فصل: قال الشنقيطي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الشنقيطي:

قوله تعالى: {وَكَانَ وَرَاءَهُم مَّلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا} الآية.
ظاهر هذه الآية الكريمة- أن ذلك الملك يأخذ كل سفينة، صحيحة كانت أو معيبة. ولكنه يفهم من آية أخرى أنه لا يأخذ المعيبة، وهي قوله: {فَأَرَدتُّ أَنْ أَعِيبَهَا} [الكهف: 79] أي لئلا يأخذها، وذلك هو الحكمة في خرقه لهالمذكور في قوله: {حتى إِذَا رَكِبَا فِي السفينة خَرَقَهَا} [الكهف: 71] ثم بين أن قصده بخرقها سلامتها لأهلها من أخذ ذلك الملك الغاصب. لأن عيبها يزهده فيها. ولأجل ما ذكرنا كانت هذه الآية الكريمة مثالًا عند علماء العربية لحذف النعت. أي وكان وراءهم ملك يأخذ كل سفينة صحيحة غير معينى بدليل ما ذكرنا. وقد قدمنا الشواهد العربية على ذلك في سورة: بني إسرائيل في الكلام على قوله تعالى: {وَإِن مِّن قَرْيَةٍ إِلاَّ نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ القيامة أَوْ مُعَذِّبُوهَا عَذَابًا شَدِيدًا} [الإسراء: 58] الآية. واسم ذلك الملك: هدد بن بدر: وقوله: {وراءهم} أي أمامهم كما تقدم في سورة إبراهيم. اهـ.

.قال الشعراوي:

{أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ}.
قوله: {لِمَسَاكِينَ} اللام هنا للملكية، يعني مملوكة لهم، وقد حسمتْ هذه الآيةُ الخلافَ بين العلماء حول تعريف الفقير والمسكين، وأيهما أشدّ حاجة من الآخر، وعليها فالمسكين: هو مَنْ يملك شيئا لا يكفيه، كهؤلاء الذين كانوا يملكون سفينة تعمل في البحر، وسماهم القرآن مساكين، أما الفقير: فهو مَنْ لا يملك شيئًا.
ومعنى: {يَعْمَلُونَ فِي البحر} [الكهف: 79] أي: مجال عملهم البحر، يعملون فيه بنقل الركاب أو البضائع، أو الصيد، أو خلافه.
وقوله: {فَأَرَدتُّ أَنْ أَعِيبَهَا} [الكهف: 79] المتكلم هنا هو الخِضْر عليه السلام فنسب إرادة عَيْب السفينة إلى نفسه، ولم ينسبها إلى الله تعالى تنزيهًا له تعالى عَمَّا لا يليق، أما في الخير فنسب الأمر إلى الله فقال: {فَأَرَادَ رَبُّكَ أَن يَبْلُغَآ أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا} [الكهف: 82] لذلك فإنه في نهاية القصة يُرجع كل ما فعله إلى الله فيقول: {وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي} [الكهف: 82] ثم يقول تعالى: {وَكَانَ وَرَاءَهُم مَّلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا} [الكهف: 79] كلمة: كل ترسم سُورًا كُليًا لا يترك شيئًا، فالمراد يأخْذ كل سفينة، سواء أكانت معيبة أم غير معيبة، لكن الحقيقة أنه يأخذ السفينة الصالحة للاستعمال فقط، ولا حاجةَ له في المعيبة الغير صالحة، وكأن في سياق الآية صفة مُقدَّرة: أي يأخذ كل سفينة صالحة غَصْبًا من صاحبها.
والغَصْب: ما أُخذ بغير الحق، عُنْوةً وقَهْرًا ومُصَادرة، وله صور متعددة منها مثلًا السرقة: وهي أَخْذ المال من حِرْزه خفية ككسر دولاب أو خزينة، ومنها الغَصْب: وهو أخْذ مال الغير بالقوة، وتحت سمعه وبصره، وفي هذه الحالة تحدث مقاومة ومشادة بين الغاصب والمغصوب.
ومنها الخطف: وهو أخْذ مال الغير هكذا علانية، ولكن بحيلةٍ ما، يخطف الشيء ويفرّ به دون أن تتمكّن من اللحاق به، فالخَطْفُ إذن يتم علانية ولكن دون مقاومة. ومنها الاختلاس: وهو أن تأخذ مال الغير وأنت مؤتمن عليه، والاختلاس يحدث خفية، ولا يخلو من حيلة تستره.
وما دام الأمر هنا غَصْبًا فلابد لمالك الشيء أنْ يقاوم ولو بعض مقاومة يدافع بها عن حَقِّه، وقد يتوسل إليه أنْ يترك له ماله، فالمسألة إذن فيها كلام وأخْذٌ وَرَدٌّ.
إذن: خَرْق السفينة في ظاهره اعتداء على ملك مُقوّم، وهذا منهيّ عنه شرعًا، لكن إذا كان هذا الاعتداء سيكون سببًا في نجاة السفينة كلها من الغاصب فلا بأس إذن، وسفينة معيبة خير من عدمها، ولو عَلِم موسى عليه السلام هذه الحكمة لَبادرَ هو إلى خَرْقها.
وما دام الأمر كذلك، فعلينا أن نُحوِّل السفينة إلى سفينة غير صالحة ونعيبها بخَرْقها، أو بخلْع لَوْح منها لنصرف نظر الملك المغتصب عن أَخْذها.
وكلمة {وَرَاءَهُم} هنا بمعنى أمامهم؛ لأن هذا الظالم كان يترصَّد للسفن التي تمر عليه، فما وجدها صالحة غصبها، فهو في الحقيقة أمامهم، على حَدِّ قوله تعالى: {مِّن وَرَآئِهِ جَهَنَّمُ ويسقى مِن مَّاءٍ صَدِيدٍ} [إبراهيم: 16] وهل جهنم وراءه أم أمامه؟
وتستعمل وراء بمعنى: بَعْد، كما في قوله تعالى: {فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِن وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ} [هود: 71].
وتأتي وراء بمعنى: غير. كما في قوله تعالى في صفات المؤمنين: {والذين هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إِلاَّ على أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ فَمَنِ ابتغى وَرَاءَ ذلك فأولئك هُمُ العادون} [المؤمنون: 5-7].
وفي قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} [النساء: 23] إلى.. {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَّا وَرَاءَ ذلكم} [النساء: 24]. وقد تستعمل وراء بمعنى خلف، كما في قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ الله مِيثَاقَ الذين أُوتُواْ الكتاب لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ} [آل عمران: 187].
إذن: كلمة {وَرَاءَ} جاءتْ في القرآن على أربعة معَانٍ: أمام، خلف، بعد، غير. وهذا مما يُميِّز العربية عن غيرها من اللغات، والملَكة العربية قادرة على أن تُميّز المعنى المناسب للسياق، فكلمة العَيْن مثلًا تأتي بمعنى العين الباصرة. أو: عين الماء، أو: بمعنى الذهب والفضة، وبمعنى الجاسوس. والسياق هو الذي يُحدد المعنى المراد.
ثم يقول الحق سبحانه في قرآنه عما أوضحه الخضر لموسى عليه السلام مما خفي عليه: {وَأَمَّا الغلام فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ}.
الغلام: الولد الذي لم يبلغ الحُلُم وسِنّ التكليف، وما دام لم يُكلَّف فما يزال في سِنِّ الطهارة والبراءة من المعاصي؛ لذلك لما اعترض موسى على قتله قال: {أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً} [الكهف: 74] أي: طاهرة، ولا شكَّ أن أخْذ الغلام في هذه السِّنِّ خَيْر له ومصلحة قبل أنْ تلوّثه المعاصي، ويدخل دائرة الحساب.
إذن: فطهارته هي التي دعتْنَا إلى التعجيل بأخذه. هذا عن الغلام، فماذا عن أبيه وأمه؟
يقول تعالى: {فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ} [الكهف: 80] وكثيرًا ما يكون الأولاد فتنة للآباء، كما قال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلاَدِكُمْ عَدُوًّا لَّكُمْ فاحذروهم} [التغابن: 14]والفتنة بالأولاد تأتي من حِرْص الآباء عليهم، والسعي إلى جعلهم في أحسن حال، وربما كانت الإمكانات غير كافية، فيُضطر الأب إلى الحرام من أجل أولاده. وقد عَلِم الحق سبحانه وتعالى أن هذا الغلام سيكون فتنة لأبويه، وهما مؤمنان ولم يُرِد الله تعالى لهما الفتنة، وقضى أن يقبضهما إليه على حال الإيمان.
وكأن قضاء الله جاء خيرًا للغلام وخيرًا للوالدين، وجميلًا أُسْدِي إلى كليْهما، وحكمة بالغة تستتر وراء الحدَث الظاهر الذي اعترض عليه موسى عليه السلام.
لذلك يُعَدُّ من الغباء إذا مات لدينا الطفل أو الغلام الصغير أَنْ يشتد الحزن عليه، وننعي طفولته التي ضاعتْ وشبابه الذي لم يتمتع به، ونحن لا ندري ما أُعِدَّ له من النعيم، لا ندري أن مَنْ أُخِذ من أولادنا قبل البلوغ لا يُحدِّد له مسكن في الجنة، لأنها جميعًا له، يجري فيها كما يشاء، ويجلس فيها أين أحب، يجلس عند الأنبياء وعند الصحابة، لا يعترضه أحد، ولذلك يُسمَّوْن «دعاميص الجنة».
ثم يقول تعالى: {فَخَشِينَآ أَن يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا} [الكهف: 80].
خشينا: خِفْنا. فالواحد منا يولد له ابن فيكون قرة عَيْن وسندًا، وقد يكون هذا الابن سببًا في فساد دين أبيه، ويحمله على الكذب والرشوة والسرقة، فهذا الابن يقود أباه إلى الجحيم، ومن الخير أن يبعد الله هذا الولد من طريق الوالد فلا يطغى.
{فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا (81)}.
ولا يفوت الخضر عليه السلام أن ينسب الخير هنا أيضًا إلى الله، فيقول: أنا أُحب هذا العمل وأريده، إنما الذي يُبدّل في الحقيقة هو الله تعالى: {فَأَرَدْنَآ أَن يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا} [الكهف: 81] فهذا الخير من الله، وما أنا إلا وسيلة لتحقيقه.
وقوله: {خَيْرًا مِّنْهُ زَكَاةً} [الكهف: 81] أي: طُهْرًا {وَأَقْرَبَ رُحْمًا} [الكهف: 81] لأنهما أرادا الولد لينفعهما في الدنيا، وليكون قُرَّة عَيْن لهما، ولما كانت الدنيا فاتنة لا بقاءَ لها، وقد ثبت في علمه تعالى أن هذا الولد سيكون فتنة لأبويْه، وسيجلب عليهما المعاصي والسيئات، وسيجرّهما إلى العذاب، كانت الرحمة الكاملة في أخذه بدل أنْ يتمتّعا به في الدنيا الفانية، ويشقيَا به في الآخرة الباقية.
ثم يقول الحق سبحانه: {وَأَمَّا الجدار فَكَانَ لِغُلاَمَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي المدينة}.
{لِغُلاَمَيْنِ} أي: لم يبلغا سِنَّ الرشْد، وفوق ذلك هما يتيمان.
وكان تحت هذا الجدار المائل كَنْز لهذين الغلامين الغير قادرين على تدبير شأنهما، ولك أنْ تتصوّر ما يحدث لو تهدَّم الجدار، وانكشف هذا الكنز، ولمع ذهبه أمام عيون هؤلاء القوم الذين عرفت صفاتهم، وقد منعوهما الطعام بل ومجرد المأْوى، إنَّ أقل ما يُوصفون به أنهم لِئَام لا يُؤتمنون على شيء. ولقد تعوَّدنا أن نعبر عن شدة الضياع بقولنا: ضياع الأيتام على موائد اللئام.
إذن: فلا شَكَّ أن ما قام به العبد الصالح من بناء الجدار وإقامته أو ترميمه يُعَدُ بمثابة صَفْعة لهؤلاء اللئام تناسب ما قابلوهم به من تنكُّر وسوء استقبال، وترد لهم الصَّاع صاعين حين حرمهم الخضر من هذا الكنز.
فعلَّة إصلاح الجدار ما كان تحته من مال يجب أنْ يحفظ لحين أنْ يكبُرَ هذان الغلامان ويتمكنا من حفظه وحمايته في قرية من اللئام. وكأن الحق سبحانه وتعالى أرسله لهذين الغلامين في هذا الوقت بالذات، حيث أخذ الجدار في التصدُّع، وظهرت عليه علامات الانهيار ليقوم بإصلاحه قبل أنْ يقع وينكشف أمر الكنز وصاحبيه في حال الضعف وعدم القدرة على حمايته.
ثم إن العبد الصالح أصلح الجدار ورَدَّه إلى ما كان عليه رَدَّ مَنْ علَّمه الله من لَدُنْه، فيقال: إنه بنَاهُ بناءً موقوتًا يتناسب وعُمْرَ الغلامين، وكأنه بناه على عمر افتراضي ينتهي ببلوغ الغلامين سِنَّ الرشْد والقدرة على حماية الكنز فينهار. وهذه في الواقع عملية دقيقة لا يقدر على حسابها إلا مَنْ أُوتِي علمًا خاصًا من الله تعالى.
ويبدو من سياق الآية أنهما كانا في سِنٍّ واحدة توأمين لقوله تعالى: {فَأَرَادَ رَبُّكَ أَن يَبْلُغَآ أَشُدَّهُمَا} [الكهف: 82] أي: سويًا، ومعنى الأشُدّ: أي القوة، حيث تكتمل أجهزة الجسم وتستوي، وأجهزة الجسم تكتمل حينما يصبح المرء قادرًا على إنجاب مثله.
وتلاحظ أن الحق سبحانه وتعالى قال هنا: {يَبْلُغَآ أَشُدَّهُمَا} [الكهف: 82] ولم يقُلْ رُشْدهما، لأنْ هناك فرْقًا بين الرُّشْد والأَشُدّ فالرُّشْد: حُسْن التصرُّف في الأمور، أما الأشُدَّ: فهو القوة، والغلامان هنا في حاجة إلى القوة التي تحمي كَنْزهما من هؤلاء اللئام فناسب هنا {أَشُدَّهُمَا} [الكهف: 82]ثم يقول تعالى: {وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ} [الكهف: 82] أي: يستخرجاه بما لديهما من القوة والفُتوَّة. والرحمة: صفة تُعطَى للمرحوم لتمنعه من الداء، كما في قوله تعالى: {وَنُنَزِّلُ مِنَ القرآن مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ} [الإسراء: 82] فقوله: شفاء: أي: يشفي داءً موجودًا ويُبرِئه. ورحمة: أي رحمة تمنع عودة الداء مرة أخرى.
وكذلك ما حدث لهذين الغلامين، كان رحمة من الله لحماية مالهما وحِفْظ حقِّهما، ثم لم يَفُتْ العبد الصالح أنْ يُرجِع الفضل لأهله، وينفي عن نفسه الغرور بالعلم والاستعلاء على صاحبه، فيقول: {وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي} [الكهف: 82] أي: أن ما حدث كان بأمر الله، وما علَّمتك إياه كان من عند الله، فليس لي مَيْزة عليك، وهذا درس في أَدب التواضع ومعرفة الفضْل لأهله.
ثم يقول: {ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِع عَّلَيْهِ صَبْرًا} [الكهف: 82] تأويل: أي إرجاع الأمر إلى حقيقته، وتفسير ما أشكل منه. اهـ.