فصل: قال ابن الجوزي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال ابن الجوزي:

قوله تعالى: {فوجدا عبدًا من عبادنا} يعني الخضر.
وفي اسمه أربعة أقوال.
أحدها: اليسع، قاله وهب، ومقاتل.
والثاني: الخَضِر بن عاميا.
والثالث: أرميا بن حلفيا، ذكرهما ابن المنادي.
والرابع: بليا بن ملكان، ذكره علي بن أحمد النيسابوري.
فأما تسميته بالخضر، ففيه قولان.
أحدهما: أنه جلس في فروة بيضاء فاخضرَّت، رواه أبو هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
والفروة: الأرض اليابسة.
والثاني: أنه كان إِذا جلس اخضرَّ ما حوله، قاله عكرمة.
وقال مجاهد: كان إِذا صلى اخضرَّ ما حوله.
وهل كان الخضر نبيًا، أم لا؟ فيه قولان، ذكرهما أبو بكر بن الأنباري، وقال: كثير من الناس يذهب إِلى أنه كان نبيًّا، وبعضهم يقول: كان عبدًا صالحًا.
واختلف العلماء هل هو باقٍ إِلى يومنا هذا، على قولين حكاهما الماوردي، وكان الحسن يذهب إِلى أنه مات، وكذلك كان ابن المنادي من أصحابنا يقول، ويقبِّح قول من يرى بقاءه، ويقول: لا يثبت حديث في بقائه.
وروى أبو بكر النقاش أن محمد بن إِسماعيل البخاري سئل عن الخضر وإِلياس: هل هما في الأحياء؟ فقال: كيف يكون ذلك وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا يبقى على رأس مائة سنة ممن هو اليوم على ظهر الأرض أحد؟!».
قوله تعالى: {آتيناه رحمة من عندنا} في هذه الرحمة ثلاثة أقوال.
أحدها: أنها النبوَّة، قاله مقاتل.
والثاني: الرِّقة والحُنُوُّ على من يستحقه، ذكره ابن الأنباري.
والثالث: النِّعمة، قاله أبو سليمان الدمشقي.
قوله تعالى: {وعلَّمناه من لدنا} أي: من عندنا {علمًا} قال ابن عباس: أعطاه عِلْمًا من عِلْم الغيب.
قوله تعالى: {أن تعلِّمني} قرأ ابن كثير: {تعلمني مما} بإثبات الياء في الوصل والوقف.
وقرأ نافع، وأبو عمرو بياء في الوصل.
وقرأ ابن عامر، وعاصم بحذف الياء في الحالين.
قوله تعالى: {مما عُلِّمْتَ رشدًا} قرأ ابن كثير، ونافع، وعاصم، وحمزة، والكسائي: {رُشدًا} بضم الراء، وَإسكان الشين خفيفة.
وقرأ أبو عمرو: {رَشَدًا} بفتح الراء والشين.
وعن ابن عامر بضمهما.
والرُّشْد، والرَّشَد: لغتان، كالنُّخْل والنَّخَل، والعُجْم والعَجَم، والعُرْب والعَرَب، والمعنى: أن تعلمني عِلْمًا ذا رشد.
وهذه القصة قد حرَّضت على الرحلة في طلب العلم، واتِّباع المفضول للفاضل طلبًا للفضل، وحثَّت على الأدب والتواضع للمصحوب.
قوله تعالى: {إِنك لن تستطيع معي صبرًا} قال ابن عباس: لن تصبر على صنعي، لأني علمت من غيب علم ربي.
وفي هذا الصبر وجهان.
أحدهما: على الإِنكار.
والثاني: عن السؤال.
قوله تعالى: {وكيف تصبر على ما لم تحط به خُبْرًا} الخُبْر: عِلْمك بالشيء؛ والمعنى: كيف تصبر على أمر ظاهره مُنْكر، وأنت لا تعلم باطنه؟!
قوله تعالى: {ستجدني إِن شاء الله صابرًا ولا أعصي لك أمرًا} قال ابن الأنباري: نفي العصيان منسوق على الصبر.
والمعنى: ستجدني صابرًا ولا أعصي إِن شاء الله.
قوله تعالى: {فلا تسألني} قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وعاصم، وحمزة، والكسائي: {فلا تسألْني} ساكنة اللام.
وقرأ نافع: {فلا تسأَلَنِّي} مفتوحة اللام مشددة النون.
وقرأ ابن عامر في رواية الداجوني: {فلا تسألَنِّ عن شيء} بتحريك اللام من غير ياء، والنون مكسورة.
والمعنى: لا تسألني عن شيء مما أفعله {حتى أحدث لك منه ذِكْرًا} أي: حتى أكون أنا الذي أُبيِّنه لك، لأن عِلْمه قد غاب عنك. اهـ.

.قال القرطبي:

قوله تعالى: {فَوَجَدَا عَبْدًا مِّنْ عِبَادِنَآ}.
العبد هو الخضر عليه السلام في قول الجمهور، وبمقتضى الأحاديث الثابتة.
وخالف من لا يعتد بقوله، فقال: ليس صاحب موسى بالخضر بل هو عالم آخر.
وحكى أيضًا هذا القول القشيريّ، قال: وقال قوم هو عبد صالح، والصحيح أنه كان الخضر؛ بذلك ورد الخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وقال مجاهد: سمي الخضر لأنه كان إذا صلى اخضر ما حوله.
وروى الترمذيّ عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنما سُمّي الخضر لأنه جلس على فروة بيضاء فإذا هي تهتز تحته خضراء» هذا حديث صحيح غريب.
الفروة هنا وجه الأرض؛ قاله الخطّابي وغيره والخضر نبيّ عند الجمهور.
وقيل: هو عبد صالح غير نبيّ، والآية تشهد بنبوّته؛ لأن بواطن أفعاله لا تكون إلا بوحي.
وأيضًا فإن الإنسان لا يتعلم ولا يَتَّبع إلا من فوقه، وليس يجوز أن يكون فوق النبيّ من ليس بنبيّ.
وقيل: كان مَلَكًا أمر الله موسى أن يأخذ عنه مما حمله من علم الباطن.
والأوّل الصحيح؛ والله أعلم.
قوله تعالى: {آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا} الرحمة في هذه الآية النبوة.
وقيل: النعمة.
{وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْمًا} أي علم الغيب.
ابن عطية: كان علم الخضر علم معرفة بواطن قد أوحيت إليه، لا تُعطى ظواهرُ الأحكام أفعاله بحسبها؛ وكان علم موسى علم الأحكام والفتيا بظاهر أقوال الناس وأفعالهم.
قوله تعالى: {قَالَ لَهُ موسى هَلْ أَتَّبِعُكَ على أَن تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا} فيه مسألتان:
الأولى: قوله تعالى: {قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ} هذا سؤال الملاطِف، والمخاطب المستنزل المبالغ في حسن الأدب، المعنى: هل يتفق لك ويخفّ عليك؟ وهذا كما في الحديث: هل تستطيع أن تريني كيف كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ؟ وعلى بعض التأويلات يجيء كذلك قوله تعالى: {هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَن يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَآئِدَةً مِّنَ السماء} [المائدة: 112] حسب ما تقدم بيانه في المائدة.
الثانية: في هذه الآية دليل على أن المتعلم تبع للعالم وإن تفاوتت المراتب، ولا يظن أن في تعلم موسى من الخضر ما يدل على أن الخضر كان أفضل منه، فقد يشذ عن الفاضل ما يعلمه المفضول، والفضل لمن فضّله الله؛ فالخضر إن كان وليًا فموسى أفضل منه، لأنه نبيّ والنبي أفضل من الوليّ، وإن كان نبيًا فموسى فضله بالرسالة.
والله أعلم.
{ورشدًا} مفعول ثان بـ: {تعلمني}.
{قَالَ} الخضر: {إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا} أي إنك يا موسى لا تطيق أن تصبر على ما تراه من علمي؛ لأن الظواهر التي هي علمك لا تُعطيه، وكيف تصبر على ما تراه خطأ ولم تُخبَر بوجه الحكمة فيه، ولا طريق الصواب؛ وهو معنى قوله: {وَكَيْفَ تَصْبِرُ على مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا} والأنبياء لا يُقِرّون على منكر، ولا يجوز لهم التقرير.
أي لا يسعك السكوت جريًا على عادتك وحُكمك.
وانتصب {خُبْرًا} على التمييز المنقول عن الفاعل.
وقيل: على المصدر الملاقى في المعنى، لأن قوله: {لَمْ تُحِطْ} معناه لم تَخْبُرْهُ، فكأنه قال: لم تَخبره خُبرًا؛ وإليه أشار مجاهد.
والخبير بالأمور هو العالم بخفاياها وبما يختبر منها.
قوله تعالى: {قَالَ ستجدني إِن شَاءَ الله صَابِرًا} أي سأصبر بمشيئة الله.
{وَلاَ أَعْصِي لَكَ أمْرًا} أي قد ألزمت نفسي طاعتك.
وقد اختلف في الاستثناء، هل هو يشمل قوله: {وَلاَ أَعْصِي لَكَ أمْرًا} أم لا؟ فقيل: يشمله كقوله: {والذاكرين الله كَثِيرًا والذاكرات} [الأحزاب: 35].
وقيل: استثنى في الصبر فصبَرَ، وما استثنى في قوله: {وَلاَ أَعْصِي لَكَ أمْرًا} فاعترض وسأل.
قال علماؤنا: إنما كان ذلك منه؛ لأن الصبر أمر مستقبل ولا يدري كيف يكون حاله فيه، ونفيُ المعصية معزوم عليه حاصل في الحال، فالاستثناء فيه ينافي العزم عليه.
ويمكن أن يفرق بينهما بأن الصبر ليس مكتسبًا لنا بخلاف فعل المعصية وتركها، فإن ذلك كله مكتسب لنا؛ والله أعلم.
قوله تعالى: {قَالَ فَإِنِ اتبعتني فَلاَ تَسْأَلْني عَن شَيءٍ حتى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا} أي حتى أكون أنا الذي أفسره لك، وهذا من الخضر تأديب وإرشاد لما يقتضي دوام الصحبة، فلو صَبَر ودَأَب لرأى العجب، لكنه أكثر من الاعتراض، فتعين الفراق والإعراض. اهـ.

.قال أبو السعود:

{فَوَجَدَا عَبْدًا مّنْ عِبَادِنَا}.
التنكيرُ للتفخيم والإضافةُ للتشريف والجمهور على أنه الخِضْرُ واسُمه بَلْيَا بنُ مَلْكَان، وقيل: اليسع، وقيل: إلياس عليهم الصلاة والسلام {رَحْمَةً مّنْ عِندِنَا وَعَلَّمْنَاهُ} هي الوحيُ والنبوةُ كما يُشعِرُ به تنكيرُ الرحمة واختصاصُها بجناب الكبرياء {وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْمًا} خاصًا لا يُكتنه كُنهُه ولا يقادر قدرُه وهو علمُ الغيوب.
{قَالَ لَهُ موسى} استئنافٌ مبنيٌّ على سؤال نشأ من السباق، كأنه قيل: فماذا جرى بينهما من الكلام؟ فقيل: قال له موسى: {هَلْ أَتَّبِعُكَ على أَن تُعَلّمَنِ} استئذانًا منه في اتّباعه له على وجه التعلم {مِمَّا عُلّمْتَ رُشْدًا} أي علمًا ذا رُشدٍ أرشُد به في ديني، والرشدُ إصابةُ الخير، وقرئ بفتحتين وهو مفعولُ تعلّمنِ ومفعول عُلّمت محذوفٌ وكلاهما منقولٌ من عِلم المتعدي إلى مفعول واحد، ويجوز كونُه علةً لأتبعُك أو مصدرًا بإضمار فعله، ولا ينافي نبوتَه وكونَه صاحبَ شريعةٍ أن يتعلم من نبي آخرَ ما لا تعلقَ له بأحكام شريعتِه من أسرار العلومِ الخفية، ولقد راعى في سَوق الكلام غايةَ التواضع معه عليهما السلام.
{قَالَ} أي الخِضْر: {إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِىَ صَبْرًا} نفى عنه استطاعةَ الصبر معه على وجه التأكيد كأنه مما لا يصِحّ ولا يستقيم وعلله بقوله: {وَكَيْفَ تَصْبِرُ على مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا} إيذانًا بأنه يتولى أمورًا خفيةَ المدارِ مُنْكَرةَ الظواهرِ، والرجلُ الصالح لاسيما صاحبِ الشريعة لا يتمالك أن يشمئز عند مشاهدتها. وفي صحيح البخاري قال: «يا موسى إنى على علمٍ من علم الله تعالى علَّمنيه لا تعلَمُه وأنت على علمٍ من علم الله علّمكه الله لا أعلمه» وخبرًا تمييز أي لم يحط به خبرك.
{قَالَ} موسى عليه الصلاة والسلام: {سَتَجِدُنِى إِن شَاء الله صَابِرًا} معك غيرَ معترضٍ عليك، وتوسيطُ الاستثناء بين مفعولَي الوُجدان لكمال الاعتناءِ بالتيمّن ولئلا يُتوهّم بالصبر {وَلاَ أَعْصِى لَكَ أمْرًا} عطف على صابرًا أي ستجدني صابرًا وغيرَ عاصٍ، وفي وعد هذا الوُجدان من المبالغة ما ليس في الوعد بنفس الصبرِ وتركِ العصيان، أو على ستجدني فلا محلَّ له من الإعراب والأولُ هو الأولى لما عرفته ولظهور تعلقِه بالاستثناء حينئذ، وفيه دليلٌ على أن أفعالَ العبادِ بمشيئة الله سبحانه وتعالى.
{قَالَ فَإِنِ اتبعتنى} أذِن له في الاتّباع بعد اللتيا والتي، والفاءُ لتفريع الشرطيةِ على ما مر من التزام موسى عليه الصلاة والسلام للصبر والطاعة {فَلاَ تَسْأَلْنى عَن شَىء} تشاهده من أفعالي أي لا تفاتحْني بالسؤال عن حكمته فضلًا عن المناقشة والاعتراض {حتى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا} أي حتى أبتدىء ببيانه، وفيه إيذانٌ بأن كلَّ ما صدر عنه فله حكمةٌ وغايةٌ حميدةٌ ألبتةَ، وهذا من أدب المتعلم مع العالم والتابعِ مع المتبوع، وقرئ: {فلا تسألَنّي} بالنون المثقلة. اهـ.