فصل: قال أبو حيان:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وقال القتبيّ: ويجوز أن تكون هذه العين من البحر، ويجوز أن تكون الشمس تغيب وراءها أو معها أو عندها، فيقام حرف الصفة مقام صاحبه؛ والله أعلم.
{وَوَجَدَ عِندَهَا قَوْمًا} أي عند العين، أو عند نهاية العين، وهم أهل جاَبَرْس، ويقال لها بالسريانية: جرجيسا؛ يسكنها قوم من نسل ثمود بقيتهم الذين آمنوا بصالح؛ ذكره السُّهيليّ.
وقال وهب بن منبّه: كان ذو القرنين رجلًا من الروم ابن عجوز من عجائزهم ليس لها ولد غيره وكان اسمه الإسكندر، فلما بلغ وكان عبدًا صالحًا قال الله تعالى: يا ذا القرنين! إني باعثك إلى أمم الأرض وهم أمم مختلفة ألسنتهم، وهم أمم جميع الأرض، وهم أصناف: أمتان بينهما طول الأرض كله، وأمتان بينهما عرض الأرض كله، وأمم في وسط الأرض منهم الجن والإنس ويأجوج ومأجوج؛ فأما اللتان بينهما طول الأرض فأمة عند مغرب الشمس يقال لها ناسك، وأما الأخرى فعند مطلعها ويقال لها منسك.
وأما اللتان بينهما عرض الأرض فأمة في قطر الأرض الأيمن يقال لها هاويل؛ وأما الأخرى التي في قطر الأرض الأيسر يقال لها تأويل.
فقال ذو القرنين: إلهي! قد ندبتني لأمر عظيم لا يقدر قدره إلا أنت؛ فأخبرني عن هذه الأمم بأي قوّة أكاثرهم؟ وبأي صبر أقاسيهم؟ وبأي لسان أناطقهم؟ فكيف لي بأن أفقه لغتهم وليس عندي قوّة؟ فقال الله تعالى: سأظفرك بما حملتك؛ أشرح لك صدرك فتسمع كل شيء، وأثبت لك فهمك فتفقه كل شيء، وألبسك الهيبة فلا يروعك شيء، وأسخر لك النور والظلمة فيكونان جندًا من جنودك، يهديك النور من أمامك، وتحفظك الظلمة من ورائك؛ فلما قيل له ذلك سار بمن اتبعه، فانطلق إلى الأمة التي عند مغرب الشمس؛ لأنها كانت أقرب الأمم منه وهي ناسك، فوجد جموعًا لا يحصيها إلا الله تعالى وقوة وبأسًا لا يطيقه إلا الله، وألسنة مختلفة، وأهواء مُتشتِّتة، فكاثرهم بالظّلمة؛ فضرب حولهم ثلاث عساكر من جند الظلمة قدر ما أحاط بهم من كل مكان، حتى جمعتهم في مكان واحد، ثم دخل عليهم بالنور فدعاهم إلى الله تعالى وإلى عبادته، فمنهم من آمن به ومنهم من كفر وصدّ عنه، فأدخل على الذين تولوا الظلمة فغشيتهم من كل مكان، فدخلت إلى أفواههم وأنوفهم وأعينهم وبيوتهم وغشيتهم من كل مكان، فتحيروا وماجوا وأشفقوا أن يهلكوا، فعجّوا إلى الله تعالى بصوت واحد: إنا آمنا؛ فكشفها عنهم، وأخذهم عنوة، ودخلوا في دعوته، فجنّد من أهل المغرب أممًا عظيمة فجعلهم جندًا واحدًا، ثم انطلق بهم يقودهم، والظلمة تسوقهم وتحرسه من خلفه، والنور أمامه يقوده ويدله، وهو يسير في ناحية الأرض اليمنى يريد الأمة التي في قطر الأرض الأيمن وهي هاويل، وسخر الله تعالى يده وقلبه وعقله ونظره فلا يخطىء إذا عمل عملًا، فإذا أتوا مخاضة أو بحرًا بنى سفنًا من ألواح صغار مثل النعال فنظمها في ساعة، ثم جعل فيها جميع من معه من تلك الأمم، فإذا قطع البحار والأنهار فَتَقها ودفع إلى كل رجل لوحًا فلا يكترث بحمله، فانتهى إلى هاويل وفعل بهم كفعله بناسك فآمنوا، ففرغ منهم، وأخذ جيوشهم وانطلق إلى ناحية الأرض الأخرى حتى انتهى إلى منسك عند مطلع الشمس، فعمل فيها وجند منها جنودًا كفعله في الأولى، ثم كَرَّ مقبلًا حتى أخذ ناحية الأرض اليسرى يريد تأويل، وهي الأمة التي تقابل هاويل بينهما عرض الأرض، ففعل فيها كفعله فيما قبلها، ثم عطف إلى الأمم التي في وسط الأرض من الجن والإنس ويأجوج ومأجوج، فلما كان في بعض الطريق مما يلي منقطع الترك من المشرق قالت له أمة صالحة من الإنس: يا ذا القرنين! إن بين هذين الجبلين خلقًا من خلق الله تعالى كثيرًا ليس لهم عدد، وليس فيهم مشابهة من الإنس، وهم أشباه البهائم؛ يأكلون العشب، ويفترسون الدواب والوحش كما تفترسها السباع، ويأكلون حشرات الأرض كلها من الحيات والعقارب والوزغ وكل ذي روح مما خلق الله تعالى في الأرض، وليس لله تعالى خلق ينمو نماءهم في العام الواحد، فإن طالت المدة فسيملأون الأرض، ويُجلون أهلها منها، فهل نجعل لك خَرْجًا على أن تجعل بيننا وبينهم سدًا؟ وذكر الحديث؛ وسيأتي من صفة يأجوج ومأجوج والترك إذ هم نوع منهم ما فيه كفاية.
قوله تعالى: {قُلْنَا ياذا القرنين} قال القشيري أبو نصر: إن كان نبيًا فهو وحي، وإن لم يكن نبيًا فهو إلهام من الله تعالى.
{إِمَّآ أَن تُعَذِّبَ وَإِمَّآ أَن تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا} قال إبراهيم بن السريّ: خَيَّره بين هذين كما خَيَّر محمدًا صلى الله عليه وسلم فقال: {فَإِن جَاءُوكَ فاحكم بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ} [المائدة: 42] ونحوه.
وقال أبو إسحاق الزجاج: المعنى أن الله تعالى خيره بين هذين الحكمين؛ قال النحاس: وردّ علي بن سليمان عليه قوله؛ لأنه لم يصح أن ذا القرنين نبي فيخاطب بهذا، فكيف يقول لربه عز وجل: {ثم يردّ إلى ربه}؟ وكيف يقول: {فسوف نعذبه} فيخاطب بالنون؟ قال: التقدير؛ قلنا يا محمد قالوا يا ذا القرنين.
قال أبو جعفر النحاس: هذا الذي قاله أبو الحسن لا يلزم منه شيء.
أما قوله: {قلنا يا ذا القرنين} فيجوز أن يكون الله عز وجل خاطبه على لسان نبي في وقته، ويجوز أن يكون قال له هذا كما قال لنبيه: {فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً} [محمد: 4]، وأما إشكال {فسوف نعذبه ثم يردّ إلى ربهِ} فإن تقديره أن الله تعالى لما خَيَّره بين القتل في قوله تعالى: {إِمَّآ أَن تُعَذِّبَ} وبين الاستبقاء في قوله جل وعز: {وَإِمَّآ أَن تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا} قال لأولئك القوم: {أَمَّا مَن ظَلَمَ} أي أقام على الكفر منكم: {فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ} أي بالقتل: {ثُمَّ يُرَدُّ إلى رَبِّهِ} أي يوم القيامة: {فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُّكْرًا} أي شديدًا في جهنم: {وَأَمَّا مَنْ آمَنَ} أي تاب من الكفر: {وَعَمِلَ صَالِحًا} قال أحمد بن يحيى: {أن} في موضع نصب في: {إما أن تعذب وإما أن تتخذ فيهم حسنًا} قال: ولو رفعت كان صوابًا بمعنى فإمّا هو، كما قال:
فسيرا فإما حاجة تقضيانها ** وإما مقيلٌ صالحٌ وصديقُ

{فَلَهُ جَزَاءُ الحسنى} قراءة أهل المدينة وأبي عمرو وعاصم {فَلَهُ جَزَاءُ الحسنى} بالرفع على الابتداء أو بالاستقرار.
و{الحسنى} في موضع خفض بالإضافة ويحذف التنوين للإضافة؛ أي له جزاء الحسنى عند الله تعالى في الآخرة وهي الجنة، فأضاف الجزاء إلى الجنة، كقوله: {حَقُّ اليقين} [الواقعة: 95]، {وَلَدَارُ الآخرة} [يوسف: 109]؛ قاله الفراء.
ويحتمل أن يريد بـ: {الحسنى} الأعمال الصالحة.
ويمكن أن يكون الجزاء من ذي القرنين؛ أي أعطيه وأتفضل عليه.
ويجوز أن يحذف التنوين لالتقاء الساكنين ويكون {الحسنى} في موضع رفع على البدل عند البصريين، وعلى الترجمة عند الكوفيين، وعلى هذا قراءة ابن أبي إسحاق {فَلَهُ جَزَاءٌ الْحُسْنَى} إلا أنك لم تحذف التنوين، وهو أجود.
وقرأ سائر الكوفيين {فَلَهُ جَزَاءً الحسنى} منصوبًا منونًا؛ أي فله الحسنى جزاءً.
قال الفراء: {جزاءً} منصوب على التمييز.
وقيل: على المصدر؛ وقال الزجاج: هو مصدر في موضع الحال؛ أي مجزيًا بها جزاء.
وقرأ ابن عباس ومسروق {فَلَهُ جَزَاءَ الْحُسْنَى} منصوبًا غير منون.
وهي عند أبي حاتم على حذف التنوين لالتقاء الساكنين مثل {فَلَهُ جَزَاءُ الْحُسْنَى} في أحد الوجهين في الرّفع.
النحاس: وهذا عند غيره خطأ لأنه ليس موضع حذف تنوين لالتقاء الساكنين، ويكون تقديره: فله الثواب جزاءَ الحسنى. قوله تعالى: {ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا} تقدّم معناه أن أتبع واتّبع بمعنى، أي سلك طريقًا ومنازل. {حتى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشمس} وقرأ مجاهد وابن محيصن بفتح الميم واللام؛ يقال: طَلعَت الشمسُ والكواكب طُلوعًا ومطلَعًا. والمطلَع والمطلِع أيضًا موضع طلوعها؛ قاله الجوهري.
المعنى أنه انتهى إلى موضع قوم لم يكن بينهم وبين مطلع الشمس أحد من الناس. والشمس تطلع وراء ذلك بمسافة بعيدة، فهذا معنى قوله تعالى: {وَجَدَهَا تَطْلُعُ على قَوْمٍ}. وقد اختلف فيهم؛ فعن وهب بن منبه ما تقدّم، وأنها أمة يقال لها منسك وهي مقابلة ناسك؛ وقاله مقاتل. وقال قتادة: يقال لهما الزنج.
وقال الكلبي: هم تارس وهاويل ومنسك؛ حفاة عراة عماة عن الحق، يتسافدون مثل الكلاب، ويتهارجون تهارج الحمر. وقيل: هم أهل جَابَلْق، وهم من نسل مؤمني عاد الذين آمنوا بهود، ويقال لهم بالسريانية مرقيسا. والذين عند مغرب الشمس هم أهل جَابَرْس؛ ولكل واحدة من المدينتين عشرة آلاف باب، بين كل بابين فرسخ. ووراء جَابَلْق أمم، وهم تافيل وتارس، وهم يجاورون يأجوج ومأجوج.
وأهل جَابَرْس وجَابَلْق آمنوا بالنبي عليه الصلاة والسلام؛ مر بهم ليلة الإسراء فدعاهم فأجابوه، ودعا الأمم الآخرين فلم يجيبوه؛ ذكره السهيلي وقال: اختصرت هذا كله من حديث طويل رواه مقاتل بن حيان عن عكرمة عن ابن عباس عن النبيّ صلى الله عليه وسلم. ورواه الطبري مسندًا إلى مقاتل يرفعه؛ والله أعلم.
قوله تعالى: {لَّمْ نَجْعَل لَّهُمْ مِّن دُونِهَا سِتْرًا} أي حجابًا يستترون منها عند طلوعها. قال قتادة: لم يكن بينهم وبين الشمس ستر؛ كانوا في مكان لا يستقر عليه بناء، وهم يكونون في أسراب لهم، حتى إذا زالت الشمس عنهم رجعوا إلى معايشهم وحروثهم؛ يعني لا يستترون منها بكهف جبل ولا بيت يكنهم منها.
وقال أمية: وجدت رجالًا بسمرقند يحدّثون الناس، فقال بعضهم: خرجت حتى جاوزت الصين، فقيل لي: إن بينك وبينهم مسيرة يوم وليلة، فاستأجرت رجلًا يرينيهم حتى صبحتهم، فوجدت أحدهم يفترش أذنه ويلتحف بالأخرى، وكان صاحبي يحسن كلامهم، فبتنا بهم، فقالوا: فيم جئتم؟ قلنا: جئنا ننظر كيف تطلع الشمس؛ فبينا نحن كذلك إذ سمعنا كهيئة الصلصلة، فغشي عليّ، ثم أفقت وهم يمسحونني بالدهن، فلما طلعت الشمس على الماء إذا هي على الماء كهيئة الزيت، وإذا طرف السماء كهيئة الفسطاط، فلما ارتفعت أدخلوني سربًا لهم، فلما ارتفع النهار وزالت الشمس عن رؤوسهم خرجوا يصطادون السمك، فيطرحونه في الشمس فينضج.
وقال ابن جريج: جاءهم جيش مرة، فقال لهم أهلها: لا تطلع الشمس وأنتم بها، فقالوا: ما نبرح حتى تطلع الشمس.
قالوا: ما هذه العظام؟ قالوا: هذه والله عظام جيش طلعت عليهم الشمس هاهنا فماتوا. قال: فولوا هاربين في الأرض. وقال الحسن: كانت أرضهم لا جبل فيها ولا شجر، وكانت لا تحمل البناء، فإذا طلعت عليهم الشمس نزلوا في الماء، فإذا ارتفعت عنهم خرجوا، فيتراعون كما تتراعى البهائم. قلت: وهذه الأقوال تدل على أن لا مدينة هناك. والله أعلم. وربما يكون منهم من يدخل في النهر، ومنهم من يدخل في السّرب فلا تناقض بين قول الحسن وقتادة. اهـ.

.قال أبو حيان:

{وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْرًا (83)}.
الضمير في {ويسألونك} عائد على قريش أو على اليهود، والمشهور أن السائلين قريش حين دستها اليهود على سؤاله عن الروح، والرجل الطواف، وفتية ذهبوا في الدهر ليقع امتحانه بذلك.
وذو القرنين هو الإسكندر اليوناني ذكره ابن إسحاق.
وقال وهب: هو رومي وهل هو نبيّ أو عبد صالح ليس بنبي قولان.
وقيل: كان ملَكًا من الملائكة وهذا غريب.
قيل: ملك الدنيا مؤمنان سليمان وذو القرنين، وكافران نمروذ وبخت نصر، وكان بعد نمروذ.
وعن عليّ كان عبدًا صالحًا ليس بملك ولا نبيّ ضرب على قرنه الأيمن فمات في طاعة الله ثم بعثه الله فضرب على قرنه الأيسر فمات، فبعثه الله فسمي ذا القرنين.
وقيل: طاف قرني الدنيا يعني جانبيها شرقها وغربها.
وقيل: كان له قرنان أي ضفيرتان.
وقيل: انقرض في وقته قرنان من الناس.
وعن وهب لأنه ملك الروم وفارس وروى الروم والترك وعنه كانت صفيحتا رأسه من نحاس.
وقيل: كان لتاجه قرنان.
وقيل: كان على رأسه ما يشبه القرنين.
قال الزمخشري: ويجوز أن يسمى بذلك لشجاعته كما يسمى الشجاع كبشًا كأنه ينطح أقرانه، وكان من الروم ولد عجوز ليس لها ولد غيره انتهى.
وقيل غير ذلك في تسميته ذا القرنين والمشهور أنه الإسكندر.
وقال أبو الريحان البيروتي المنجم صاحب كتاب الآثار الباقية عن القرون الخالية: هو أبو بكر بن سمي بن عمير بن إفريقس الحميري، بلغ ملكه مشارق الأرض ومغاربها وهو الذي افتخر به أحد الشعراء من حمير حيث قال:
قد كان ذو القرنين قبلي مسلمًا ** ملكًا علا في الأرض غير مبعد

بلغ المشارق والمغارب يبتغي ** أسباب ملك من كريم سيد

قال أبو الريحان: ويشبه أن يكون هذا القول أقرب لأن الأذواء كانوا من اليمن وهم الذين لا تخلوا أسماؤهم من ذي كذي المنار، وذي يواس انتهى.
والشعر الذي أنشده نسب أيضًا إلى تبع الحميري وهو:
قد كان ذو القرنين جدي مسلمًا

وعن عليّ وابن عباس أن اسمه عبد الله بن الضحاك، وعن محمد بن عليّ بن الحسين عياش.
وعن أبي خيثمة هو الصعب بن جابر بن القلمس، وقيل: مرزبان بن مرزبة اليوناني من ولد يونان بن يافث، وعن عليّ هو من القرن الأول من ولد يافث بن نوح، وعن الحسن: كان بعد ثمود وكان عمره ألف سنة وستمائة.