فصل: قال أبو حيان:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



ورواه أيضًا من حديث جابر بن عبد الله قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول قبل أن يموت بشهر: «تسألوني عن الساعة وإنما علمها عند الله وأقسم بالله ما على الأرض من نفس مَنْفُوسة تأتي عليها مائة سنة» وفي أخرى قال سالم: تذاكرنا أنها «هي مخلوقة يومئذٍ» وفي أخرى: «ما من نفس منفوسة اليوم يأتي عليها مائة سنة وهي حية يومئذٍ» وفسرها عبد الرحمن صاحب السقاية قال: نقص العمر.
وعن أبي سعيد الخدري نحو هذا الحديث.
قال علماؤنا: وحاصل ما تضمنه هذا الحديث أنه عليه الصلاة والسلام أخبر قبل موته بشهر أن كل من كان من بني آدم موجودًا في ذلك لا يزيد عمره على مائة سنة؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: «ما من نفس مَنْفوسة» وهذا اللفظ لا يتناول الملائكة ولا الجن إذ لم يصح عنهم أنهم كذلك، ولا الحيوان غير العاقل؛ لقوله: «ممن هو على ظهر الأرض أحد» وهذا إنما يقال بأصل وضعه على من يعقل، فتعين أن المراد بنو آدم.
وقد بين ابن عمر هذا المعنى؛ فقال: يريد بذلك أن يَنْخرم ذلك القَرْن.
ولا حجة لمن استدل به على بطلان قول من يقول: إن الخضر حي لعموم قوله: «ما من نفس منفوسة» لأن العموم وإن كان مؤكّد الاستغراق فليس نَصًّا فيه، بل هو قابل للتخصيص، فكما لم يتناول عيسى عليه السلام، فإنه لم يمت ولم يقتل فهو حيّ بنص القرآن ومعناه، ولا يتناول الدجال مع أنه حيّ بدليل حديث الجَسّاسة، فكذلك لم يتناول الخضر عليه السلام وليس مشاهدًا للناس، ولا ممن يخالطهم حتى يخطر ببالهم حالة مخاطبة بعضهم بعضًا، فمثل هذا العموم لا يتناوله.
وقد قيل: إن أصحاب الكهف أحياء ويحجون مع عيسى عليه الصلاة والسلام، كما تقدّم.
وكذلك فتى موسى في قول ابن عباس كما ذكرنا.
وقد ذكر أبو إسحاق الثعلبي في كتاب العرائس له: والصحيح أن الخضر نبيّ مُعمَّر محجوب عن الأبصار؛ وروى محمد بن المتوكل عن ضمرة بن ربيعة عن عبد الله بن شوذب قال: الخضر عليه السلام من ولد فارس، وإلياس من بني إسرائيل يلتقيان كل عام في الموسم.
وعن عمرو بن دينار قال: إن الخضر وإلياس لا يزالان حيين في الأرض ما دام القرآن على الأرض، فإذا رفع ماتا.
وقد ذكر شيخنا الإمام أبو محمد عبد المعطي بن محمود بن عبد المعطي اللخمي في شرح الرسالة له للقشيري حكايات كثيرة عن جماعة من الصالحين والصالحات بأنهم رأوا الخضر عليه السلام ولقوه، يفيد مجموعها غلبة الظن بحياته مع ما ذكره النقاش والثعلبي وغيرهما.
وقد جاء في صحيح مسلم: «أن الدجال ينتهي إلى بعض السباخ التي تلي المدينة فيخرج إليه يومئذٍ رجل هو خير الناس أو من خير الناس» الحديث؛ وفي آخره قال أبو إسحاق: يعني أن هذا الرجل هو الخضر.
وذكر ابن أبي الدنيا في كتاب الهواتف بسند يرفعه إلى عليّ بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه أنه لقي الخضر وعلمه هذا الدعاء، وذكر أن فيه ثوابًا عظيمًا ومغفرة ورحمة لمن قاله في أثر كل صلاة، وهو: يا من لا يشغله سمع عن سمع، ويا من لا تغلطه المسائل، ويا من لا يتبرم من إلحاح الملحين، أذقني بَرْد عفوك، وحلاوة مغفرتك.
وذكر أيضًا عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه في هذا الدعاء بعينه نحوًا مما ذكر عن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه في سماعه من الخضر.
وذكر أيضًا اجتماع إلياس مع النبي عليه الصلاة والسلام.
وإذا جاز بقاء إلياس إلى عهد النبي صلى الله عليه وسلم جاز بقاء الخضر، وقد ذكر أنهما يجتمعان عند البيت في كل حول، وأنهما يقولان عند افتراقهما: ما شاء الله ما شاء الله، لا يصرف السوء إلا الله، ما شاء الله ما شاء الله، ما يكون من نعمة فمن الله، ما شاء الله ما شاء الله، توكلت على الله، حسبنا الله ونعم الوكيل.
وأما خبر إلياس فيأتي في والصافات إن شاء الله تعالى.
وذكر أبو عمر بن عبد البر في كتاب التمهيد عن علي رضي الله تعالى عنه قال: لما توفي النبي صلى الله عليه وسلم وسُجِّي بثوب هتف هاتف من ناحية البيت يسمعون صوته ولا يرون شخصه: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، السلام عليكم أهل البيت، {كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الموت} [آل عمران: 185] الآية إن في الله خَلَفًا من كل هالك، وعوضًا من كل تالف، وعَزاء من كل مصيبة، فبالله فثقوا، وإياه فارجوا، فإن المصاب من حُرِم الثواب؛ فكانوا يرون أنه الخضر عليه الصلاة والسلام. يعني أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام.
والألف واللام في قوله: {على الأرض} للعهد لا للجنس وهي أرض العرب، بدليل تصرفهم فيها وإليها غالبًا دون أرض يأجوج ومأجوج، وأقاصي جزر الهند والسند مما لا يقرع السمع اسمه، ولا يُعلَم علمه.
ولا جواب عن الدجال.
قال السهيلي: واختلف في اسم الخضر اختلافًا متباينًا؛ فعن ابن منبه أنه قال: أَيْلَيا بن مَلْكان بن فالغ بن شالخ بن أرفخشذ بن سام بن نوح.
وقيل: هو ابن عاميل بن سماقحين بن أريا بن علقما بن عيصو بن إسحاق، وأن أباه كان مَلِكًا، وأن أمه كانت بنت فارس واسمها ألمى، وأنها ولدته في مغارة، وأنه وجد هنالك وشاة ترضعه في كل يوم من غنم رجل من القرية، فأخذه الرجل فربّاه، فلما شَبَّ وطلب الملِكُ أبوه كاتبا وجمع أهل المعرفة والنبالة ليكتب الصحف التي أنزلت على إبراهيم وشيث، كان ممن أقدم عليه من الكتاب ابنه الخضر وهو لا يعرفه، فلما استحسن خطه ومعرفته، وبحث عن جلية أمره عرف أنه ابنه، فضمه لنفسه وولاه أمر الناس، ثم إن الخضر فرّ من الملك لأسباب يطول ذكرها إلى أن وجد عين الحياة فشرب منها، فهو حيّ إلى أن يخرج الدجال، وأنه الرجل الذي يقتله الدجال ويقطعه ثم يحييه الله تعالى.
وقيل: لم يدرك زمن النبي صلى الله عليه وسلم؛ وهذا لا يصح.
وقال البخاري وطائفة من أهل الحديث منهم شيخنا أبو بكر بن العربي رحمه الله تعالى: إنه مات قبل انقضاء المائة، من قوله عليه الصلاة والسلام: «إلى رأس مائة عام لا يبقى على هذه الأرض ممن هو عليها أحد» يعني من كان حيًا حين قال هذه المقالة.
قلت: قد ذكرنا هذا الحديث والكلام عليه، وبَيَّنا حياة الخضر إلى الآن، والله أعلم.
الخامسة: قيل: إن الخضر لما ذهب يفارق موسى قال له موسى: أوصني؛ قال: كن بَسَّامًا ولا تكن ضَحَّاكًا، ودع اللَّجاجة، ولا تمش في غير حاجة، ولا تعب على الخطّائين خطاياهم، وابك على خطيئتك يا ابن عمران. اهـ.

.قال أبو حيان:

{أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ}.
روي أن موسى عليه السلام لما عزم الخضر على مفارقته أخذ بثيابه، وقال: لا أفارقك حتى تخبرني بمَ أباح لك فعل ما فعلت، فلما التمس ذلك منه أخذ في البيان والتفصيل، فقال: {أما السفينة} فبدأ بقصة ما وقع له أولًا.
قيل: كانت لعشرة إخوة، خمسة زمني وخمسة يعملون في البحر.
وقيل: كانوا أجراء فنسبت إليهم للاختصاص.
وقرأ الجمهور: مساكين بتخفيف السين جمع مسكين.
وقرأ عليّ كرم الله وجهه بتشديد السين جمع مساك جمع تصحيح.
فقيل: المعنى ملاحين، والمساك الذي يمسك رجل السفينة وكل منهم يصلح لذلك.
وقيل: المساكون دبَغَة المسوك وهي الجلود واحدها مسك، والقراءة الأولى تدل على أن السفينة كانت لقوم ضعفاء ينبغي أن يشفق عليهم، واحتج بهذه الآية على أن المسكين هو الذي له بلغة من العيش كالسفينة لهؤلاء، وأنه أصلح حالًا من الفقير.
وقوله: {فأردت} فيه إسناد إرادة العيب إليه.
وفي قوله: فأراد ربك أن يبلغا لما في ذكر العيب ما فيه فلم يسنده إلى الله، ولما في ذلك من فعل الخير أسنده إلى الله تعالى.
قال الزمخشري: فإن قلت: قوله: {فأردت أن أعيبها} مسبب عن خوف الغصب عليها فكان حقه أن يتأخر عن السبب فلم قدم عليه؟ قلت: النية به التأخير، وإنما قدم للعناية ولأن خوف الغصب ليس هو السبب وحده، ولكن مع كونها {لمساكين} فكان بمنزلة قولك: زيد ظني مقيم.
وقيل في قراءة أبيّ وعبد الله كل سفينة صالحة انتهى.
ومعنى {أن أعيبها} بخرقها.
وقرأ الجمهور: {وراءهم} وهو لفظ يطلق على الخلف وعلى الأمام، ومعناه هنا أمامهم.
وكذا قرأ ابن عباس وابن جبير.
وكون {وراءهم} بمعنى أمامهم قول قتادة وأبي عبيد وابن السكيت والزجاج، ولا خلاف عند أهل اللغة أن وراء يجوز بمعنى قدام، وجاء في التنزيل والشعر قال تعالى: {من ورائه جهنم} وقال: {ومن ورائه عذاب غليظ} وقال: {ومن ورائهم برزخ} وقال لبيد:
أليس ورائي إن تراخت منيتي ** لزوم العصا يحني عليها الأصابع

وقال سوار بن المضرب السعدي:
أيرجو بنو مروان سمعي وطاعتي ** وقومي تميم والفلاة ورائيا

وقال آخر:
أليس ورائي أن أدب على العصا ** فتأمن أعداء وتسأمني أهلي

وقال ابن عطية: وقوله: {وراءهم} عندي هو على بابه، وذلك أن هذه الالفاظ إنما تجيء يراعى بها الزمن، والذي يأتي بعد هو الوراء وهو ما خلف، وذلك بخلاف ما يظهر بادي الرأي، وتأمل هذه الألفاظ في مواضعها حيث وردت تجدها تطرد، فهذه الآية معناها أن هؤلاء وعملهم وسعيهم يأتي بعده في الزمن غصب هذا الملك، ومن قرأ: {أمامهم} أراد في المكان أي إنهم كانوا يسيرون إلى بلده وقوله تعالى في التوراة والإنجيل إنها بين يدي القرآن، مطرد على ما قلناه في الزمن.
وقوله: {من ورائهم جهنم} مطرد كما قلنا من مراعاة الزمن.
وقول النبيّ صلى الله عليه وسلم: «الصلاة أمامك» يريد في المكان، وإلاّ فكونهم في ذلك الوقت كان أمام الصلاة في الزمن.
وتأمل هذه المقالة فإنها مريحة من شغب هذه الألفاظ ووقع لقتادة في كتب الطبري {وكان وراءهم ملك}.
قال قتادة: أمامهم ألا ترى أنه يقول: {من ورائهم جهنم} وهي من بين أيديهم، وهذا القول غير مستقيم وهذه هي العجة التي كان الحسن بن أبي الحسن يضج منها قاله الزجّاج.
ويجوز أن كان رجوعهم في طريقهم على الغاصب فكان وراءهم حقيقة انتهى.
وهو كلام فيه تكثير وكأنه ينظر إلى ما قاله الفراء.
قال الفراء: لا يجوز أن يقال للرجل بين يديك هو وراءك، إنما يجوز ذلك في المواقيت من الليالي والأيام والدهر تقول: وراءك برد شديد، وبين يديك برد شديد جاز الوجهان لأن البرد إذا لحقك صار من ورائك، وكأنك إذا بلغته صار بين يديك.
قال: إنما جاز هذا في اللغة لأن ما بين يديك وما قدامك إذا توارى عنك فقد صار وراءك.
وقال أبو علي: إنما جاز استعمال وراء بمعنى أمام على الاتساع لأنها جهة مقابلة لجهة فكانت كل واحدة من الجهتين وراء الأخرى إذا لم يرد معنى المواجهة، ويجوز ذلك في الأجرام التي لا وجه لها مثل حجرين متقابلين كل واحد منهما وراء الآخر، وأكثر أهل اللغة على أن وراء من الأضداد انتهى.
قيل: واسم هذا الملك هدد بن بدد وكان كافرًا، وقيل: الجلندي ملك غسان، وقوله: {فكان أبواه مؤمنين} في هذا حذف وهو أن المعنى وكان كافرًا وكذا وجد في مصحف أبيّ.
وقرأ ابن عباس: {وأما الغلام فكان} كافرًا وكان {أبواه مؤمنين} ونص في الحديث على أنه كان كافرًا مطبوعًا على الكفر، ويراد بأبويه أبوه وأمه ثنى تغليبًا من باب القمرين في القمر والشمس، وهي تثنية لا تنقاس.
وقرأ أبو سعيد الخدري والجحدري: فكان أبواه مؤمنان، فخرجه الزمخشري وابن عطية وأبو الفضل الرازي على أن في كان ضمير الشأن، والجملة في موضع خبر لكان، وأجاز أبو الفضل الرازي على أن في كل ضمير الشأن والجملة في موضع خبر لكان، وأجاز أبو الفضل الرازي أن يكون مؤمنان على لغة بني الحارث بن كعب، فيكون منصوبًا، وأجاز أيضًا أن يكون في كان ضمير الغلام والجملة خبر كان.
{فخشينا} أي خفنا أن يغشى الوالدين المؤمنين {طغيانًا} عليهما {وكفرًا} لنعمتهما بعقوقه وسوء صنيعه، ويلحق بهما شرًا وبلاءً، أو يقرن بإيمانهما طغيانه وكفرة، فيجتمع في بيت واحد مؤمنان، وطاغ كافر أو يعديهما بدائه ويضلهما بضلاله فيرتدا بسببه ويطغيا ويكفرا بعد الإيمان.
وإنما خشي الخضر منه ذلك لأن الله عز وعلا أعلمه بحاله وأطلعه على سرائر أمره وأمره بقتله كاخترامه لمفسدة عرفها في حياته.
وفي قراءة أُبيّ فخاف ربك، والمعنى فكره ربك كراهة من خاف سوء عاقبة الأمر فغيره.
ويجوز أن يكون قوله: {فخشينا} حكاية لقول الله عز وجل بمعنى فكرهنا كقوله: {لأهب لك} قاله الزمخشري.
وفي قوله كاخترامه لمفسدة عرفها في حياته مذهب المعتزلة في قولهم بالأجلين، والظاهر إسناد فعل الخشية في خشينا إلى ضمير الخضر وأصحابه الصالحين الذين أهمهم الأمر وتكلموا.