فصل: قال نظام الدين النيسابوري:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



{وَيَسْأَلُونَكَ عَن ذِي القرنين} السائلون اليهود، أو قريش بإشارة اليهود، وذو القرنين هو الإسكندر الملك، وهو يوناني وقيل رومي وكان رجلًا صالحًا، وقيل كان نبيًا، وقيل كان ملكًا بفتح اللام والصحيح أنه ملك بكسر اللام واختلف لم سمي ذو القرنين فقيل: كان له ضفيرتان من شعرهما قرناه، فسمي بذلك وقيل: لأنه بلغ المشرق والمغرب وكأنه حاز قرني الدنيا {إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الأرض} التمكين له أنه ملك الدنيا ودانت له الملوك كلهم {وآتيناه مِن كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا} أي علمًا وفهما، يتوصل به إلى معرفة الأشياء والسبب ما يتوصل به إلى المقصود من علم أو قدرة أو غير ذلك {فَأَتْبَعَ سَبَبًا} أي طريقًا يوصله {وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ} قرئ بالهمز على وزن فعلة أي ذات حمأة وقرئ بالياء على وزن فاعله وقد اختلف في ذلك معاوية وابن عباس فقال ابن عباس: حمئة وقال معاوية حامية فبعثا إلى كعب الأحبار ليخبرهما بالأمر فقال: أما العربية فأنتما أعلما بها مني، ولكني أجد في التوارة أنها تغرب في ماء وطين فوافق ذلك قراءة ابن عباس ومعنى {حَامِيَةٌ} [الغاشية: 4] حارة، ويحتمل أن يكون بمعنى حمية ولكن سهلت همزته ويتفق معنى القراءتين. وقد قيل: يمكن أن يكون فيها حمئة ويكون حارة لحرارة الشمس فتكون جامعة للموضعين، ويجتمع معنى القراءتين {قُلْنَا ياذا القرنين} استدل بهذا من قال إن ذا القرنين نبي لأن هذا القول وحي ويحتمل أن يكون بإلهام فلا يكون فيه دليل على نبوته {إِمَّآ أَن تُعَذِّبَ وَإِمَّآ أَن تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا} كانوا كفارًا فخيره الله بين أن يعذبهم بالقتل، أو يدعوهم إلى الإسلام، فيحسن إليهم وقيل: الحسن هنا هو الأسر، وجعله حسنًا بالنظر إلى القتل {قَالَ أَمَّا مَن ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ} اختار أن يدعوهم إلى الإسلام، فمن تمادى على الكفر قتله ومن أسلم أحسن إليه، والظلم هنا الكفر والعذاب القتل وأراد بقوله: عذابًا نكرا عذاب الآخرة {فَلَهُ جَزَاءً الحسنى} المراد بالحسنى الجنة أو الأعمال الحسنة {وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا} وعدهم بأن ييسر عليهم.
{وَجَدَهَا تَطْلُعُ على قَوْمٍ لَّمْ نَجْعَل لَّهُمْ مِّن دُونِهَا سِتْرًا} هؤلاء القوم هم الزنج وهم أهل الهند ومن وراءهم، ومعنى لم نجعل الآية أنهم ليس لهم بنيان إذ لا تحمل أرضهم البناء وإنما يدخلون من حر الشمس في أسراب تحت الأرض وقال ابن عطية: الظاهر أنها عبارة عن قرب الشمس منهم وقيل: الستر اللباس فكانوا على هذا لا يلبسون الثياب {كَذَلِكَ} أي أمر ذي القرنين كذلك، أي كما وصفناه تعظيمًا لأمره وقيل: إن كذلك راجع لما قبله أي لم نجعل لهم سترًا، كما جعلنا لكم من المباني والثياب، وقيل: المعنى وجد عندها قومًا كذلك، أي مثل القوم الذين وجدوا عند مغرب الشمس وفعل معهم مثل فعله {بَيْنَ السَّدَّيْنِ} أي الجبلين وهما جبلان في طرف الأرض، وقرئ بالفتح والضم وهما بمعنى واحد، وقيل ما كان من خلقة الله فهو مضموم وما كان من فعل الناس فهو مفتوح {وَجَدَ مِن دُونِهِمَا قَوْمًا} قيل هم الترك {لاَّ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا} عبارة عن بعد لسانهم عن ألسنة الناس، فهم لا يفقهون القول إلا بالإشارة أو نحوها {يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ} قبيلتان من بني آدم في خلقهم تشويه، منهم مفرط الطول ومفرط القصر {مُفْسِدُونَ فِي الأرض} لفسادهم بالقتل والظلم وسائر وجوه الشرط، وقيل: كانوا يأكلون بني آدم.
{فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا على أَن تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا} هذا استفهام في ضمنه عرض ورغبة، والخرج الجباية يقال فيه خراج وقد قرئ بهما، فعرضوا عليه أن يجعلوا له أموالًا ليقيم بها السد {قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ} أي ما بسط الله لي من الملك خير من خرجكم، فلا حاجة لي به ولكن أعينوني بقوة الأبدان وعمل الأيدي {رَدْمًا} أي حاجزًا حصيبًا، والردم أعظم من السد.
{ساوى بَيْنَ الصدفين} أي بين الجبلين {قَالَ انفخوا} يريد نفخ الكير؛ أي أوقدوا النار على الحديد {قِطْرًا} أي نحاسًا مذابًا وقيل هو الرصاص، وروي أنه حفر الأساس حتى بلغ الماء ثم جعل البنيان من أصل اسطاعوا استطاعوا حذفت التاء تخفيفًا، والضمير في يظهروه للسدّ، ومعنى يظهروه يعلوه ويصعدوا على ظهره فالمعنى أن يأجوج ومأجوج لا يقدرون أن يصعدوا على السدّ لارتفاعه ولا ينقبوه لقوته {قَالَ هذا رَحْمَةٌ مِّن رَّبِّى} القائل ذو القرنين وأشار إلى الردم {فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّى} يعني القيامة جعله دكًا أي مبسوطًا مسوى بالأرض.
{وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ} الضمير في تركنا لله عز وجل، ويومئذ يحتمل أن يريد به يوم القيامة، لأنه قد تقدم ذكره فالضمير في قوله بعضهم على هذا لجميع الناس، أو يريد بقوله يومئذ يوم كمال السد، والضمير في قوله: بعضهم على هذا ليأجوج ومأجوج، والأول أرجح لقوله بعد ذلك: ونفخ في الصور فيتصل الكلام ويموج عبارة عن اختلاطهم واضطرابهم {وَنُفِخَ فِي الصور} الصور هو القرن الذي ينفخ فيه يوم القيامة حسبما جاء في الحديث، ينفخ فيه إسرافيل نفختين إحداهما للصعق والأخرى للقيام من القبور {وَعَرَضْنَا جَهَنَّمَ} أي أظهرناها {كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاءٍ} عبارة عن عمى بصائرهم وقلوبهم، وكذلك لا يستطيعون سمعًا {أَفَحَسِبَ الذين كفروا أَن يَتَّخِذُواْ عِبَادِي مِن دوني أَوْلِيَاءَ} يعني أنهم لا يكونون لهم أولياء، كما حكي عنهم أنهم يقولون أنت ولينا من دونهم، والعباد هنا من عُبد مع الله ممن لا يريد ذلك؛ كالملائكة وعيسى ابن مريم {أَعْتَدْنَا} أي يسرنا {نُزُلًا} ما ييسر للضيف والقادم عند نزوله، والمعنى أن جهنم لهم بدل النزل كما أن الجنة نزل في قوله: {كانت لهم جنات الفردوس نزلا} ويحتمل أن يكون النزل موضع النزول.
{قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُم بالأخسرين أَعْمَالًا} الآية في كفار العرب كقوله: {كفروا بآيات ربهم ولقائه} وقيل: في الرهبان لأنهم يتعبدون يظنون أن عبادتهم تنفعهم وهي لا تقبل منهم، وفي قوله: يحسبون أنهم يحسنون تجنيس وهو الذي يسمى تجنيس التصحيف {فَلاَ نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ القيامة وَزْنًا} أي ليس لهم حسنة توزن لأن أعمالهم قد حبطت {جنات الفردوس} هي أعلى الجنة حسبما ورد في الحديث ولفظ الفردوس أعجمي معرب {حِوَلًا} أي تحوّلا وانتقالًا.
{قُل لَّوْ كَانَ البحر مِدَادًا لكلمات رَبِّى} الآية إخبار عن اتساع علم الله تعالى والكلمات هي المعاني القائمة بالنفس وهي المعلومات، فمعنى الآية لو كتب علم الله بمداد البحر لنفد البحر ولم ينفد علم الله، وكذلك لو جيء ببحر آخر مثله وذلك لأن البحر متناهٍ وعلم الله غير متناه {بِمِثْلِهِ مَدَدًا} أي زيادة والمدد هو ما يمد به الشيء أي يكثر {فَمَن كَانَ يَرْجُواْ لِقَاءَ رَبِّهِ} إن كان الرجاء هنا على بابه فالمعنى يرجو حسن لقاء ربه وأن يلقاه لقاء رضا وقبول، وإن كان الرجاء بمعنى الخوف فالمعنى يخاف سوء لقاء ربه، {وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًَا} يحتمل أن يريد الشرك بالله وهو عبادة غيره فيكون راجعًا إلى قوله يوحى إليَّ أنما إلهكم إله واحد أو يريد الرياء؛ لأنه الشرك الأصغر واللفظ يحتمل الوجهين، ولا يبعد أن يحمل على العموم في المعنيين والله أعلم. اهـ.

.قال نظام الدين النيسابوري:

{وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْرًا (83)}.
التفسير:
ولما أجاب عن سؤالين من أسئلة اليهود وانتهى الكلام إلى حيث انتهى، شرع في السؤال الثالث والجواب عنه. وأصح الأقوال أن ذا القرنين هو الإسكندر بن فيلقوس الرومي الذي ملك الدنيا بأسرها، إذ لو كان غيره لانتشر خبره ولم يخف مكانه عادة. يحكى أنه لما مات أبوه جمع ملك الروم بعد أن كان طوائف، ثم قصد ملوك المغرب وقهرهم وأمعن حتى انتهى إلى البحر الأخضر ثم عاد إلى مصر فبنى الإسكندرية وسماها باسم نفسه، ثم دخل الشام وقصد بني إسرائيل وورد بيت المقدس وذبح في مذبحه ثم عطف إلى أرمينية وباب الأبواب ودانت له العبرانيون والقبط والبربر، ثم توجه نحو دارًا ابن دارا وهزمه إلى أن قتله فاستولى على ممالك الفرس، ثم قصد الهند والصين وغزا الأمم البعيدة ورجع إلى خراسان وبنى المدن الكثيرة، ورجع إلى العراق ومرض بشهرزور ومات بها. وقال الإمام فخر الدين الرازي: لما ثبت بالقرآن أن ذا القرنين كان رجلًا ملك الأرض بالكلية أو ما يقرب منها، وثبت من علم التاريخ أن من هذا شأنه ما كان إلا الإسكندر وجب القطع بأن ذا القرنين هو الإسكندر. قال: وفيه إشكال لأنه كان تلميذًا لأرسطا طاليس وكان على مذهبه. فتعظيم الله إياه يوجب الحكم بأن مذهب أرسطو حق وصدق ذلك وذلك مما لا سبيل إليه. قلت: ليس كل ما ذهب إليه الفلاسفة باطلًا فلعله أخذ منهم ما صفا وترك ما كدر. والسبب في تسميته بذي القرنين أنه بلغ قرني الشمس أي مطلعهما ومغربها. وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه طاف قرني الدنيا يعني جانبيها شرقها وغربها. وقيل: كان له قرنان ضفيرتان. وقيل: انقرض في وقته قرنان من الناس. وقيل: كان لتاجه قرنان.
وعن وهب أنه سمي بذلك لأنه ملك الروم وفارس. ويروى الروم والترك. وعنه كانت صفحتا رأسه من نحاس. وقيل: كان على رأسه ما يشبه القرنين. وقيل: لشجاعته كما سمى الشجاع كبشًا كأنه ينطح أقرانه. وقيل: رأى في المنام كأنه صعد الفلك وتعلق بطرفي الشمس أي بقرنيها. وزعم الفرس أن دارا الأكبر تزوّج بابنة فيلقوس، فلما قرب منها وجد رائحة منكرة فردها إلى أبيها وكانت قد حملت بالإسكندر فولدت الإسكندر وبقي عند فيلقوس وأظهر أنه ابنه وهو في الحقيقة دارا الأكبر. وقال أبو الريحان: إنه من ملوك حمير والدليل عليه أن الأذواء كانوا من اليمن كذي يزن وغيره. ويروى أنه ملك الدنيا بأسرها أربعة: ذو القرنين وسليمان- وهما مؤمنان- ونمرود وبختنصر- وهما كافران- واختلفوا فيه فقيل: كان عبدًا صالحًا ملكه الأرض وأعطاه العلم والحكمة وألبسه الهيبة وسخر له النور والظلمة، فإذا سرى يهديه النور من أمامه وتحوطه الظلمة من ورائه.
وعن علي رضي الله عنه: سخر له السحاب ومدت له الأسباب وبسط له النور وأحب الله وأحبه. وسأله ابن الكواء وكان من أصحابه ما ذو القرنين أملك أم نبي؟ فقال: ليس بملك ولا نبي ولكن كان عبدًا صالحًا ضرب على قرنه الأيمن في طاعة الله أي في جهاده فمات، ثم بعثه الله فضرب على قرنه الأيسر فمات فبعثه الله فسمي ذا القرنين وفيكم مثله يعني نفسه. قالوا: وكان ذو القرنين يدعو الناس إلى التوحيد فيقتلونه فيحييه الله. وقيل: كان نبيًا لقوله تعالى: {إنا مكنا له في الأرض} والتمكين المعتد به هو النبوة، ولقوله: {وآتيناه من كل شيء سببًا} وظاهره العموم فيكون قد نال أسباب النبوّة، ولقوله: {قلنا يا ذا القرنين إما أن تعذب} وتكليم الله بلا واسطة لا يصلح إلا للنبي. وقيل: كان ملكًا من الملائكة عن عمر أنه سمع رجلًا يقول: يا ذا القرنين: فقال: اللَّهم غفرًا أما رضيتم أن تسموا بأسماء الأنبياء حتى تسميتم بأسماء الملائكة.
قوله: {سأتلوا عليكم} أي سأفعل هذا إن وفقني الله تعالى وأنزل فيه وحيًا. والخطاب في {عليكم} للسائلين وهم اليهود أو قريش كأبي جهل وأضرابه {وآتيناه من كل شيء سببًا} طريقًا موصلًا إليه. والسبب في اللغة هو الحبل والمراد هاهنا كل ما يتوصل به إلى المقصود من علم أو قدرة أو آلة، وذلك أنه أراد بلوغ المغرب فأتبع سببًا وصله إليه، وكذلك أراد المشرق فاتبع سببًا موصلًا إليه، وأراد بلوغ السدين فأتبع سببًا أدى إليه. ثم إنه سبحانه شرع في نعت مسيره إلى المغرب قائلًا {فأتبع سببًا} أي سلك طريقًا أفضى به إلى سفر المغرب، ومن قرأ بقطع الهمزة فمعناه اتبع نفسه سببًا {حتى إذا بلغ مغرب الشمس وجدها تغرب في عين حامية} أي حارة، ومن قرأ بحذف الألف مهموزًا فمعناه ذات حمأة أي طين أسود، ولا تنافي بين القراءتين: فمن الجائز أن تكون العين جامعة للوصفين. عن أبي ذر قال: «كنت رديف رسول الله صلى الله عليه وسلم على جمل فرأى الشمس حين غابت فقال: أتدري يا أبا ذر من أين تغرب هذه؟ قلت: الله ورسوله أعلم: قال: فإنها تغرب في عين حامية.» فقال حكماء الإسلام: قد ثبت بالدلائل اليقينية أن الأرض كروية في وسط العالم، وأن السماء محيطة بها من جميع الجوانب، وأن الشمس في فلكها تدور بدوران الفلك. وأيضًا قد وضح أن جرم الشمس أكبر من جرم الأرض بمائة وست وستين مرة تقريبًا، فكيف يعقل دخولها في عين من عيون الأرض؟ فتأويل الآية أن الشمس تشاهد هناك أعني في طرف العمارة كأنها تغيب وراء البحر الغربي في الماء كا أن راكب البحر يرى الشمس تغيب في الماء لأنه لا يرى الساحل ولهذا قال: {وجدها تغرب} ولم يخبر أنها تغرب في عين، ولا شك أن البحار الغربية قوية السخونة فهي حامية، وأيضًا حمئة لكثرة ما في البحار من الطين الأسود.
أما قوله: {ووجد عندها قومًا} فالضمير إما للشمس وإما للعين، وذلك أن الإنسان لما تخيل أن الشمس تغرب هناك كان سكان ذلك الموضع كأنهم سكنوا بالقرب من الشمس. قال ابن جريج: هناك مدينة لها اثنا عشر ألف باب لولا أصوات أهلها سمع الناس وجوب الشمس حين تجب، كانوا كفرة بالله فخيره الله بين أن يعذبهم بالقتل وأن يتخذ فيهم حسنًا وهو تركهم أحياء فاختار الدعوة والاجتهاد فقال: {أما من ظلم} بالإصرار على الشرك {فسوف نعذبه} بالقتل في الدنيا {ثم يرد إلى ربه} في الآخرة {فيعذبه عذابًا نكرًا} منكرًا فظيعًا.
روى صاحب الكشاف عن قتادة أنه كان يطبخ من كفر في القدور وهو العذاب النكر، ومن آمن أعطاه وكساه وفيه نظر، لأن العذاب النكر بعد أن يرد إلى ربه لا يمكن أن يكون من فعل ذي القرنين. ومن قرأ: {جزاء} بالنصب أراد فله الفعلة {الحسنى} جزاء، ومن قرأ بالرفع أراد فله جزاء الفعلة الحسنى التي هي كل الشهادة، أو فله أن يجازى المثوبة الحسنى {وسنقول له من أمرنا} أي مما نأمر به الناس من الزكاة والخراج وغير ذلك {يسرًا} أي قولًا ذا يسر ليس بالصعب الشاق. ثم حكى سفره إلى أقصى الشرق قائلًا {ثم أتبع سببًا} أي هيأ أسبابًا بسفر المشرق {حتى إذا بلغ مطلع الشمس} أي مكان طلوعها {وجدها تطلع على قوم لم نجعل لهم من دونها سترًا} عن كعب أن الستر هو الأبنية وذلك أن أرضهم لا تمسكها فليس هناك شجر ولا جبل ولا أبنية تمنع شعاع الشمس وتدفع حره عنهم، فإذا طلعت الشمس دخلوا في أسراب لهم، وإذا غربت اشتغلوا بتحصيل المعاش، فحالهم بالضد من أحوال سائر الخلق.
وعن مجاهد أن الستر الثياب وأنهم عراة كالزنج، وحال كل من سكن في البلاد القريبة من خط الاستواء كذلك. حكى صاحب الكشاف عن بعضهم أنه قال: خرجت حتى جاوزت الصين فسألت عن هؤلاء فقيل: بينك وبينهم مسيرة يوم وليلة. فبلغتهم فإذا أجدهم يفرش أذنه ويلبس الأخرى. وحين قرب طلوع الشمس سمعت كهيئة الصلصة فغشى عليّ ثم أفقت، فلما طلعت الشمس إذ هي فوق الماء كهيئة الزيت فأدخلونا سربًا لهم. فلما ارتفع النهار خرجوا إلى البحر فجعلوا يصطادون السمك ويطرحونه في الشمس فينضج لهم. وللمفسرين في متعلق قوله: {كذلك} وجوه أحدها: كذلك أمر ذي القرنين اتبع هذه الأسباب حتى بلغ ما بلغ، وقد علمنا حين ملكناه ما عنده من الصلاحية لذلك الملك والاستقلال به.