فصل: قال الألوسي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الألوسي:

{فانطلقا} أي موسى والخضر عليهما السلام ولم يضم يوشع عليه السلام لأنه في حكم التبع، وقيل رده موسى عليه السلام إلى بني إسرائيل، أخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن ابن عباس مرفوعًا أنهما انطلقا يمشيان على ساحل البحر فمرت بهما سفينة فكلموهم أن يحملوهم فعرفوا الخضر فحملوهما بغير نول، وفي رواية أبي حاتم عن الربيع بن أنس أن أهل السفينة ظنوا أنهم لصوص لأن المكان كان مخوفًا فأبوا أن يحملوهم فقال كبيرهم: إني أرى رجالًا على وجوههم النور لأحملنهم فحملهم {حَتَّى إِذَا رَكِبَا في السفينة} أل فيها لتعريف الجنس إذ لم يتقدم عهد في سفينة مخصوصة، وكانت على ما في بعض الروايات سفينة جديدة وثيقة لم يمر بهما من السفن سفينة أحسن منها ولا أجمل ولا أوثق، وكانت أيضًا على ما يدل عليه بعض الروايات الصحيحة من سفن صغار يحمل بها أهل هذا الساحل إلى أهل الساحل الآخر، وفي رواية أبي حاتم أنها كانت ذاهبة إلى أيلة، وصح أنهما حين ركبا جاء عصفور حتى وقع على حرف السفينة ثم نقر في البحر فقال له الخضر: ما نقص علمي وعلمك من علم الله تعالى الأمثل ما نقص هذا العصفور من الحبر، وهو جار مجرى التمثيل؛ واستعمال الركوب في أمثال هذه المواقع بكلمة {فِى} مع تجريده عنها في مثل قوله تعالى: {لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً} [النحل: 8] على ما يقتضيه تعديته بنفسه قد مرت الإشارة إلى وجهه في قوله تعالى: {وَقَالَ اركبوا فِيهَا} [هود: 41] وقيل إن ذلك لإرادة معنى الدخول كأنه قيل حتى إذا دخلا في السفينة {خَرَقَهَا} صح أنهما لما ركبا في السفينة لم يفجأ إلا والخضر قد قلع لوحًا من ألواحها بالقدوم فقال له موسى عليه السلام: قوم حملونا بغير نول عمدت إلى سفينتهم فخرقتها، وصح أيضًا أنه عليه السلام خرقها ووتد فيها وتدا وقيل قلع لوحين مما يلي الماء.
وفي رواية عن سعيد بن جبير عن ابن عباس مرفوعًا أنهما لما ركبا وأطمأنا فيها ولججت بهما مع أهلها أخرج مثقابًا له ومطرقة ثم عمد إلى ناحية منها فضرب فيها بالمنقار حتى خرقها ثم أخذ لوحًا فطبقه عليها نم جلس عليها يرقعها.
وهذه الرواية ظاهرة في أن خرقه إياها كان حين وصولها إلى لج البحر وهو معظم مائه، وفي الرواية عن الربيع أن أهل السفينة حملوهما فساروا حتى إذا شارفوا على الأرض خرقها، ويمكن الجمع بأن أول العزم كان وهي في اللج وتمام الفعل كان وقد شارفت على الأرض، وظاهر الأخبار يقتضي أنه عليه السلام خرقها وأهلها فيها وهو ظاهر قوله تعالى: {قَالَ} موسى {أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا} سواء كانت اللام للعاقبة بناء على أن موسى عليه السلام حسن الظن بالخضر أو للتعليل بناء على أنه الأنسب بمقام الإنكار، وبعضهم لم يجوز هذا توهمًا منه أن فيه سوء أدب وليس كذلك بل يوشك أن يتعين كونها للتعليل لأن الظاهر بناء الجواب عليه كما سنشير إليه إن شاء الله تعالى.
وفي حديث أخرجه عبد بن حميد ومسلم وابن مردويه قال: فانطلقا حتى إذا ركبا في السفينة فخرج من كان فيها وتخلف ليخرقها فقال له موسى: تخرقها لتغرق أهلها فقال له الخضر ما قص الله تعالى.
وهذا ظاهر في أنه عزم على الخرق فاعترض عليه موسى عليه السلام وهو خلاف ما تقتضيه الآية.
فإن أول بأنه بتقدير وتخلف ليخرقها فخرقها وأن تعبير موسى عليه السلام بالمضارع استحضارًا للصورة أو قيل بأنه وقع من الخضر عليه السلام أو لا تصميم على الخرق وتهيئة لأسبابه وثانيًا خرق بالفعل ووقع من موسى عليه السلام اعتراض على الأول أولا وعلى الثاني ثانيًا فنقل في الحديث أول ما وقع من كل هذه المادة وفي الآية ثاني ما وقع من كل فيها بقي بين ظاهر الحديث وظاهر الآية مخالفة أيضًا على ما قيل من حيث أن الأول يقتضي أن أهل السفينة لم يكونوا فيها إذ خرقت والثاني يقتضي أنهم كانوا فيها حينئذ.
وأجيب أنه ليس في الحديث أكثر من أنهم خرجوا منها وتخلف للخرق وليس فيه إنهم خرجوا فخرقها فيمكن أن يكون عليه السلام تخلف للخرق إذ خرجوا لكنه لم يفعله إلا بعد رجوعهم إليه وحصولهم فيها.
وأنت تعلم أنه ينافي هذا ما قيل في وجه الجمع بين الرواية عن سعيد والرواية عن الربيع؛ وبالجملة الجمع بين الأخبار الثلاثة وبينها وبين الآية صعب، وقال بعضهم في ذلك: إنه يحتمل أن السفينة لما لججت بهم صادفوا جزيرة في اللج فخرجوا لبعض حوائجهم وتخلف الخضر عازمًا على الخرق ومعه موسى عليه السلام فاحس منه ذلك فعجل بالاعتراض ثم رجع أهلها وركبوا فيها والعزم هو العزم فأخذ عليه السلام في مباشرة ما عزم عليه ولم يشعر موسى عليه السلام حتى تم وقد شارفت على الأرض، ولا يخفى ما في ذلك من البعد، وذكر بعضهم أن ظاهر الآية يقتضي أن خرقه إياها وقع عقب الركوب لأن الجزاء يعقب الشرط.
وأجيب بأن ذلك ليس بلازم وإنما اللازم تسبب الجزاء عن الشرط ووقوعه بعده ألا تراك تقول: إن خرج زيد على السلطان قتله وإذا أعطيت السلطان قصيدة أعطاك جائزة مع أنه كثيرًا ما لا يعقب القتل الخروج والإعطاء الاعطاء؛ وقد صرح ابن الحاجب بأنه لا يلزم وقوع الشرط والجزاء في زمان واحد فيقال: إذا جئتني اليوم أكرمك غدا، وعلى ذلك قوله تعالى: {أَإِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا} [مريم: 66] ومن التزم ذلك كالرضى جعل الزمان المدلول عليه بإذا ممتدًا وقدر في الآية المذكورة: أئذا ما مت وصرت رميما، وعليه أيضًا لا يلزم التعقيب، نعم قال بعضهم: إن خبر: «لما ركبا في السفينة لم يفجأ إلا والخضر قد قلع لوحًا من ألواحها» يدل على تعقيب الخرق للركوب، وأيضًا جعل غاية انطلاقهما مضمون الجملة الشرطية يقتضي ذلك إذ لو كان الخرق متراخيًا عن الركوب لم يكن غاية الانطلاق مضمون الجملة لعدم انتهائه به.
وأجيب بأن المبادرة التي دل عليها الخبر عرفته بمعنى أنه لم تمض أيامًا ونحوه، وبأنه لا مانع من كون الغاية أمرًا ممتدًا ويكون انتهاء المغيابا باتبدائه كقولك: ملك فلأن حتى كانت سنة كذا ملكه فتأمل. ثم إن في القلب من صحة رواية الربيع شيئًا والله تعالى أعلم بصحتها، والظاهر أن أهل السفينة لم يروه لما باشر خرقها وإلا لما مكنوه وقد نص على ذلك على القاري.
وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن أبي العالية من طريق حماد بن زيد عن شعيب بن الحبحاب ءنه قال: كان الخضر عبدًا لا تراه إلا عين من أراد الله تعالى أن يريه إياه فلم يره من القوم إلا موسى عليه السلام ولو رآه القوم لحالوا بينه وبين خرق السفينة وكذا بينه وبين قتل الغلام، وليس هذا بالمرفوع والله تعالى أعلم بصحته، نعم سيأتي إن شاء الله تعالى قريبًا عن الربيع أيضًا أنهم علموا بعد ذلك أنه الفاعل، والظاهر أيضًا أن موسى عليه السلام لم يرد إدراج نفسه الشريفة في قوله: {لتغرق أهلها} وإن كان صالحًا لأن يدرج فيه بناءً على أن المراد من أهلها الراكبين فيها.
وقرأ الحسن. وأبو رجاء {لِتُغْرِقَ} بالتشديد لتكثير المفعول وقرأ حمزة والكسائي وزيد بن علي والأعمش وطلحة وابن أبي ليلى وخلف وأبو عبيد وابن سعدان وابن عيسى الأصبهاني {أَعِزَّةَ أَهْلِهَا} على إسناد الفعل إلى الأهل، وكون اللام على هذه القراءة للعاقبة ظاهر جدًا {لَقَدْ جِئْتَ} أتيت وفعلت {شَيْئًا إِمْرًا} أي داهيًا منكرًا من أمر الأمر بمعنى كثر قاله الكسائي فاصله كثير، والعرب كما قال ابن جني في سر الصناعة تصف الدواهي بالكثرة، وهو عند بعضهم في الأصل على وزن كبد فخفف قيل ولم يقل أمرًا إمرًا مع ما فيه من التجنيس لأنه تكلف لا يلتفت إلى مثله في الكلام البليغ كما صرح به الإمام المرزوقي في شرح قول السموأل:
يقرب حب الموت آجالنا لنا ** وتكرهه آجالهم فتطول

ردًا لاختيار بعضهم رواية يقصر حب الموت، وأيد ذلك بقول أبي ذؤيب الهذلي:
وشيك الفصول بعيد القفول

حيث أمكن له أن يقول بظىء القفول ولم يقل، وربما يقال هنا: إنه لم يقل ذلك لما ذكر مع إيهامه خلاف المراد وقصوره عن درجة ما في النظم الجليل من زيادة التفظيع، وفي الرواية عن الربيع أن موسى عليه السلام لما رأى من الخضر ما رأى امتلأ غضبًا وشد عليه ثيابه وأراد أن يقذف الخضر عليه السلام في البحر فقال أردت هلاكهم فستعلم أنك أول هالك وجعل كلما ازداد غضبًا استعر البحر وكلما سكن كان البحر كالدهن، وأن يوشع بن نون قال له: ألا تذكر العهد والميثاق الذي جعلت على نفسك، وأن الخضر عليه السلام أقبل عليه يذكره ما قاله من قبل:
{قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِىَ صَبْرًا}.
وهو متضمن للإنكار على عدم وقوع الصبر منه عليه السلام فأدركه عند ذلك الحلم.
{قَالَ لاَ تُؤَاخِذْنِى بِمَا نَسِيتُ}.
اعتذار بنسيان الوصية على أبلغ وجه كأن نسيانه أمر محقق عند الخضر عليه السلام لا يحتاج أن يفيده إياه استقلالًا وإنما يلتمس منه ترك المؤاخذة به؛ فما مصدرية والباء صلة المؤاخذة أي لا تؤاخذ بنسياني وصيتك في ترك السؤال عن شيء حتى تحدث لي منه ذكرًا، والتمس ترك المؤاخذة بالنسيان لأن الكامل قد يؤاخذ به وهي مؤاخذة بقلة التحفظ التي أدت إليه كما وقعت لأول ناس وهو أول الناس وإلا فالمؤاخذة به نفسه لا تصح لأنه غير مقدور، وقيل: الباء للسببية وهي متعلقة بالفعل، والنسيان وإن لم يكن سببًا قريبًا للمؤاخذة بل السبب القريب لها هو ترك العمل بالوصية لكنه سبب بعيد لأنه لولاه لم يكن الترك، وجوز أن تكون متعلقة بمعنى النهي كما قيل في {بِنِعْمَةِ رَبّكَ} من قوله تعالى: {مَا أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبّكَ بِمَجْنُونٍ} [القلم: 2] إنه متعلق بمعنى النفي فيكون النسيان سببًا للنهي عن المؤاخذة بترك العمل بالوصية.
وزعم بعضهم تعين كونها للملابسة، ويجوز في ما أن تكون موصولة وأن تكون موصوفة أي لا تؤاخذني بالذي أو بشيء نسيته وهو الوصية لكن يحتاج هذا ظاهرًا إلى تقدير مضاف أي بترك ما نسيته لأن المؤاخذة بترك الوصية أي ترك العمل بها لا بنفس الوصية.
وقيل قد لا يحتاج إلى تقدير المضاف فإن الوصية سبب للمؤاخذة إذ لولاهما لم يكن ترك العمل ولا المؤاخذة، ونظير ذلك ما قيل في قوله تعالى: {فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبّهِ} [الكهف: 50] ثم كون ما ذكر اعتذارًا بنسيان الوصية هو الظاهر وقد صح في البخاري أن المرة الأولى كانت نسيانًا.
وزعم بعضهم أنه يحتمل أنه عليه السلام لم ينس الوصية وإنما نهى عن مؤاخذته بالنسيان موهمًا أن ما صدر منه كان عن نسيانها مع أنه إنما عنى نسيان شيء آخر، وهذا من معاريض الكلام التي يتقي بها الكذب مع التوسل إلى الغرض كقول إبراهيم عليه السلام: هذه أختي.
و{إني سقيم} [الصافات: 89]، وروى هذا ابن جرير عن أبي بن كعب وابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما.
وجوز أن يكون النسيان مجازًا عن الترك أي لا تؤاخذني بما تركت من وصيتك أول مرة {وَلاَ تُرْهِقْنِى} لا تغشني ولا تحملني {مِنْ أَمْرِى} وهو اتباعه إياه {عُسْرًا} أي صعوبة وهو مفعول ثان لترهقني، والمراد لا تعسر على متابعتك ويسرها علي بالإغضاء وترك المناقشة.
وقرأ أبو جعفر {عُسْرًا} بضمتين.
{فانطلقا} الفاء فصيحة أي فقبل عذره فخرجا من السفينة فانطلقا يمشيان على الساحل كما في الصحيح، وفي رواية أنهما مرا بقرية {حتى إِذَا لَقِيَا غُلاَمًا} يزعمون كما قال البخاري أن اسمه جيسور بالجيم وروى بالحاء، وقيل اسمه جنبتون وقيل غير ذلك، وصح أنه كان يلعب مع الغلمان وكانوا على ما قيل عشرة وأنه لم يكن فيهم أحسن ولا أنظف منه فأخذه {فَقَتَلَهُ} أخرج البخاري في رواية أنه عليه السلام أخذ برأسه من أعلاه فاقتلعه بيده، وفي رواية أخرى أنه أخذه فأضجعه ثم ذبحه بالسكين، وقيل ضرب رأسه بالجدار حتى قتله، وقيل رضه بحجر، وقيل ضربه برجله فقتله، وقيل أدخل أصبعه في سرته فاقتلعها فمات، وجمع بين الروايات الثلاثة الأول بأنه ضرب رأسه بالجدار أولًا ثم أضجعه وذبحه ثم اقتلع رأسه، وربما يجمع بين الكل وفي كلا الجمعين بعد، والظاهر أن الغلام لم يكن بالغًا لأنه حقيقة الغلام الشائعة في الاستعمال وإلى ذلك ذهب الجمهور، وقيل كان بالغًا شابًا، وقد أخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن عبد العزيز أنه كان ابن عشرين سنة، والعرب تبقى على الشاب اسم الغلام، ومنه قول ليلى الأخيلية في الحجاج:
شفاها من الداء الذي قد أصابها ** غلام إذا هز القناة سقاها

وقوله:
تلق ذباب السيف عني فإنني ** غلام إذا هوجيت لست بشاعر

وقيل هو حقيقة في البالغ لأن أصله من الاغتلام وهو شدة الشبق وذلك إنما يكون فيمن بلغ الحلم، وإطلاقه على الصبي الصغير تجوز من باب تسمية الشيء باسم ما يؤول إليه، ويؤيد قول الأولين قوله تعالى: {قَالَ} أي موسى عليه السلام {أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً} أي طاهرة من الذنوب فإن البالغ قلما يزكو من الذنوب.
وقد جاء في حديث عن ابن جبير عن ابن عباس مرفوعًا تفسير زكية بصغيرة وهو تفسير باللازم، ومن قال كان بالغًا قال: وصفه عليه السلام بذلك لأنه لم يره أذنب فهو وصف ناشىء من حسن الظن، واستدل على كونه بالغًا بقوله تعالى: {بِغَيْرِ نَفْسٍ} أي بغير حق قصاص لك عليها فإن الصبي لا قصاص عليه.
وأجاب النووي والكرماني بأن المراد التنبيه على أنه قتله بغير حق إلا أنه خص حق القصاص بالنفي لأنه الأنسب بمقام القتل أو أن شرعهم كان إيجاب القصاص على الصبي، وقد نقل المحدثون كالبيهقي في كتاب المعرفة أنه كان في شرعنا كذلك قبل الهجرة.