فصل: قال الشنقيطي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وهذا ينافي كونه في زمن موسى عليه السلام.
والخضر لقب له، أي الموصوف بالخضرة، وهي رمز البركة، قيل: لقب خضرًا لأنه كان إذا جلس على الأرض اخضرَّ ما حوله، أي اخضرَّ بالنبات من أثر بركته.
وفي دائرة المعارف الإسلامية ذكرت تخرصات تُلصق قصة الخضر بقصص بعضها فارسية وبعضها رومانية وما رَائدهُ في ذلك إلا مجرد التشابه في بعض أحوال القصص، وذلك التشابه لا تخلو عنه الأساطير والقصص فلا ينبغي إطلاق الأوهام وراء أمثالها.
والمحقق أنّ قصة الخضر وموسى يهودية الأصل ولكنّها غير مسطورة في كتب اليهود المعبر عنها بالتوراة أو العهد القديم.
ولعل عدم ذكرها في تلك الكتب هو الذي أقدم نَوفًا البِكالي على أن قال: إن موسى المذكور في هذه الآيات هو غير موسى بني إسرائيل كما ذكر ذلك في صحيح البخاري وأن ابن عباس كذب نَوفًا، وسَاق الحديث المتقدم.
وقد كان سبب ذكرها في القرآن سؤال نفر من اليهود أو من لقنهم اليهودُ إلقاء السؤال فيها على الرسول صلى الله عليه وسلم وقد أشار إلى ذلك قوله تعالى: {وما أوتيتم من العلم إلا قليلا} [الإسراء: 85].
واختلف اليهود في أن صاحب الخضر هو موسى بن عمران الرسول وأن فتاه هو يوشع بن نون، فقيل: نعم، وقد تأيد ذلك بما رواه أبي بن كعب عن النبي وقيل: هو رجل آخر اسمه موسى بن ميشا أو مِنسه ابن يوسف بن يعقوب.
وقد زعم بعض علماء الإسلام أن الخضر لقي النبي وعُدّ من صحابته.
وذلك توهم وتتبع لخيال القصاصين.
وسمي الخضر بليا بن ملكان أو إيليا أو إلياس، فقيل: إن الخضر هو إلياس المذكور في سورة يس.
ولا يصح أن يكون الخضر من بني إسرائيل إذ لا يجوز أن يكون مكلفًا بشريعة موسى ويقره موسى على أفعال لا تبيحها شريعته.
بل يتعين أن يكون نبيئًا موحى إليه بوحي خاص، وعَلِم موسى أنه من أمة غير مبعوث موسى إليها.
ولما علم موسى ذلك مما أوحى الله إليه من قوله: بلَى عبدنا خضر هو أعلم منك.
كما في حديث أبَي بن كعب، لم يَصرفه عنه ما رأى من أعماله التي تخالف شريعة التوراة لأنه كان على شريعة أخرى أمةً وحده.
وأما وجوده في أرض بني إسرائيل فهو من السياحة في العبادة، أو أمره الله بأن يحضر في المكان الذي قدره للقاء موسى رفقًا بموسى عليه السلام.
ومعنى {أو أمضي} أو أسير والمضي: الذهاب والسير. والحُقُب بضمتين اسم للزمان الطويل غير منحصر المقدار، وجمعه أحقاب. وعطف {أمضي} على {أبلغ} ب {أو} فصار المعطوف إحدى غايتين للإقلاع عن السير، أي إما أن أبلغ المكان أو أمضي زمنًا طويلًا.
ولما كان موسى لا يخامره الشك في وجود مكان هو مجمع للبحرين وإلفاء طلبته عنده، لأنه علم ذلك بوحي من الله تعالى، تعين أن يكون المقصود بحرف الترديد تأكيد مضيه زمنًا يتحقق فيه الوصول إلى مجمع البحرين.
فالمعنى: لا أبرح حتى أبلغ مجمع البحرين بسير قريب أو أسير أزمانًا طويلة فإني بالغ مجمع البحرين لا محالة، وكأنه أراد بهذا تأييس فتاه من محاولة رجوعهما، كما دل عليه قوله بعد {لقد لَقِينا من سفرنا هذا نصبًا} [الكهف: 62].
أو أراد شحْذ عزيمة فتاه ليساويه في صحة العزم حتى يكونا على عزم متحد.
{فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَبًا (61)}.
الفاء للتفريع والفصيحة لأنها تفصح عن كلام مقدر، أي فسارا حتى بلغا مجمع البحرين.
وضمير {بينهما} عائد إلى البحرين، أي محلا يجمع بين البحرين.
وأضيف {مجمع} إلى بين على سبيل التوسع، فإن بين اسم لمكان متوسط شيئين، وشأنه في اللغة أن يكون ظرفًا للفعل، ولكنه قد يستعمل لمجرد مكان متوسط إما بالإضافةِ كما هنا، ومنه قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم} [المائدة: 106]، وهو بمنزلة إضافة المصدر أو اسم الفاعل إلى معمولة؛ أو بدون إضافة توسعًا كقوله تعالى: {لقد تقطع بينكم} [الأنعام: 94] في قراءة من قرأ برفع {بينكم}.
والحوت هو الذي أمر الله موسى باستصحابه معه ليكون له علامة على المكان الذي فيه الخضر كما تقدم في سياق الحديث.
والنسيان تقدم في قوله تعالى: {أو ننسها} في سورة البقرة (106).
ومعنى نسيانهما أنهما نسيا أن يراقبا حاله أباققٍ هو في مِكتله حينئذٍ حتى إذا فقداه في مقامهما ذلك تحققا أن ذلك الموضع الذي فقداه فيه هو الموضع المؤقت لهما بتلك العلامة فلا يزيدا تعبًا في المشي، فإسناد النسيان إليهما حقيقة، لأن يوشع وإن كان هو الموكل بحفظ الحوت فكان عليه مراقبته إلا أن موسى هو القاصد لهذا العمل فكان يهمه تعهده ومراقبته.
وهذا يدل على أن صاحب العمل أو الحاجة إذا وَكَله إلى غيره لا ينبغي له ترك تعهده.
ثم إن موسى عليه السلام نام وبقي فتاه يقظان فاضطرب الحوت وجعل لنفسه طريقًا في البحر.
والسرَب: النفق.
والاتخاذ: الجعل.
وقد انتصب {سربًا} على الحال من {سبيله} مرادًا بالحال التشبيه، كقول امرىء القيس:
إذا قامتا تضوّع المسك منهما ** نسيمَ الصبا جاءت بِريّا القرَنفل

وقد مر تفسير كيف اتخذ البحر سربًا في الحديث السابق عن أبَيّ بن كعب.
وحذف مفعول {جاوزا} للعلم، أي جاوزا مجمع البحرين.
والغداء: طعام النهار مشتق من كلمة الغدوة لأنه يُؤكل في وقت الغَدوة، وضده العشاء، وهو طعام العشي. والنصب: التعب. والصخرة: صخرة معهودة لهما، إذ كانا قد أويا إليها في سيرهما فجلسا عليها، وكانت في مجمع البحرين.
قيل: إن موضعها دون نهر يقال له: نهر الزيت، لكثرة ما عنده من شجر الزيتون. وقوله: {نسيت الحوت} أي نسيت حفظه وافتقاده، أي فانفلت في البحر. وقوله: {وما أنسانيه إلا الشيطان أن أذكره}. هذا نسيان آخر غير النسيان الأول، فهذا نسيان ذكر الإخبار عنه. وقرأ حفص عن عاصم {وما أنسانيه} بضم هاء الضمير على أصل الضمير وهي لغة. والكسر أشهر لأن حركة الكسرة بعد الياء أخف. و{أن أذكره} بدل اشتمال من ضمير {أنسانيه} لا من الحوت، والمعنى: ما أنساني أن أذكره لك إلا الشيطان، فالذكر هنا ذكر اللسان.
ووجه حصره إسناد هذا الإنساء إلى الشيطان أن ما حصل له من نسيان أن يخبر موسى بتلك الحادثة نسيان ليس من شأنه أن يقع في زمن قريب مع شدة الاهتمام بالأمر المنسي وشدة عنايته بإخبار نبيئه به.
ومع كون المنسي أعجوبة شأنها أن لا تنسى يتعين أن الشيطان ألهاه بأشياء عن أن يتذكر ذلك الحادث العجيب وعلم يوشع أن الشيطان يَسوءه التقاء هذين العبدين الصالحين، وما له من الأثر في بث العلوم الصالحة فهو يصرف عنها ولو بتأخير وقوعها طمعًا في حدوث العوائق.
وجملة {واتخذ سبيله في البحر} عطف على جملة {فإني نسيت الحوت} وهي بقية كلام فتى موسى، أي وأنه اتخذ سبيله في البحر، أي سبح في البحر بعد أن كان ميتًا زمنًا طويلًا.
وقوله: {عجبًا} جملة مستأنفة، وهي من حكاية قول الفتى، أي أعجبُ له عجبًا، فانتصب على المفعول المطلق الآتي بدلًا من فعله.
{قَالَ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا (64)}.
{قال ذلك} إلخ. جواب عن كلامه، ولذلك فصلت كما بيناه غير مرة.
والإشارة ب {ذلك} إلى ما تضمنه خبر الفتى من فقْد الحوت. ومعنى كونه المبتغى أنه وسيلة المبتغى. وإنما المبتغى هو لقاء العبد الصالح في المكان الذي يفقد فيه الحوت.
وكتب {نبغ} في المصحف بدون ياء في آخره، فقيل: أراد الكاتبون مراعاة حالة الوقف، لأن الأحسن في الوقف على ياء المنقوص أن يوقف بحذفها. وقيل: أرادوا التنبيه على أنها رويت محذوفة في هذه الآية. والعرب يميلون إلى التخفيف. فقرأ نافع، وأبو عمرو، والكسائي، وأبو جعفر بحذف الياء في الوقف وإثباتها في الوصل، وقرأ عاصم، وحمزة، وابن عامر بحذف الياء في الوصل والوقف.
وقرأ ابن كثير، ويعقوب بإثباتها في الحالين، والنون نون المتكلم المشارك، أي ما أبغيه أنا وأنت، وكلاهما يبغي ملاقاة العبد الصالح. والارتداد: مطاوع الرد كأن رادًا رَدّهما.
وإنما ردتهما إرادتهما، أي رجعا على آثار سيرهما، أي رجعا على طريقهما الذي أتيا منه.
والقصص: مصدر قص الأثر، إذا توخى متابعته كيلا يخطئا الطريق الأول. اهـ.

.قال الشنقيطي:

قوله تعالى: {فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا} الآية.
ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أن موسى وفتاه نصبا حوتهما لما بلغ مجمع البحرين، ولكنه تعالى أوضح أن النسيان واقع من فتى موسى، لأنه هو الذي كان تحت يده الحوت، وهو الذي نسيه. وإنما أسند النسيان إليهما، لأن إطلاق المجموع مرادًا بعضه- أسلوب عربي كثير في القرآن وفي كلام العرب. وقد أوضحنا أن من أظهر أدلته قراءة حمزة والكسائي: {فَإِن قَاتَلُوكُمْ فاقتلوهم} [البقرة: 191] من القتل في الفعلين لا من القتال، أي فإن قتلوا بعضكم فليقتلهم بعضكم الآخر. والدليل على أن النسيان إنما وقع من فتى موسى دون موسى قوله تعالى عنهما: {فَلَمَّا جَاوَزَا قَالَ لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِن سَفَرِنَا هذا نَصَبًا قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَآ إِلَى الصخرة فَإِنِّي نَسِيتُ الحوت وَمَآ أَنْسَانِيهُ إِلاَّ الشيطان أَنْ أَذْكُرَهُ} [الكهف: 62-63] الآية، لأن قول موسى: {آتنا غداءنا} يعني به الحوت- فهو يظن أ، فتاه لم ينسه، كما قاله غير واحد. وقد صرح فتاه: بأنه نسيه بقوله: {فَإِنِّي نَسِيتُ الحوت وَمَآ أَنْسَانِيهُ إِلاَّ الشيطان أَنْ أَذْكُرَهُ} الآية.
وقوله في هذه الآية الكريمه: {وَمَآ أَنْسَانِيهُ إِلاَّ الشيطان} دليل على أن النسيان من الشيطان كما دلت عليه آيات أخر. كقوله تعالى: {وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشيطان فَلاَ تَقْعُدْ بَعْدَ الذكرى مَعَ القوم الظالمين} [الأنعام: 68] وقوله تعالى: {استحوذ عَلَيْهِمُ الشيطان فَأَنسَاهُمْ ذِكْرَ الله} [المجادلة: 19] الآية.
وفنى موسى هو يوشع بن نون. والضمير في قوله تعالى: {مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا} عائد إلى {البحرين} المذكورين في قوله تعالى: {لا أَبْرَحُ حتى أَبْلُغَ مَجْمَعَ البحرين} [الكهف: 60] الآية. والكجمع: اسم مكان على القياس، أي مكان اجتماعهما.
والعلماء مختلفون في تعيين {البحرين} المذكورين. فذهب أكثرهم إلى أنهما بحر فارس مما يليل المشرق، بحر الروم مما يلي المغرب. وقال ممد بن كعب القرظي: {مجمع البحرين} عند طنجة في أقصى بلاد المغرب وروى ابن أبي حاتم من طريق السدى قال: هما الكر والرأس حيث يصبان في البحر. وقال أن عطية: {مجمع البحرين} ذراع في أرض فارس من جهة أذربيجان، يخرج من البحر المحيط من شماله إلى جنوبه، وطرفيه مما يلي بر الشام. وقيل: عما بحر الأردن والقلزم.
وعن ابن المبارك قال: قال بعضهم بحر أرمينية.
وعن أبي بن كعب قالك بإفريقية. إلى غير ذلك من الأقوال. ومعلوم أن تعيين {البحرين} من النوع الذي دمنا أنه لا دليل عليه من كتاب ولا سنة، وليس في معرفته فائدة، فالبحث عنه تعب لا طائل تحته، وليس عليه دليل يجب الرجوع إليه. وزعم بعض الملاحدة الكفرة المعاصرين: أن موسى لم يسافر إلى مجمع البحرين، بدعوى أنه لم يعرف ذلك في تاريخه- زعم في غاية الكذب والبطلان.
ويكفي في القطع بذلك أنه مناقض لقوله تعالى: {فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا} الآية. مع التصريح بأنه سفر فيه مشقة وتعب، وذلك لا يكون غلا في بعيد السفر، ولذا قال تعالى عن موسى: {لَقَدْ لَقِينَا مِن سَفَرِنَا هذا نَصَبًا} [الكهف: 62]. ومعلوم أن ما ناقض القرآن فهو باطل، لأن نقيض الحق باطل بإجماع العقلاء لاستحالة صدق النقيضين معًا.
وقوله في هذه الآية الكريمة: {وَمَآ أَنْسَانِيهُ إِلاَّ الشيطان} [الكهف: 63] قرأه عامة القراء ما عدًا حفصًا {أنسانيه} بكسر الهاء. وقرأة حفص عن عاصم {أنسانيه} بضم الهاء. اهـ.

.قال الشعراوي:

قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ موسى لِفَتَاهُ} [الكهف: 60] أي: اذكر يا محمد وقت أنْ قال موسى لفتاه، وفتى موسى هو خادمه يوشع ابن نون، وكان من نَسْل يوسف عليه السلام وكان يتبعه ويخدمه ليتعلم منه.
{لا أَبْرَحُ حتى أَبْلُغَ مَجْمَعَ البحرين} [الكهف: 60].
لكن، ما حكاية موسى مع فتاه؟ وما مناسبتها للكلام هنا؟
مناسبة قصة موسى هنا أن كفار مكة بعثوا ليهود المدينة يسألونهم عن خبر النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنهم أهل كتاب وأعلم بالسماء، فأرادوا رأيهم في محمد: أهو مُحِقٌّ أم لا؟ فقال اليهود لوفد مكة: اسألوه عن ثلاثة أشياء، فإن أجابكم فهو نبي: اسألوه عن الفتية الذين ذهبوا في الدهر، والرجل الطواف الذي طاف البلاد، وعن الروح، فما كان منهم إلا أن سألوا رسول الله هذه الأسئلة، فقال لهم: «في الغد أجيبكم».
إذن: إجابة هذه الأسئلة ليست عنده، وهذه تُحسَب له لا عليه، فلو كان محمد صلى الله عليه وسلم يضرب الكلام هكذا دون علم لأجابهم، لكنه سكت إلى أن يأتي الجواب من الله تعالى، وهذا من أدبه صلى الله عليه وسلم مع ربه الذي أدبه فأحسن تأديبه.