فصل: من لطائف وفوائد المفسرين:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.من لطائف وفوائد المفسرين:

من لطائف القشيري في الآية:
قال عليه الرحمة:
قوله جلّ ذكره: {قُلْ هَلْ نُنبِّئُكُم بِالأَخْسَرِينَ أَعْمالًا الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ في الحَيَاةِ الدُّنْيَا}.
ضلَّ سعيُهم لأنهم عَمِلُوا لغيرِ اللَّهِ. وما كان لغيرِ الله فلا ينفع.
ويقال الذين ضلَّ سعيُهم هم الذين قَرَنُوا أعمالَهم بالرياء، ووصفوا أحوالَهم بالإعجاب، وأبطلوا إحسانهم بالملاحظات أو بالمَنِّ.
ويقال هم الذين يُلاحِظُون أعمالهم وما مِنْهُم بعينِ الاستكثار.
قوله جلّ ذكره: {وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا}.
لم يكونوا أصحاب التحقيق، فعَمِلوا من غير عِلْمٍ، ولم يكونوا على وثيقة.
{أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا (105)}.
عموا عن شهود الحقيقة فبقوا في ظلمة الجحد، فتفرَّقَتْ بهم الأوهام والظنون، ولم يكونوا على بصيرة، ولم تستقر قلوبُهم على عقيدة مقطوع بها؛ فليس لهم في الآخرة وزنٌ ولا خَطَرٌ، اليومَ هم كالأَنْعام، وغدًا واقعون ساقطونَ... الأقدام.
{ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِمَا كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَرُسُلِي هُزُوًا (106)}.
هم اليومَ في عقوبة الجحد، وغدًا في عقوبه الردِّ. اليوم هم في ذُلِّ الفراق، وغدًا في أليمِ الاحتراق. اهـ.

.تفسير الآيات (107- 110):

قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا (107) خَالِدِينَ فِيهَا لَا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا (108) قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا (109) قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا (110)}.

.مناسبة الآيات لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما بين ما لأحد قسمي أهل الجمع تنفيرًا عنهم، بين ما للآخر على تقدير الجواب لسؤال تقتضيه الحال ترغيبًا في اتباعهم والاقتداء بهم، فقال: {إن الذين ءامنوا} أي باشروا الإيمان {وعملوا} تصديقًا لإيمانهم {الصالحات} من الخصال {كانت لهم} لبناء أعمالهم على الأساس {جنات} أي بساتين {الفردوس} أي أعلى الجنة، وأصله البستان الذي هو الجنة بالحقيقة لانخفاض ما دونه عنه، وستر من يدخله بكثرة أشجاره {نزلًا} كما كان السعير والأغلال لأولئك نزلًا، يعد لهم حين الدخول {خالدين فيها} بعد دخولهم {لا يبغون} أي يريدون أدنى إرادة {عنها حولًا} أي تحولًا لأنه مزيد عليها، دفعًا لما قد يتوهم من أن الأمر كما في الدنيا من أن كل أحد في أيّ نعيم كان يشتهي ما هو أعلى منه لأن طول الإقامة قد يورث السآمة، بل هم في غاية الرضى بها، لما فيها من أنواع الملاذ التي لا حصر لها ولا انقضاء، لا يشتهي أحد منهم غير ما عنده سواء كان في الفردوس أو فيما دونه، وهو تعريض بالكفرة في أنهم يصطرخون في النار {ربنا أخرجنا منها} [المؤمنون: 107] وذلك عكس ما كان في الدنيا من ركون الكفار إليها، ومحبتهم في طول البقاء فيها، وعزوف المؤمنين عنها، وشوقهم إلى ربهم بمفارقتها.
ولما تم الجواب عن أسئلتهم على أحسن الوجوه مخللًا بما تراه من الحجج البينة والنفائس الملزمة لهم بفصل النزاع، وأتبع ذلك بقص الأمر الذي بإغفاله تجرؤوا على الكفر، وهو أمر البعث إلى أن ختمه بما يقتضي أن معلوماته لا تحد، لأن مقدوراته في تنعيم أهل الجنة لا آخر لها فلا تعد، وكان اليهود قد اعترضوا على قوله في أولها {وما أوتيتم من العلم إلا قليلًا} [الإسراء: 85] بأنهم أوتوا التوراة، وكان لكل ما سألوا عنه من الفصول الطويلة الذيول أمور تهول، وكان ربما قال قائل: ما له لا يزيد ذلك شرحًا؟ قال تعالى آمرًا بالجواب عن ذلك كله، معلمًا لهم بأنهم لا يمكنهم الوقوف على تمام شرح شيء من معلوماته، وآخر استفصال شيء من مقدوراته، قطعًا لهم عن السؤال، وتقريبًا إلى أفهامهم بضرب من المثال: {قل} أي يا أشرف الخلق لهم: {لو كان البحر} أي ماؤه على عظمته عندكم {مدادًا} وهو اسم لما يمد به الدواة من الحبر {لكلمات} أي لكتب كلمات {ربي} أي المحسن إليّ في وصف ذكر وغيره مما تعنتموه في السؤال عما سألتم عنه أو غير ذلك {لنفد} أي فني مع الضعف فناء لا تدارك له؛ لأنه جسم متناه.
ولما كانت المخلوقات- لكونها ممكنة- ليس لها من ذاتها إلا العدم، وكانت الكلمات من صفات الله، وصفات الله واجبة الوجود، فكان نفادها محالًا، فكان نفاد الممكن من البحر وما يمده بالنسبة إليها مستغرقًا للأزمنة كلها، جرد الظرف من حرف الجر فقال: {قبل أن تنفد} أي تفنى وتفرغ {كلمات ربي} لأنها لا تتناهى لأن معلوماته ومقدوراته لا تتناهى، وكل منها له شرح طويل، وخطب جليل؛ ولما لم يكن أحد غيره يقدر على إمداد البحر قال: {ولو جئنا} أي بما لنا من العظمة التي لا تكون لغيرنا {بمثله مددًا} أي له يكتب منه لنفد أيضًا، وهذا كله كناية عن عدم النفاد، لأنه تعليق على محال عادة كقولهم: لا تزال على كذا ما بل بحر صوفة وما دجى الليل، ونحو هذا، ولعله عبر بجمع السلامة إشارة إلى أن قليلها بهذه الكثرة فكيف بما هو أكثر منه، وذلك أمر لا يدخل تحت وصف، وعبر بالقبل دون أن يقال ولم تنفد ونحوه، لأن ذلك كاف في قطعهم عن الاستقصاء في السؤال ولأن التعبير بمثل ذلك ربما فتح بابًا من التعنت وهو أن يجعلوا الواو للحال فيجعلوا النفاد مقيدًا بذلك، وأما سورة لقمان فاقتضى سياقها في تأسيس ما فيها على {الغني الحميد} [لقمان: 26] ومقصودها أن يكون التعبير فيها بغير ما ههنا، فما في كل سورة أبلغ بالنسبة إلى سياقه، مع أنه ليس في إفصاح واحدة منهما ما يدل على نفاد الكلمات ولا عدمه، وفي إفهام كل منهما بتدبر القرائن في السياق وغيره ما يقطع بعدم نفاذها، ولا تخالف بين الآيتين وإن كان التعبير في هذه السورة أدخل في التشابه، ويجاب عنه بما قالوا في مثل قول الشاعر:
على لاحب لا يهتدى بمناره

من أن ما في حيز السلب لا يقتضي الوجود، ولعل التعبير بمثل ذلك من الفتن المميزة بين من في قلبه مرض وبين الراسخ الذي يرد المتشابه إلى المحكم، وهو ما دل عليه البرهان القاطع من أن الله تعالى لا نهاية لذاته، ولا لشيء من صفاته، بل هو الأول والآخر الباقي بلا زوال- والله أعلم.
ولما كانوا ربما قالوا: ما لك لا تحدثنا من هذه الكلمات بكل ما نسألك عنه حيثما سألناك؟ وكانوا قد استنكروا كون النبي بشرًا، وجوزوا كون الإله حجرًا، وغيوا إيمانهم به بأمور سألوه في الإتيان بها كما تقدم بعد أول مسائلهم، وهي الروح آخر سبحان، وكان قد ثبت بإجابتهم عن المسائل على هذا الوجه أنه رسول، أمره سبحانه أن يجيبهم عن ذلك كله بما يرد عليهم غلطهم، ويفضح شبههم، إرشادًا لهم إلى أهم ما يعنيهم من الحرف الذي النزاع كله دائر عليه وهو التوحيد فقال: {قل إنما أنا} أي في الاستمداد بالقدرة على إيجاد المعدوم والإخبار بالمغيب {بشر مثلكم} أي لا أمر لي ولا قدرة إلا على ما يقدرني عليه ربي، ولا استبعاد لرسالتي من الله فإن ذلك سنته فيمن قبلي {يوحى إليّ} أي من الله الذي خصني بالرسالة كما أوحى إلى الرسل قبلي ما لا غنى لأحد عن علمه واعتقاده {أنما إلهكم} وأشار إلى أن إلهيته بالإطلاق لا بالنظر إلى جعل جاعل ولا غير ذلك فقال: {إله واحد} أي لا ينقسم بمجانسة ولا غيرها، قادر على ما يريد، لا منازع له، لم يؤخر جواب ما سألتموني عنه من عجز ولا جهل ولا هوان بي عليه- هذا هو الذي يعني كلَ أحد علمه، وأما ما سألتم عنه من أمر الروح والقصتين تعنتًا فأمر لو جهلتموه ما ضركم جهله، وإن اتبعتموني علمتموه الآن وما دل عليه من أمر الساعة إيمانًا بالغيب علم اليقين، وعلمتموه بعد الموت بالمشاهدة عين اليقين، وبالمباشرة حق اليقين، وإن لم تتبعوني لم ينفعكم علمه {فمن} أي فتسبب عن وحدته المستلزمة لقدرته أنه من {كان يرجوا} أي يؤمن بمجازاته له على أعماله في الآخرة برؤيته وغيرها، وإنما قال: {لقاء ربه} تنبيهًا على أنه هو المحسن إلى كل أحد بالتفرد بخلقه ورزقه، لا شريك له في شيء من ذلك على قياس ما نعلمه من أنه لا مالك إلا وهو قاهر لمملوكه على لقائه، مصرف له في أوامره في صباحه ومسائه.
ولما كان الجزاء من جنس العمل، كان الواجب على العبد الإخلاص في عمله، كما كان عمل ربه في تربيته بالإيجاد وما بعده، فقال: {فليعمل} وأكده للإعلام بأنه لابد مع التصديق من الإقرار فقال: {عملًا} أي ولو كان قليلًا {صالحًا} وهو ما يأمره به من أصول الدين وفروعه من التوحيد وغيره من أعمال القلب والبدن والمال ليسلم من عذابه {ولا يشرك} أي وليكن ذلك العمل مبنيًا على الأساس وهو أن لا يشرك ولو بالرياء {بعبادة ربه أحدًا} فإذا عمل ذلك فاز فحاز علوم الدنيا والآخرة، وقد انطبق آخر السورة على أولها بوصف كلمات الله ثم ما يوحى إليه، وكل منهما أعم من الكتاب بالأقومية للدعاء إلى الحال الأسلم، في الطريق الأقوم، وهو التوحيد عن الشريك الأعم من الولد وغيره، والإحسان في العمل، مع البشارة لمن آمن، والنذارة لمن أعرض عن الآيات والذكر، فبان بذلك أن لله تعالى- بوحدانيته وتمام علمه وشمول قدرته صفات- الكمال، فصح أنه المستحق لجميع الحمد- والله الموفق، والحمد لله على إتمام سورة الكهف من كتاب نظم الدرر من تناسب الآي والسور. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا (107) خَالِدِينَ فِيهَا لَا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا (108)} في الآية مسائل:
المسألة الأولى:
اعلم أنه تعالى لما ذكر الوعيد أتبعه بالوعد، ولما ذكر في الكفار أن جهنم نزلهم، أتبعه بذكر ما يرغب في الإيمان والعمل الصالح.
فقال: {إِنَّ الذين ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات كَانَتْ لَهُمْ جنات الفردوس نُزُلًا}.
المسألة الثانية:
عطف عمل الصالحات على الإيمان والمعطوف مغاير للمعطوف عليه وذلك يدل على أن الأعمال الصالحة مغايرة للإيمان.
المسألة الثالثة:
عن قتادة الفردوس وسط الجنة وأفضلها، وعن كعب ليس في الجنان أعلى من جنة الفردوس، وفيها الأمرون بالمعروف والناهون عن المنكر، وعن مجاهد الفردوس هو البستان بالرومية، وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «الجنة مائة درجة ما بين كل درجتين مسيرة مائة عام والفردوس أعلاها درجة، ومنها الأنهار الأربعة والفردوس من فوقها، فإذا سألتم الله الجنة فاسألوه الفردوس فإن فوقها عرش الرحمن ومنها تتفجر أنهار الجنة».
المسألة الرابعة:
قال بعضهم إنه تعالى جعل الجنة بكليتها نزلًا للمؤمنين والكريم إذا أعطى النزل أولًا فلابد أن يتبعه بالخلعة وليس بعد الجنة بكليتها إلا رؤية الله، فإن قالوا: أليس أنه تعالى جعل في الآية الأولى جملة جهنم نزلا الكافرين ولم يبق بعد جملة جهنم عذاب آخر، فكذلك هاهنا جعل جملة الجنة نزلًا للمؤمنين مع أنه ليس له شيء آخر بعد الجنة، والجواب: قلنا للكافر بعد حصول جهنم مرتبة أعلى منها وهو كونه محجوبًا عن رؤية الله كما قال تعالى: {كَلاَّ إِنَّهُمْ عَن رَّبّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُواْ الجحيم} [المطففين: 15، 16] فجعل الصلاء بالنار متأخر في المرتبة عن كونه محجوبًا عن الله، ثم قال تعالى: {لاَ يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا} الحول التحول، يقال: حال من مكانه حولًا كقوله عاد في حبها عودًا يعني لا مزيد على سعادات الجنة وخيراتها حتى يريد أشياء غيرها، وهذا الوصف يدل على غاية الكمال لأن الإنسان في الدنيا إذا وصل إلى أي درجة كانت في السعادات فهو طامح الطرف إلى ما هو أعلى منها.
{قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا (109)}.
وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى:
اعلم أنه تعالى لما ذكر في هذه السورة أنواع الدلائل والبينات وشرح أقاصيص الأولين نبه على كمال حال القرآن فقال: {قُل لَّوْ كَانَ البحر مِدَادًا لكلمات رَبّى} والمداد اسم لما تمد به الدواة من الحبر ولما يمد به السراج من السليط، والمعنى لو كتبت كلمات علم الله وحكمه وكان البحر مدادًا لها والمراد بالبحر الجنس لنفد قبل أن تنفد الكلمات، تقرير الكلام أن البحار كيفما فرضت في الاتساع والعظمة فهي متناهية ومعلومات الله غير متناهية والمتناهي لا يفي ألبتة بغير المتناهي، قرأ حمزة والكسائي ينفد بالياء لتقدم الفعل على الجمع والباقون بالتاء لتأنيث كلمات، وروي أن حيي بن أخطب قال: في كتابكم: {وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِىَ خَيْرًا كَثِيرًا} [البقرة: 269] ثم تقرأون: {وَمَا أُوتِيتُم مّن العلم إِلاَّ قَلِيلًا} [الإسراء: 85] فنزلت هذه الآية يعني أن ذلك خير كثير ولكنه قطرة من بحر كلمات الله.
المسألة الثانية:
احتج المخالفون على الطعن في قول أصحابنا أن كلام الله تعالى واحد بهذه الآية، وقالوا: إنها صريحة في إثبات كلمات الله تعالى وأصحابنا حملوا الكلمات على متعلقات علم الله تعالى، قال الجبائي: وأيضًا قوله: {قَبْلَ أَن تَنفَدَ كلمات رَبّى} يدل على أن كلمات الله تعالى قد تنفد في الجملة وما ثبت عدمه امتنع قدمه، وأيضًا قال: {ولَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مِدَادًا} وهذا يدل على أنه تعالى قادر على أن يجيء بمثل كلامه والذي يجاء به يكون محدثًا والذي يكون المحدث مثلًا له فهو أيضًا محدث وجواب أصحابنا أن المراد منه الألفاظ الدالة على تعلقات تلك الصفة الأزلية، واعلم أنه تعالى لما بين كمال كلام الله أمر محمدًا صلى الله عليه وسلم بأن يسلك طريقة التواضع فقال: {قُلْ إِنَّمَا أَنَاْ بَشَرٌ مّثْلُكُمْ يوحى إِلَىَّ} أي لا امتياز بيني وبينكم في شيء من الصفات إلا أن الله تعالى أوحى إلي أنه لا إله إلا الله الواحد الأحد الصمد، والآية تدل على مطلوبين: الأول: أن كلمة {إِنَّمَا} تفيد الحصر وهي قوله: {أَنَّمَا إلهكم إله واحد}.
والثاني: أن كون الإله تعالى: {إلها واحدا} يمكن إثباته بالدلائل السمعية، وقد قررنا هذين المطلوبين في سائر السور بالوجوه القوية، ثم قال: {فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبّهِ} والرجاء هو ظن المنافع الواصلة إليه والخوف ظن المضار الواصلة إليه، وأصحابنا حملوا لقاء الرب على رؤيته والمعتزلة حملوه على لقاء ثواب الله وهذه المناظرة قد تقدمت والعجب أنه تعالى أورد في آخر هذه السورة ما يدل على حصول رؤية الله في ثلاث آيات: أولها: قوله: {أُوْلَئِكَ الذين كَفَرُواْ بآيات رَبّهِمْ وَلِقَائِهِ} [الكهف: 105].
وثانيها: قوله: {كَانَتْ لَهُمْ جنات الفردوس نُزُلًا} [الكهف: 107] وثالثها: قوله: {فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبّهِ} ولا بيان أقوى من ذلك ثم قال: {فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صالحا} أي من حصل له رجاء لقاء الله فليشتغل بالعمل الصالح، ولما كان العمل الصالح قد يؤتي به لله وقد يؤتى به للرياء والسمعة لا جرم اعتبر فيه قيدان: أن يؤتى به لله، وأن يكون مبرأ عن جهات الشرك، فقال: {وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبّهِ أَحَدَا}.
قيل: نزلت هذه الآية في جندب بن زهير قال- لرسول الله صلى الله عليه وسلم: «إني أعمل العمل لله تعالى فإذا اطلع عليه أحد سرني، فقال عليه الصلاة والسلام: إن الله لا يقبل ما شورك فيه» وروي أيضًا أنه قال له: «لك أجران أجر السر وأجر العلانية» فالرواية الأولى محمولة على ما إذا قصد بعمله الرياء والسمعة، والرواية الثانية محمولة على ما إذا قصد أن يقتدى به، والمقام الأول مقام المبتدئين، والمقام الثاني مقام الكاملين والحمد صلى الله عليه وسلم رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين. اهـ.