فصل: قال القاسمي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وأخرج ابن جرير. وابن مردويه عن أبي بكرة الشفي أن رجلًا قال: يا رسول الله قد رأيت سد يأجوج ومأجوج قال: انعته لي قال كالبرد المحبر طريقة سوداء وطريقة حمراء قال: قد رأيته، والظاهر أن الرؤية بصرية لا منامية وهو أمر غريب إن صح الخبر، وأما ما ذكره بعضهم من أن الواثق بالله العباسي أرسل سلامًا الترجمان للكشف عن هذا السد فذهب جهة الشمال في قصة تطول حتى رآه ثم عاد، وذكر له من أمره ما ذكر فثقات المؤرخين على تضعيفه، وعندي أنه كذب لما فيه مما تأبى عنه الآية كما لا يخفى على الواقف عليه تفصيلًا. ولا يخفى لطف الإتيان بالتاء في استطاعوا هنا.
{قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي}.
{قَالَ} أي ذو القرنين لمن عنده من أهل تلك الديار وغيرهم {هذا} إشارة إلى السد، وقيل: إلى تمكنه من بنائه والفضل للمتقدم ليتحد مرجع الضمير المتأخر أي هذا الذي ظهر على يدي وحصل بمباشرتي من السد الذي شأنه ما ذكر من المتانة وصعوبة المنال {رَحْمَةً} أي أثر رحمة عظيمة وعبر عنه بها للمبالغة {مّن رَّبّى} على كافة العباد لاسيما على مجاوريه وكون السد رحمة على العباد ظاهر وإذا جعلت الإشارة إلى التمكن فكونه رحمة عليهم باعتبار أنه سبب لذلك، وربما يرجح المتقدم أيضًا باحتياج المتأخر إلى هذا التأويل وإن كان الأمر فيه سهلًا، وفي الإخبار عنه بما ذكر إيذان على ما قيل بأنه ليس من قبيل الآثار الحاصلة بمباشرة الخلق عادة بل هو إحسان إلهي محض وإن ظهر بالمباشرة، وفي التعرض لوصف الربوبية تربية معنى الرحمة، وقرأ ابن أبي عبلة {هذه رَحْمَةً} بتأنيث اسم الإشارة وخرج على أنه رعاية للخبر أو جعل المشار إليه القدرة والقوة على ذلك {فَإِذَا جَاء وَعْدُ رَبّى} أي وقت وعده تعالى فالكلام على حذف مضاف والإسناد إلى الوعد مجاز وهو لوقته حقيقة، ويجوز أن يكون الوعد بمعنى الموعود وهو وقته أو وقوعه فلا حذف ولا مجاز في الإسناد بل هناك مجاز في الطرف، والمراد من وقت ذلك يوم القيامة، وقيل: وقت خروج يأجوج ومأجوج، وتعقب بأنه لا يساعده النظم الكريم والمراد بمجيئه ما ينتظم مجيئه ومجىء مباديه من خروجهم وخروج الدجال ونزول عيسى عليه السلام ونحو ذلك لا دنو وقوعه فقط كما قال الزمخشري وغيره فإن بعض الأمور التي ستحكي تقع بعد مجيئه حتمًا {جَعَلَهُ} أي السد المشار إليه مع متانته ورصانته {دَكَّاء} بألف التأنيث الممدودة والموصوف مؤنث مقدر أي أرضًا مستوية، وقال بعضهم: الكلام على تقدير مضاف أي مثل دكاء وهي ناقة لا سنام لها ولابد من التقدير لأن السد مذكر لا يوصف بمؤنث، وقرأ غير الكوفيين دكًا على أنه مصدر دككته. وهو بمعنى المفعول أي مدكوكًا مسوى بالأرض أو على ظاهره والوصف به للمبالغة، والنصب على أنه مفعول ثان لجعل وهي بمعنى صير، وزعم ابن عطية أنها بمعنى خلق وليس بشيء وهذا الجعل وقت مجىء الوعد بمجىء بعض مباديه وفيه بيان لعظم قدرته تعالى شأنه بعد بيان سعة رحمته عز وجل وكان علمه بهذا الجعل على ما قيل من توابع علمه بمجىء الساعة إذ من مباديها دك الجبال الشامخة الراسخة ضرورة أنه لا يتم بدونها واستفادته العلم بمجيئها ممن كان في عصره من الأنبياء عليهم السلام، ويجوز أن يكون العلم بجميع ذلك بالسماع من النبي وكذا العلم بمجىء وقت خروجهم على تقدير أن يكون ذلك مرادًا من الوعد يجوز أن يكون عن اجتهاد ويجوز أن يكون عن سماع وفي كتاب حزقيال عليه السلام الإخبار بمجيئهم في آخر الزمان من آخر الجربياء في أمم كثيرة لا يحصيهم إلا الله تعالى وإفسادهم في الأرض وقصدهم بيت المقدس وهلاكهم عن آخرهم في بريته بأنواع من العذاب وهو عليه السلام قبل اسكندر غالب دارا فإذا كان هو ذا القرنين فيمكن أن يكون وقف على ذلك فأفاده علمًا بما ذكر والله تعالى أعلم، ثم أن في الكلام حذفًا أي وهو يستمر إلى آخر الزمان فإذا جاء وعد ربي جعله دكاء {وَكَانَ وَعْدُ رَبّى} أي وعده سبحانه المعهود أو كل ما وعد عز وجل به فيدخل فيه ذلك دخولًا أوليًا {حَقًّا} ثابتًا لا محالة واقعًا البتة وهذه الجملة تذييل من ذي القرنين لما ذكره من الجملة الشرطية وتأكيد لمضمونها وهو آخر ما حكى عن قصته. اهـ.

.قال القاسمي:

{آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ} أي: ناولوني قطعه: {حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ} أي: بين جانبي الجبلين: {قَالَ انْفُخُوا} أي: في الأكوار والحديد: {حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ} أي: المنفوخ فيه: {نَارًا} أي: كالنار بالإحماء: {قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا} أي: نحاسًا مذابًا ليلصق بالحديد، ويتدعم البناء به ويشتد.
{فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ} أي: يعلوه بالصعود لارتفاعه وملاسته: {وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا} لثخنه وصلابته.
{قَالَ هَذَا} أي: السد: {رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي} على القاطنين عنده. لأمنهم من شر من سد عليهم به، ورحمة على غيرهم، لسد الطريق عليهم: {فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي} بدحره وخرابه: {جَعَلَهُ دَكَّاءَ} بالمد أي: أرضًا مستوية، وقرئ: {دكًّا} أي: مدكوكًا مسوًّا بالأرض {وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا} أي: كائنًا لا محالة. وهذا آخر حكاية قول ذي القرنين.
تنبيهات:
الأول: قدمنا أنه ليس في القرآن شيء من التاريخ من حيث هو قصص وأخبار. وإنما هي الآيات والعبر والأحكام والآداب تجلت في سياق الوقائع. ولذا يجب صرف العناية إلى وجوه تلك الفوائد والثمرات، وما يستنبط من تلك الآيات. وقد أشار نبأ ذي القرنين الإسكندر إلى فوائد شتى. نذكر ما فتح علينا منها، ونكل ما لم نحط به علمًا إلى العليم الخبير.
فَمنْ فََوائِدِهَا: الاعتبار برفع الله بعض الناس درجات على بعض. ورزقه من يشاء بغير حساب ملكًا ومالًا. لما له من خفي الحكم وباهر القدرة. فلا إله سواه.
ومنها: الإشارة إلى القيام بالأسباب، والجري وراء سنة الله في الكون من الجد والعمل. وأن على قدر بذل الجهد يكون الفوز والظفر فإن ما قص عن الإسكندر من ضربه في الأرض إلى مغرب الشمس، ومطلعها وشمالها وعدم فتوره ووجدانه اللذة في مواصلة الأسفار وتجشم الأخطار، وركوب الأوعار والبحار، ثم إحرازه ذلك الفخار، الذي لا يشق له غبار، أكبر عبرة لأولي الأبصار.
ومنها: تنشيط الهمم لرفع العوائق. وأنه ما تيسرت الأسباب، فلا ينبغي أن يعد ركوب البحر ولا اجتياز القفر، عذرا في الخمول والرضاء بالدون. بل ينبغي أن ينشط ويمثل في مرارته، حلاوة عقباه من الراحة والهناء. كما قضى الإسكندر عمره ولم يذق إلا حلاوة الظفر ولذة الانتصار: إذ لم يكن من الذين تقعدهم المصاعب عن نيل ما يبتغون.
ومنها: وجوب المبادرة لمعالي الأمور من الحداثة. إذ من الخطأ التسويف فيه إلى الاكتهال. فإن الإسكندر لما تبوأ ملك أبيه كان في حدود العشرين من عمره.
وأتى ما أتى وهو في ريعان الشباب وقوة الفناء. فهاجم أعظم ملوك عصره وأكبر جيوشهم. كأنه القضاء المبرم. ولم يقف في وجه عدد ولا عُدد. وخاض غمرات الردى غير هياب ولا وجل. وأضاف كل العالم الشرقي إلى المملكة اليونانية وهو شاب. وقضى وهو في الثالثة والثلاثين من عمره، كما دوّنه محققو المؤرخين.
ومنها: أن من قدر على أعدائه وتمكن منهم، فلا ينبغي له أن تسكره لذة السلطة بسوقهم بعصا الإذلال، وتجريعهم غصص الاستعباد والنكال. بل يعامل المحسن بإحسانه والمسيء بقدر إساءته. فإن ما حكي عن الإسكندر من قوله: {قَالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ} [الكهف: 87]، إلى آخره، نهاية في العدل وغاية الإنصاف.
ومنها: أن على الملك، إذا اشتَكى إليه جور مجاورين، أن يبذل وسعه في الراحة والأمن، دفاعًا عن الوطن العزيز، وصيانة للحرية والتمدن، من مخالب التوحش والخراب، قيامًا بفريضة دفع المعتدين وإمضاء العدل بين العالمين. كما لبّى الإسكندر دعوة الشاكين في بناء السد. وقد أطبق المؤرخون على أنه بنى عدة حصون وأسوار، لرد غارات البرابرة، وصد هجماتهم.
ومنها: أن على الملك التعفف عن أموال رعيته، والزهد في أخذ أجرة، في مقابلة عمل يأتيه، ما أغناه الله عنه، ففي ذلك حفظ كرامته وزيادة الشغف بمحبته. كما تأبّى الإسكندر تفضلًا وتكرمًا.
ومنها: التحدث بنعمة الله تعالى إذا اقتضاه المقام. كقوله الإسكندر في مقام تعففه عن أموالهم، والشفقة عليهم: {مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ} [الكهف: 95] كقول سليمان: {فَمَا آتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتَاكُمْ} [النمل: 36]، وقد قيل: أن دخل الإسكندر من البلاد التي فتحها كان نحو ستين مليون ليرة إنكليزية.
ومنها: تدعيم الأسوار والحصون في الثغور، وتقويتها بذوب الرصاص وبوضع صفائح النحاس، خلال الصخور الصم، صدقًا قي العمل ونصحًا فيه. لينتفع به على تطاول الأجيال. فإن البناء غير الرصين لا ثمرة فيه.
ومنها: مشاطرة الملك العمال في الأعمال ومشارفتهم بنفسه إذا اقتضى الحال، تنشيطًا لمهمتهم وتجرئة لهم وترويحًا لقلوبهم. وقد كان الإسكندر يقاسم العمال الأتعاب. ويدير العمل بنفسه، كما بينه الذكر الحكيم في قوله: {آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا}.
ومنها: تعريف الغير ثمرة العمل المهم، ليعرفوا قدره فيظهروا شكره. ولذا قال: {هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي}.
ومنها الإعلام بالدور الأخروي، وانقضاء هذا الدور الأوليّ، لتبقى النفوس طامحة إلى ذلك العالم الباقي والنعيم السرمدي. ولذا قال: {فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي}.
ومنها: الاعتبار بتخليد جميل الثناء، وجليل الآثار. فإن من أنعم النظر فيما قص عنه في هذه الآيات الكريمة، يتضح له جليًا حسن سجاياه وسمو مزاياه. من الشجاعة وعلوّ الهمّة والعفّة والعدل. ودأبه على توطيد الأمن وإثابته المحسنين وتأديبه للظالمين. والإحسان إلى النوع البشري، ولاسيما في زمان كان فيه أكثر عوائد وأخلاق الأمم المتمدنة وغير المتمدنة، وحشية فاسدة.
ومنها: الاهتمام بتوحيد الكلمة لمن يملك أممًا متباينة. كما كان يرمي إليه سعى الإسكندر. فإنه دأب على توحيد الكلمة بين الشعوب ومزج تلك الأمم المختلفة ليربطها بصلات الحب والعوائد. وقد حكي أنه كان يجيّش من كل أمة استولى عليها، جيشًا عرمرمًا، يضيفه إلى جيشه المكدوني اليوناني. ويأمر رجاله أن يتزوجوا من بناتهم، لتوثيق عرى المحبة والارتباط، وإزالة البغض والشحناء.
ومنها: الاعتبار بما يبلغه الإنسان، وما فيه من بليغ الاستعداد. يقضي على المرء أن يعيش أولًا طفلًا مرضَعًا. لا يعلم ما حوله ولا يطلب غير ما تحتاج إليه طبيعته الضعيفة، قياما بما تقتضيه أسباب الحياة، وهو ملقى إذ ذاك لا إرادة له. وعرضة لأسقام تذيقه الآلام، وقد تجرعه كأس الحمام قبل أن يرى ويدرك شيئًا من هذا النظام. فإذا استظهرت فيه عوامل الحياة على دواعي الممات، وسرت بجسمه قوى الشبيبة، وصرف ما أنعم الله عليه، إلى ما خلق لأجله، ترعرع إنسانًا عظيمًا ظافرًا بمنتهى أمله.
التنبيه الثاني: في ذي القرنين. اتفق المحققون على أن اسمه الإسكندر بن فيليس، وقال ابن القيم في إغاثة اللهفان في الكلام على الفلاسفة: ومن ملوكهم الإسكندر المقدوني وهو ابن فيليس وليس بالإسكندر ذي القرنين الذي قص الله تعالى نبأه في القرآن بل بينهما قرون كثيرة وبينهما في الدين أعظم تباين.
فذو القرنين كان رجلًا صالحًا موحدًا لله تعالى يؤمن بالله تعالى وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر. وكان يغزو عبّاد الأصنام وبلغ مشارق الأرض ومغاربها. وبنى السد بين الناس وبين يأجوج ومأجوج. وأما هذا المقدوني، فكان مشركًا يعبد الأصنام هو وأهل مملكته. وكان بينه وبين المسيح نحو ألف وستمائة سنة. والنصارى تؤرخ له. وكان أرسطاطاليس وزيره. وكان مشركًا يعبد الأصنام. انتهى. كلامه.
وفيه نظر. فإن المرجع في ذلك هم أئمة التاريخ وقد أطبقوا على أنه الإسكندر الأكبر ابن فيليس باني الإسكندرية بتسعمائة وأربع وخمسين سنة قبل الهجرة، وثلاثمائة واثنين وثلاثين سنة قبل ميلاد عيسى عليه السلام. وقد أصبح ذلك من الأوليات عند علماء الجغرافيا. وأما دعوى أنه كان مشركًا يعبد الأصنام، فغير مسلم، وإن كان قومه وثنيين، لأنه كان تلميذًا لأرسطاطاليس. وقد جاء في ترجمته- كما في طبقات الأطباء وغيرها- أنه كان لا يعظم الأصنام التي كانت تعبد في ذلك الوقت وأنه بسبب ذلك نسب إلى الكفر وأريد السعاية به إلى الملك. فلما أحس بذلك شخص عن أثينا. لأنه كره أن يبتلى أهلها بمثل ما ابتلوا به سقراطيس معلم أفلاطون. فإنه كان من عبادهم ومتألهيهم. وجاهرهم بمخالفتهم في عبادة الأصنام. وقابل رؤساءهم بالأدلة والحجج على بطلان عبادتها. فثوّروا عليه العامة واضطروا الملك إلى قتله. فأودعه السجن ليكفهم عنه. ثم لم يرض المشركون إلا بقتله. فسقاه السم خوفًا من شرهم، بعد مناظرات طويلة جرت له معهم. كما في طبقات الأطباء وتراجم الفلاسفة فالوثنية، وإن كانت دين اليونانيين واعتقاد شعبهم، إلا أنه لا ينافي أن يكون الملك وخاصته على اعتقاد آخر يجاهرون به أو يكتمونه. كالنجاشيّ ملك الحبشة. فإنه جاهر بالإيمان بالنبيّ صلى الله عليه وسلم. وشعبهُ وأهل مملكته كلهم نصارى. وهكذا كان الإسكندر وأستاذه والحكماء قبله. فإن الممعن في تراجمهم يرى أنهم على توحيد وإيمان بالمعاد. قال القاضي صاعد: كان فيثاغورس- أستاذ سقراط- يقول ببقاء النفس وكونها، فيما بعد، في ثواب أو عقاب. على رأي الحكماء الإلهيين. فتأمل قوله على رأي الحكماء الإلهيين يتحقق ما ذكرناه.
وأما قول الفخر الرازيّ: إن في كون الإسكندر ذا القرنين إشكالًا قويًّا. وهو أنه كان تلميذ أرسطاطاليس الحكيم وكان على مذهبه، فتعظيم الله إياه يوجب الحكم بأن مذهب أرسطاطاليس حقّ وصدق. وذلك مما لا سبيل إليه فلا يخفى دفع هذا اللزوم. فإن من كان تابعًا لمذهب فمدح لأمر ما يوجب مدحه لأجله، فلا يلزم أن يكون المدح لأجل مذهبه ومتبوعه. إذ قد يقوم فيه من الخلال والمزايا ما لا يوجد في متبوعه. وقد يبدو له من الأنظار الصحيحة ما لا يكون في مذهبه الذي نشأ عليه مقلدًا. أفلا يمكن أن يكون حرًّا في فكره ينبذ التقليد الأعمى ويعتنق الحق. ومن آتاه الله من الملك ما آتاه، أفيمتنع أن يؤتيه من تنور الفكر وحرية الضمير ونفوذ البصيرة ما يخالف به متبوعه. هذا على فرض أن متبوعه مذموم. وقد عرفت أن متبوعه أعني: أرسطاطاليس، كان موحدًا. وهو معروف في التاريخ لا سترة فيه. على أنه لو استلزمت الآية مدح مذهب أستاذه لكان ذلك في الأصول التي هي المقصودة بالذات، وكفى بهما كمالا. وللرازيّ فرض يغتنم بها التنويه بالحكماء والتعريف لمذهبهم، وهذه منها. وإن صبغها- سامحه الله- في هذا الأسلوب. عرف ذلك من عرف.