يدُلوا الناس على أخبار أنبياء إسرائيل وعلى سفر لأجل تحصيل العلم والحكمة لا سفر لأجل بسط الملك والسلطان.
فجملة {وإذ قال موسى} معطوفة على جملة {وإذ قلنا للملائكة} [الكهف: 50] عطف القصة على القصة.
والتقدير: واذكر إذ قال موسى لفتاه، أي اذكر ذلك الزمن وما جرى فيه.
وناسبها تقدير فعل اذكر لأن في هذه القصة موعظة وذكرى كما في قصة خلق آدم.
فانتصب {إذ} على المفعولية به.
والفتى: الذكَر الشاب، والأنثى فتاة، وهو مستعمل مجازًا في التابع والخادم.
وتقدم عند قوله تعالى: {تراود فتاها} في سورة [يوسف: 30].
وفتى موسى: خادمه وتابعه، فإضافة الفتى إلى ضمير موسى على معنى الاختصاص، كما يقال: غُلامه.
وفتى موسى هو يوشع بن نون من سبط أفرايم.
وقد قيل: إنه ابن أخت موسى، كان اسمه الأصلي هُوشع فدعاه موسى حين بعثه للتجسس في أرض كنعان يوشع.
ولعل ذلك التغير في الاسم تلطف به، كما قال رسول الله لأبي هريرة: «يا أبا هِرّ».
وفي التوراة: أن إبراهيم كان اسمه أبرام فلما أمره الله بخصال الفطرة دعاه إبراهَام.
ولعل هذه التغييرات في العبرانية تفيد معاني غير معاني الأسماء الأولى فتكون كما دعا النبي زيْد الخَيل زيدَ الخير.
ويوشع أحد الرجال الإثني عشر الذين بعثهم موسى عليه السلام ليتجسسوا في أرض كنعان في جهات حلب وحبرون ويختبروا بأس أهلها وخيرات أرضها ومكثوا أربعين يومًا في التجسس.
وهو أحد الرجلين اللذين شجعا بني إسرائيل على دخول أرض كنعان اللذين ذكرهما القرآن في آية {قال رجلان من الذين يخافون أنعم الله عليهما ادخلوا عليهم الباب فإذا دخلتموه فإنكم غالبون} [المائدة: 23].
كان ميلاد يوشع في حدود سنة 1463 قبل المسيح ووفاته في حدود سنة 1353 وعمَّر مائة وعشر سنين، وكان موسى عليه السلام قد قربه إلى نفسه واتخذه تلميذًا وخادمًا، ومثل ذلك الاتخاذ يوصف صاحبه بمثِل فتى أو غلام.
ومنه وصفهم الإمام محمد بن عبد الواحد المطرز النحْوي اللغوي غلامَ ثعلب، لشدة اتصاله بالإمام أحمد بن يحيى الشيباني الملقب بثعلب. وكان يوشع أحد الرجلين اللذين عهد إليهما موسى عليه السلام بأن يقسما الأرض بين أسباط بني إسرائيل بعد موسى عليه السلام. وأمر الله موسى بأن يعهد إلى يوشع بتدبير أمر الأمة الإسرائيلية بعد وفاة موسى عليه السلام فعهد إليه موسى بذلك فصار نبيئًا من يومئذٍ.
ودبر أمر الأمة بعد موسى سبعًا وعشرين سنة. وكتاب يوشع هو أول كتب الأنبياء بعد موسى عليه السلام.
وابتدئت القصة بحكاية كلام موسى عليه السلام المقتضي تصميمًا على أن لا يزول عما هو فيه، أي لا يشتغل بشيء آخر حتى يبلغ مجمع البحرين، ابتداء عجيبًا في باب الإيجاز، فإن قوله ذلك يدل على أنه كان في عَمل نهايته البلوغ إلى مكان، فعلم أن ذلك العلم هو سَيْرُ سَفر.
ويدل على أن فتاهُ استعظم هذه الرحلة وخشي أن تنالهما فيها مشقة تعوقهما عن إتمامها، أو هو بحيث يستعظمها للعلم بأنها رحلة بعيدة، وذلك شأن أسباب الأمور المهمة، ويدل على أن المكان الذي يسير إليه مكان يجد عنده مطلبه.
و{أبرح} مضارع بَرِح بكسر الراء، بمعنى زال يزول.
وتقدم في سورة يوسف عليه السلام.
واستعير {لا أبرح} لِمعنى: لا أترك، أو لا أكف عن السير حتى أبلغ مجمع البحرين.
ويجوز أن يكون مضارع بَرح الذي هو فعل ناقص لا يستعمل ناقصًا إلا مع النفي ويكون الخبر محذوفًا بقرينة الكلام، أي لا أبرح سائرًا.
وعن الرضيّ أن حذف خبرها قليل.
وحُذف ذكر الغرض الذي سار لأجله موسى عليه السلام لأنه سيُذكر بعدُ، وهو حذف إيجاز وتشويق، له موقع عظيم في حكاية القصة، لإخراجها عن مطروق القصص إلى أسلوب بديع الحِكم والأمثال قضاء لِحق بلاغة الإعجاز.
وتفصيل هذه القصة وارد في صحيح البخاري من حديث عمرو بن دينار ويعلى بن مسلم عن سعيد بن جبير عن ابن عباس عن أُبَيّ بن كعب عن النبي صلى الله عليه وسلم: «أن موسى عليه السلام قام خطيبًا في بني إسرائيل فسُئل: أي الناس أعلم؟ فقال: أنا. فعتَب الله عليه إذ لمْ يَردّ العلمَ إليه. فأوحى الله إليه: بلى عبدُنا خَضِرٌ هو أعلم منك. قال: فأين هو؟ قال: بمجمع البحرين. قال موسى عليه السلام: يا رب اجعل لي علَمًا أعلم ذلك به. قال: تَأخذ معك حُوتًا في مِكَتل فحيث ما فقدت الحوت فهو ثَمّ، فأخذ حوتًا فجعله في مِكتل وقال لفتاه يوشع بن نون: لا أكلفك إلا أن تخبرني بحيث يفارقك الحوت، قال أي فتاه: ما كلّفتَ كثيرًا. ثم انطلق وانطلق بفتاه حتى إذا أتيا الصخرة وضعَا رؤوسهما فنامَا واضطرب الحوت في المِكتل فخرج منه فسقط في البحر فاتخذ سبيله في البحر سَربَا وموسى نائم، فقال فتاه وكان لم ينم: لا أوقظه وأمسك اللّهُ عن الحوت جَرية الماء فصار الماء عليه مثلَ الطاق، فلما استيقظ موسى نسي صاحبُه أن يخبره بالحوت، فانطلقا بقية يومهما وليلتهما حتى إذا كان من الغد قال موسى عليه السلام لفتاه: آتنا غداءنَا لقد لَقينا من سفرنا هذا نصبًَا. قال: ولم يجد موسى النصَب حتى جاوزَ المكان الذي أمره الله به- أي لأن الله ميسر أسباب الامتثال لأوليائه- فقال له فتاه: أرأيتَ إذ أَوَيْنا إلى الصخرة فإني نسيِتُ الحوت وما أنسانيه إلا الشيطان أن أذكره وأتخذ سبيله في البحر عجبًا قال: فكان للحوت سربًا ولموسى ولفتاه عجبًا. فقال موسى: ذلك ما كنا نبغي، فارتدا على آثارهما قصصًا، قال: رجعا يَقُصّان آثارهما حتى انتهيا إلى الصخرة، فإذا رجل مسجى ثوبًا فسَلّم عليه موسى. فقال الخَضر: وأنى بأرضك السلام...». الحديث.
قوله: «وأنى بأرضك السلام» استفهام تعجب، والكاف خطاب للذي سلم عليه فكانَ الخضر يظن ذلك المكان لا يوجد به قوم تحيتهم السلام، إما لكون ذلك المكان كان خلاء وإما لكونه مأهولًا بأمة ليست تحيتهم السلام.
وإنما أمسك الله عن الحوت جَرية الماء ليكون آية مشهودة لموسى عليه السلام وفتاه زيادة في أسباب قوة يقينهما، ولأن المكان لما كان ظرفًا لظهور معجزات عِلم النبوءة ناسب أن يحف به ما هو خارق للعادة إكرامًا لنزلاء ذلك المكان.
ومجمع البحرين لا ينبغي أن يختلف في أنه مكان من أرض فلسطين.
والأظهر أنه مصب نهر الأردن في بحيرة طبرية فإنه النهر العظيم الذي يمر بجانب الأرض التي نزل بها موسى عليه السلام وقومه.
وكانت تسمى عند الإسرائيليين بحر الجليل، فإن موسى عليه السلام بلغ إليه بعد مسير يوم وليلة راجلًا فعلمنا أنه لم يكن مكانًا بعيدًا جدًا.
وأراد موسى أن يبلغ ذلك المكان لأن الله أوحى إليه أن يجد فيه العبد الذي هو أعلم منه فجعله ميقاتًا له.
ومعنى كون هذا العبد أعلم من موسى عليه السلام أنه يعلم علومًا من معاملة الناس لم يعلّمها الله لموسى.
فالتفاوت في العلم في هذا المقام تفاوت بفنون العلوم، وهو تفاوت نسبي.
والخضر: اسم رجل صالح.
قيل: هو نبيء من أحفاد عابر بن شالخ بن أرفخشد بن سام.
فهو الخضر بن ملكان بن فالغ بن عابر، فيكون ابن عم الجد الثاني لإبراهيم عليه السلام.
وقيل: الخضر لقبه.
وأما اسمه فهو بليا بموحِدة أو إيليا بهمزة وتحتية.
واتفق الناس على أنه كان من المعمرين، ثم اختلفوا في أنه لم يزل حيًا اختلافًا لم يبن على أدلة مقبولة متعارفة ولكنه مستند إلى أقوال بعض الصوفية، وهي لا ينبغي اعتمادها لكثرة ما يقع في كلامهم من الرموز والخلط بين الحياتين الروحية والمادية، والمشاهدات الحسية والكشفية، وقد جعلوه رمز العلوم الباطنية كما سيأتي.
وزعم بعض العلماء أن الخضر هو جرجس: وقيل: هو من ذرية عيسو بن إسحاق.
وقيل: هو نبيء بعث بعد شعيب.
وجرجس المعني هو المعروف باسم مَار جرجس.
والعرب يسمونه: مارَ سَرجس كما في كتاب سيبويه.
وهو من أهل فلسطين ولد في الرملة في النصف الآخر من القرن الثالث بعد مولد عيسى عليه السلام وتوفي سنة 303 وهو من الشهداء.