فصل: قال الثعلبي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الثعلبي:

{مَّآ أَشْهَدتُّهُمْ} ما أحضرتهم، يعني إبليس وذريته. وقيل: يعني الكافرين أجمع. قال الكلبي: يعني ملائكة السماوات. وقرأ أبو جعفر: {ما أشهدناهم} بالنون والألف على التعظيم، {خَلْقَ السماوات والأرض} فأستعين بهم على خلقها، وأُشاورهم وأُوامرهم فيها، {وَلاَ خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ المضلين عَضُدًا}: أنصارًا وأعوانًا.
{وَيَوْمَ يَقُولُ نَادُواْ} قرأ حمزة بالنون. الباقون بالياء لقوله: {شُرَكَآئِيَ} ولم يقل: شركاءنا. {شُرَكَآئِيَ الذين زَعَمْتُمْ} أنهم شركائي، {فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُواْ لَهُمْ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُم} يعني بين الأوثان وعبدتها. وقيل: بين أهل الهدى والضلالة {مَّوْبِقًا}، قال عبد الله بن عمر: هو واد عميق في جهنم يفرق به يوم القيامة بين أهل لا إله إلاّ الله، وبين من سواهم. وقال ابن عباس: هو واد في النار. وقال مجاهد: واد من حميم. وقال عكرمة: هو نهر في النار يسيل نارًا، على حافتيه حيّات مثل البغال الدهم، فإذا بادرت إليهم لتأخذوهم استغاثوا بالاقتحام في النّار منها. وقال الحسن: عداوة. وقال الضحّاك وعطاء: مهلكًا. وقال أبو عبيد: موعدًا، وأصله الهلاك، يقال: أوبقه يوبقه إيباقًا، أي أهلكه، ووبق يبق وبقًا، أي هلكة، ويقال: وبق يوبق ويبق ويأبق، وهو وابق ووبق، والمصدر: وبق، ووبُوق.
{وَرَأَى المجرمون}: المشركون {النار فظنوا أَنَّهُمْ مُّوَاقِعُوهَا}: داخلوها. وقال مجاهد: مقتحموها وقيل: نازلوها وواقعون فيها. وقرأ الأعمش: {ملاقوها}، يعني مجتمعين فيها، والهاء الجمع {وَلَمْ يَجِدُواْ عَنْهَا مَصْرِفًا}.
وروى أبو سعيد الخدري عن النبّي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إن الكافر ليرى جهنم فيظن أنه مواقعها من مسيرة أربعين سنة».
{وَلَقَدْ صَرَّفْنَا}: بيّنا {فِي هذا القرآن لِلنَّاسِ مِن كُلِّ مَثَلٍ} ليتذكروا ويتّعظوا {وَكَانَ الإنسان أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا}: خصومة في الباطل، يعني أُبّي بن خلف الجمحي، وقيل: إنه عام ليس بخاص، واحتجّوا بما روى الحسن بن علي بن أبي طالب عن أبيه قال: «إن رسول الله صلى الله عليه وسلم طرقه هو وفاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ألا تصلّون؟ فقلت: يا رسول الله، إنما أنفسنا بيد الله تعالى، فإذا شاء أن يبعثنا بعثنا. فانصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قلت ذلك له ولم يرجع شيئًا، فسمعته وهو يضرب فخذه ويقول: {وَكَانَ الإنسان أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا}».
{وَمَا مَنَعَ الناس أَن يؤمنوا} يعني من أن يؤمنوا، {إِذْ جَاءَهُمُ الهدى}: القرآن والإسلام ومحمد صلى الله عليه وسلم {وَيَسْتَغْفِرُواْ}: ومن أن يستغفروا ربهم {إِلاَّ أَن تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الأولين} يعني سنتنا في إهلاكهم {أَوْ يَأْتِيَهُمُ العذاب قُبُلًا}، قال ابن عباس: عيانًا.
قال الكلبي: هو السّيف يوم بدر. قال مجاهد: فجأة. ومن قرأ: {قبلا}، بضمتين، أراد به: أصناف العذاب.
{وَمَا نُرْسِلُ المرسلين إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَيُجَادِلُ الذين كَفَرُواْ بالباطل لِيُدْحِضُواْ}: يبطلوا ويزيلوا {بِهِ الحق}، قال السّدي: ليفسدوا، وأصل الدّحض: الزلق، يقال: دحضت رجله أي زلقته. وقال طرفة:
أبا منذر رمت الوفاء فهبته ** وحدت كما حاد البعير عن الدحض

{واتخذوا آيَاتِي وَمَا أُنْذِرُواْ}، فيه إضمار يعني: وما أُنذروا وهو القرآن {هُزُوًا}: استهزاءً.
{وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بآيات رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا}: لم يؤمن بها {وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ}، أي عملت يداه من الذنوب {إِنَّا جَعَلْنَا على قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ}، يعني القرآن {وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا}: ثقلًا وصممًا {وَإِن تَدْعُهُمْ} يا محمد {إلى الهدى} يعني إلى الدين {فَلَنْ يهتدوا إِذًا أَبَدًا}: لن يرشدوا ولن يقبلوه.
{وَرَبُّكَ الغفور ذُو الرحمة لَوْ يُؤَاخِذُهُم بِمَا كَسَبُواْ} من الذنوب {لَعَجَّلَ لَهُمُ العذاب} في الدنيا {بَل لَّهُم مَّوْعِدٌ} وهو يوم الحساب {لَّن يَجِدُواْ مِن دُونِهِ مَوْئِلًا}: معدلًا ومنجىً، قال الأعشى:
وقد أُخالس ربّ البيت غفلته ** وقد يحاذر منّي ثمّ ما يئل

أي لا ينجو.
{وَتِلْكَ القرى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُواْ}: كفروا، {وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِم مَّوْعِدًا}: أجلًا.
{وَإِذْ قَالَ موسى لِفَتَاهُ} الآية قال ابن عباس: لما ظهر موسى عليه السلام وقومه على مصر أنزل قومه مصر، فلّما استقرت بهم الدار أنزل الله عزّ وجلّ: {وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ الله} [إبراهيم: 5] فخطب قومه وذكر بما آتاهم الله عزّ وجلّ من الخير والنّعمة؛ إذ نجّاهم من آل فرعون وأهلك عدوّهم واستخلفهم في الأرض، فقال: «وكلّم الله نبيكم تكليمًا، واصطفاني لنفسه، وألقى عليّ محبّة منه، وآتاكم من كل ما سألتموه، ونبيّكم أفضل أهل الأرض، وأنتم تقرؤون التوراة». فلم يترك نعمة أنعمها الله عزّ وجلّ عليهم إلاّ ذكرها وعرّفها إيّاهم، فقال له رجل من بني إسرائيل: قد عرفنا الذي تقول، فهل على وجه الأرض أحد أعلم منك يا نبي الله؟ قال: «لا». فعتب الله عزّ وجلّ عليه حين لم يرد العلم إليه، فبعث إليه جبرئيل، فقال: «يا موسى وما يدريك أين أضع علمي؟ بل إن لي عبدًا بمجمع البحرين أعلم منك». فسأل موسى ربّه أن يريه إيّاه، فأوحى الله عزّ وجلّ إليه أن: «ايت البحر فإنك تجد على شط البحر حوتًا، فخذه فادفعه إلى فتاك، ثمّ الزم شط البحر إذا نسيت الحوت وهلك منك فثمّ تجد العبد الصالح».
وقال ابن عباس في رواية أُخرى: سأل موسى ربّه فقال: «ربّ أي عبادك أحبّ إليك؟». قال: «الذي يذكرني فلا ينساني». قال: «فأي عبادك أقضى؟». قال: «الذي يقضي بالحق ولا يتبع الهوى». قال: «ربّي فأي عبادك أعلم؟». قال: «الذي يبغي علم الناس إلى علمه عسى أن يصيب كلمة تدلّه على هدًى أو ترده عن ردًى». قال: «إن كان في عبادك أحد هو أعلم منّي فادللني عليه». فقال له: «نعم، في عبادي من هو أعلم منك». قال: «من هو؟». قال: «الخضر». قال: «وأين أطلبه؟». قال: «على الساحل عند الصخرة». وجعل الحوت له آية، وقال: «إذا حيّ هذا الحوت، وعاش، فإن صاحبك هناك».
وكانا قد تزودا سمكًا مالحًا فذلك قوله عزّ وجلّ: {وَإِذْ قَالَ موسى} بن عمران {لِفَتَاهُ}: صاحبه يوشع بن نون بن إفرائيم بن يوسف. وقيل: فتاه أخو يوشع، كان معه في سفره. وقيل: فتاه عبده ومملوكه: {لا أَبْرَحُ}: لا أزال أسير {حتى أَبْلُغَ مَجْمَعَ البحرين}، قال قتادة: بحر فارس والروم مما يلي المشرق. وقال محمد بن كعب: طنجة. وقال أُبّي بن كعب: أفريقية، {أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا} وجمعه أحقاب: دهرًا أو زمانًا.
وقال عبد الله بن عمر: والحقب ثمانون سنة. وقال مجاهد: سبعون سنة. وقيل: البحران هما موسى والخضر، كانا بحرين في العلم.
فحملا خبزًا وسمكة مالحة وسارا حتى انتهيا إلى الصخرة التي عند مجمع البحرين ليلًا، وعندها عين تسمى ماء الحياة، لا يصيب ذلك الماء شيئًا إلاّ حيّ، فلما أصاب السمكة روح الماء وبرده اضطربت في المكتل وعاشت ودخلت البحر، فذلك قوله عزّ وجلّ: {فَلَمَّا بَلَغَا}، يعني: موسى وفتاه {مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا} يعني: بين البحرين {نَسِيَا حُوتَهُمَا}: تركا حوتهما، وإنما كان الحوت مع يوشع، وهو الذي نسيه فصرف النسيان إليهما، والمراد به: أحدهما كما قال: {يَخْرُجُ مِنْهُمَا الُّلؤْلُؤُ وَالمَرْجَانُ} [الرحمن: 22] وإنما يخرج من المالح دون العذب. وإنما جاز ذلك؛ لأنهما كانا جميعا تزوّدا لسفرهما، فجاز إضافته إليهما، كما يقال: خرج القوم إلى موضع كذا، وحملوا معهم من الزاد كذا، وإنما حمله أحدهم، لكنه لمّا كان ذلك من أمرهم ورأيهم أُضيف إليهم. {فاتخذ} الحوت {سَبِيلَهُ فِي البحر سَرَبًا}، أي مسلكًا ومذهبًا يسرب ويذهب فيه.
واختلفوا في كيفية ذلك؛ فروى أُبّي بن كعب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «انجاب الماء عن مسلك الحوت فصارت كوّة لم تلتئم، فدخل موسى الكوّة على أثر الحوت فإذا هو بالخضر عليه السلام».
وقال ابن عباس: رأى أثر جناحه في الطين حين وقع في الماء، وجعل الحوت لا يمس شيئًا إلاّ يبس حتى صار صخرة. وروى ابن عباس عن أُبي بن كعب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لمّا انتهيا إلى الصخرة وضعا رأسيهما فناما واضطرب الحوت في المكتل، فخرج منه فسقط في البحر فاتخذ سبيله في البحر سربا، أمسك الله عزّ وجلّ عن الحوت جرية الماء، فصار عليه مثل الطاق فلما استيقظ موسى عليه السلام نسي فتاه أن يخبره بالحوت وانطلقا بقية يومهما وليلتهما. حتى إذا كان من الغد {فَلَمَّا جَاوَزَا قَالَ} موسى {لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَاءَنَا}».
وقال قتادة: رد الله عزّ وجلّ إلى الحوت روحه فسرب من البحر حتى أفضى إلى البحر، ثمّ سلك فجعل لا يسلك منه طريقًا إلاّ صار ماء جامدًا طريقًا يبسًا. وقال الكلبي: توضّأ يوشع بن نون من عين الحياة فانتضح على الحوت المالح في المكتل من ذلك الماء فعاش، ثمّ وثب في ذلك الماء، فجعل يضرب بذنبه الماء، ولا يضرب بذنبه شيئًا من الماء وهو ذاهب إلاّ يبس. {فَلَمَّا جَاوَزَا}، يعني ذلك الموضع {قَالَ لِفَتَاهُ آتِنَا}: أعطنا {غَدَاءَنَا}: طعامنا وزادنا، وذلك أن يوشع بن نون حين رأى ذلك من الحوت قام ليدرك موسى ليخبره بأمر الحوت، فنسي أن يخبره فمكثا يومهما ذلك حتى صلّيا الظهر من الغد، ولم ينصب موسى في سفره ذلك إلاّ يومئذ حين جاوز الموضع الذّي أُمر به، فقال لفتاه حين ملّ وتعب: {آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِن سَفَرِنَا هذا نَصَبًا}، أي شدة وتعبًا، وذلك أنه أُلقي على موسى الجوع بعد ما جاوز الصخرة، ليتذكر الحوت، ويرجع إلى موضع مطلبه، فقال له فتاه وتذكر: {قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَآ}: رجعنا {إِلَى الصخرة}، قال مقاتل: هي الصخرة التي دون نهر الزيت {فَإِنِّي نَسِيتُ الحوت}؟ أي تركته وفقدته.
وقيل: فيه إضمار معناه: نسيت أن أذكر أمر الحوت، ثمّ قال: {وَمَآ أَنْسَانِيهُ إِلاَّ الشيطان أَنْ أَذْكُرَهُ}، يعني: أنسانيه ألاّ أذكره. وقيل: فيه تقديم وتأخير مجازه: وما أنسانيه أن أذكره إلاّ الشيطان، {واتخذ سَبِيلَهُ فِي البحر عَجَبًا}، يجوز أن يكون هذا من قول يوشع، يقول: اتخذ الحوت سبيله في البحر عجبًا. وقيل: إن يوشع يقول: إن الحوت طفر إلى البحر فاتّخذ فيه مسلكًا، فعجبت من ذلك عجبًا. ويجوز أن يكون هذا من قول موسى، قال له يوشع: {واتخذ سَبِيلَهُ فِي البحر}، فأجابه موسى: {عَجَبًا} كأنه قال: أعجب عجبًا.
وقال ابن زيد: أي شيء أعجب من حوت، كان دهرًا من الدهور يؤكل منه ثمّ صار حيًّا حتى حشر في البحر. قال: وكان شق حوت. وقال ابن عباس: اتخذ موسى سبيل الحوت في البحر عجبًا. قال وهب: ظهر في الماء من أثر جري الحوت شق وأُخدود شبه نهر من حيث دخلت إلى حيث انتهت. فرجع موسى حتى انتهى إلى مجمع البحرين، فإذا هو بالخضر عليه السلام، فذلك قوله: {قَالَ} موسى لفتاه: {ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ} أي نطلب، يعني الخضر {فارتدا}: فرجعا {على آثَارِهِمَا قَصَصًا}: يقصان الأثر: يتبعانه.
{فَوَجَدَا عَبْدًا مِّنْ عِبَادِنَآ} يعني الخضر واسمه بليا بن ملكان بن يقطن، والخضر لقب له، سمّي بذلك، لما أخبرنا عبد الله بن حامد عن مكّي بن عبدان: أخبرنا أبو الأزهر عن عبد الرزاق عن معمر عن همام بن منبّه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنما سُمي الخضر خضرًا؛ لأنه جلس على فروة بيضاء فاهتزت تحته خضراء».
قال عبد الرزاق: فروة بيضاء يعني: حشيشة يابسة، وفروة: قطعة من الأرض فيها نبات. وقال مجاهد: إنما سمي الخضر؛ لأنه إذا صلّى اخضرّ ما حوله. وروى عبد الله بن المبارك عن ابن جريج عن عثمان بن أبي سلمان قال: رأى موسى الخضر عليه السلام على طنفسة خضراء على وجه الماء، فسلّم عليه. وقال ابن عباس عن أُبيّ بن كعب عن النبّي صلى الله عليه وسلم قال: «انتهى موسى إلى الخضر عليه السلام وهو نائم عليه ثوب مسجىً، فسلّم عليه؛ فاستوى جالسًا قال: وعليك السلام يا نبي بني إسرائيل. قال موسى: وما أدراك بي؟ ومن أخبرك أني نبيّ بني إسرائيل؟ قال الذي أدراك بي ودلّك علّي».
وقال سعيد بن جبير: وصل إليه وهو يصلي، فلما سلّم عليه قال: وأنّى بأرضنا السلام؟ ثمّ جلسا يتحدّثان فجاءت خطّافة وحملت بمنقارها من الماء، قال الخضر: يا موسى خطر ببالك أنّك أعلم أهل الأرض، ما علمك وما علم الأولين والآخرين في جنب الله إلاّ أقلّ من الماء الذي حملته الخطافة، فذلك قوله تعالى: {فَوَجَدَا عَبْدًا مِّنْ عِبَادِنَآ آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْمًا قَالَ لَهُ}: للعالم {موسى هَلْ أَتَّبِعُكَ على أَن تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا}: صوابًا؟ {قَالَ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا}؛ لأني أعمل بباطن علم علّمنيه ربّي عزّ وجلّ، {وَكَيْفَ تَصْبِرُ} يا موسى {على مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا}، يعني على ما لم تعلم؟ وقال ابن عباس: وذلك أنه كان رجلًا يعمل على الغيب.
{قَالَ} موسى: {ستجدني إِن شَاءَ الله صَابِرًا وَلاَ أَعْصِي لَكَ أمْرًا}. قال: {فَإِنِ اتبعتني فَلاَ تَسْأَلْني عَن شَيءٍ} مما تنكر {حتى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا}: حتى ابتدئ لك بذكره، وأُبيّن لك شأنه. {فانطلقا} يسيران يطلبان سفينة يركبانها {حتى إِذَا} أصابها {رَكِبَا فِي السفينة}، فقال أهل السفينة: هؤلاء لصوص، فأمروهما بالخروج منها، فقال صاحب السفينة: ما هم بلصوص ولكنّي أرى وجوه الأنبياء. وقال أبي بن كعب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فانطلقا يمشيان على ساحل البحر، فمرت بهم سفينة فكلموهم أن يحملوهم، فعرفوا الخضر فحملوه بغير نول فلما دخلوا إلى البحر أخذ الخضر فأسًا فخرق لوحًا من السفينة حتّى دخلها الماء فحشاها موسى ثوبه وقال له: {أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا}» وقرأ أهل الكوفة {ليغرق} بالياء المفتوحة {أهلها} برفع اللام على أن الفعل لهم، وهي قراءة ابن مسعود، {لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا} أي منكرًا. قال القتيبي: عجبًا. والإمر في كلام العرب الداهية، قال الراجز:
قد لقيَ الأقران منّي نُكْرًا ** داهية دهياء إدًّا إمرا

وأصله: كل شيء شديد كثير، يقال: أمر القوم، إذا كثروا واشتدّ أمرهم.
قال العالم {أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا قَالَ} موسى: {لاَ تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ} أخبرنا أبو عبد الله بن حامد الورّاق عن حامد بن محمد قال: قال أبو سعد بن موسى المروَروذي ببغداد، وأخبرنا محمد بن أبي ناجية الاسكندراني عن سفيان بن عيينة عن عمر بن دينار عن عكرمة عن ابن عباس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «كانت الأُولى من أمر النسيان، والثانية القدر، ولو صبر موسى لقص الله علينا أكثر مما قص».