فصل: قال الشوكاني في الآيات السابقة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



تنبيه:
أعمالًا تمييز للأخسرين جمع عمل وإن كان مصدر التنوع أعمالهم، ثم وصفهم تعالى بضدّ ما يدّعونه لأنفسهم من نجاح السعي وإحسان الصنع فقال تعالى: {الذين ضلّ} أي: ضاع وبطل {سعيهم في الحياة الدنيا} لكفرهم.
تنبيه:
محل الموصول الجر نعتًا أو بدلًا أو بيانًا أو النصب على الذم أو الرفع على الخبر المحذوف فإنه جواب السؤال، ومعنى خسرانهم أنه مثلهم بمن يشتري سلعة يرجو فيها ربحًا فخسر وخاب سعيه كذلك أعمال هؤلاء الذين أتعبوا أنفسهم مع ضلالهم فبطل جدّهم واجتهادهم في الحياة الدنيا {وهم يحسبون} أي: يظنون، وقرأ ابن عامر وعاصم وحمزة بفتح السين والباقون بالكسر {أنهم يحسنون صنعًا} أي: عملًا يجازون عليه لاعتقادهم أنهم على الحق. ثم بيّن تعالى السبب في بطلان سعيهم بقوله تعالى: {أولئك} أي: البعداء البغضاء {الذين كفروا بآيات ربهم} أي: بدلائل توحيده من القرآن وغيره {ولقائه} أي: رؤيته لأنه يقال: لقيت فلانًا أي: رأيته فإن قيل: اللقاء عبارة عن الوصول قال تعالى: {فالتقى الماء على أمر قد قدر} وذلك في حق اللّه تعالى محال فوجب حملة على لقاء ثواب اللّه تعالى كما قال بعض المفسرين أجيب: بأنّ لفظ اللقاء، وإن كان عبارة عن الوصول إلا أن استعماله في الرؤية مجاز ظاهر مشهور والذي يقول: إن المراد لقاء ثواب اللّه قال: لا يتم إلا بالإضمار وحمل اللفظ على المجاز المتعارف المشهور أولى من حمله على ما يحتاج إلى الإضمار، ثم قال تعالى: {فحبطت} أي: فبسبب جحدهم الدلائل بطلت {أعمالهم} فصارت هباءً منثورًا فلا يثابون عليها، وفي قوله تعالى: {فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنًا} قولان؛ أحدهما: أنا نزدري بهم وليس لهم عندنا وزن ومقدار، تقول العرب: ما لفلان عندي وزن أي: قدر لخسته، وروى أبو هريرة عن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ليأتي الرجل العظيم السمين يوم القيامة فلا يزن عند اللّه جناح بعوضة»، وقال: «اقرؤوا إن شئتم {فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنًا}»، الثاني: لا نقيم لهم ميزانًا لأن الميزان إنما يوضع لأهل الحسنات والسيئات من الموحدين ليتميز مقدار الطاعات ومقدار السيئات، وقال أبو سعيد الخدري: تأتي ناس بأعمالهم يوم القيامة عندهم في التعظيم كجبال تهامة فإذا وزنوها لم تزن شيئًا فذلك قوله تعالى: {فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنًا}.
ولما كان هذا السياق في الدلالة على أنّ لهم جهنم أوضح من الشمس قال تعالى: {ذلك} أي: الأمر العظيم الذي بيّناه من وعيدهم {جزاؤهم} ثم بيّن ذلك الجزاء بقوله تعالى: {جهنم} وصرّح بالسببية بقوله تعالى: {بما كفروا} أي: بما أوقعوا التغطية للدلائل {واتخذوا آياتي} الدالة على واحدانيتنا {ورسلي} المؤيدين بالمعجزات الظاهرات {هزوا} أي: مهزوءًا بهما فلم يكتفوا بالكفر الذي هو طعن في الإلهية حتى ضموا إليه الهزو الذي هو أعظم احتقارًا. ولما بيّن سبحانه وتعالى ما لا حد قسمي أهل الجمع تنفيرًا عنهم بيّن ما للآخرين على تقدير الجواب لسؤال يقتضيه الحال ترغيبًا في اتباعهم والاقتداء بهم بقوله: {إن الذين آمنوا} أي: باشروا الإيمان {وعملوا} تصديقًا لإيمانهم {الصالحات} من الخصال {كانت لهم} أي: في علم اللّه قبل أن يخلقوا البناء أعمالهم على الأساس {جنات} أي: بساتين {الفردوس} أي: أعلى الجنة وأوسطها والإضافة إليه للبيان، روي عن أبي هريرة رضي اللّه تعالى عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إذا سألتم اللّه تعالى فاسألوه الفردوس فإنه أوسط الجنة وأعلى الجنة وفوقه عرش الرحمن ومنه تفجر أنهار الجنة» وقال كعب: ليس في الجنان جنة أعلى من جنة الفردوس فيها الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر، وقال قتادة: الفردوس ربوة الجنة وأوسطها وأفضلها وأرفعها، وقال كعب: الفردوس هو بستان الجنة الذي فيه الأعناب، وقال مجاهد: هو البستان بالرومية، وقال الزجاج: هو بالرومية منقول إلى لفظ العربية، وقال عكرمة: هي الجنة بلسان الحبش، وقال الضحاك: هي الجنة الملتفة الأشجار {نزلًا} أي: منزلًا كما كان السعير والأغلال لأولئك نزلًا وقوله تعالى: {خالدين فيها} حال مقدرة {لا يبغون} أي: لا يريدون أدنى إرادة {عنها حولًا} أي: تحويلًا إلى غيرها، قال ابن عباس: لا يريدون أن يتحوّلوا عنها كما ينتقل الرجل من دار إذا لم توافقه إلى دار أخرى. ولما ذكر تعالى في هذه السورة أنواع الدلائل والبيّنات وشرح فيها أقاصيص الأوّلين والآخرين نبه على حال كمال القرآن بقوله لنبيه صلى الله عليه وسلم.
{قل} يا أشرف الخلق للخلق {لو كان البحر} أي: ماؤه على عظمته عندكم {مدادًا} وهو اسم لما يمدّ به الشيء كالحبر للدواة والسليط للسراج {لكلمات} أي: لكتب كلمات {ربي} أي: المحسن إليّ {لنفد} أي: فني مع الضعف فناء لا تدارك له. لأنه جسم متناه {قبل أن تنفذ} أي: تفنى وتفرغ {كلمات ربي} لأنّ معلوماته تعالى غير متناهية والمتناهي لا يفي البتة بغير المتناهي، وقرأ حمزة والكسائي بالياء التحتية على التذكير والباقون بالفوقية على التأنيث. ولما لم يكن أحد غيره يقدر على إمداد البحر قال تعالى: {ولو جئنا بمثله} أي: بمثل البحر الموجود {مددًا} أي: زيادة ومعونة ونظيره قوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اللَّهِ} [لقمان].، واختلف في سبب نزول هذه الآية، فقال البغوي وابن عباس: قالت اليهود: تزعم يا محمد أنا قد أوتينا الحكمة، وفي كتابك {ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرًا كثيرًا} [البقرة].، ثم تقول: {وما أوتيتم من العلم إلا قليلًا}، فأنزل اللّه تعالى هذه الآية، وقال البيضاوي: وسبب نزولها أن اليهود قالوا: في كتابكم ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرًا كثيرًا وتقرؤون وما أوتيتم من العلم إلا قليلًا انتهى. وقال في الكشاف يعني أن ذلك خير كثير ولكنه قطرة من بحر كلمات اللّه، وقيل: لما نزل وما أوتيتم من العلم إلا قليلًا، قالت اليهود: أوتينا التوراة وفيها علم كل شيء فأنزل اللّه تعالى هذه الآية. ولما كانوا ربما قالوا: مالك لا تحدّث من هذه الكلمات بكل ما سألنا عنه قال اللّه تعالى: {قل} يا خير الخلق لهم {إنما أنا بشر} في استبداد القدرة على إيجاد المعدوم والإخبار بالغيب {مثلكم} أي: لا أمر لي ولا قدرة إلا ما يقدرني ربي عليه ولكن {يوحى إليّ} أي: من اللّه تعالى الذي خصني بالرسالة كالوحي إلى الرسل قبلي {أنما إلهكم} الذي يجب أن يعبد {إله واحد} لا ينقسم بمجانسة ولا غيرها قادر على ما يريد، لا منازع له لم يؤخر جواب ما سألتموني عنه من عجز ولا من جهل هذا الذي يعني كل أحد علمه، وأما ما سألتم عنه في أمر الروح والقصتين تعنتا لي فأمر لو جهلتموه ما ضرّكم جهله {فمن} أي: فتسبب عن وحدته المستلزمة لقدرته أنه من {كان يرجو لقاء ربه} أي: يخاف المصير إليه وقيل يأمل رؤية ربه والرجاء يكون بمعنى الخوف والأمل جميعًا قال الشاعر:
فلا كل ما ترجو من الخير كائن ** ولا كل ما ترجو من الشر واقع

فجمع بين المعنيين {فليعمل عملًا} ولو قليلًا {صالحًا} يرتضيه اللّه {ولا يشرك} أي: وليكن ذلك العمل مبنيًا على الأساس وهو أن لا يشرك ولو بالرياء {بعبادة ربه أحدًا} فإذا عمل ذلك حاز فخار علوم الدنيا والآخرة، روي أن جندب بن زهير قال لرسول اللّه صلى الله عليه وسلم إني لأعمل العمل للّه فإذا اطلع عليه سرّني فقال: «إن اللّه لا يقبل ما شورك فيه» فنزلت تصديقًا، وروي أنه قال له: «لك أجران أجر السر وأجر العلانية» وذلك إذا قصد أن يقتدي به، وروي أنه صلى الله عليه وسلم قال: «اتقوا الشرك الأصغر قالوا: وما الشرك الأصغر؟ قال: الرياء» وعن أبي هريرة رضي اللّه عنه قال: سمعت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يقول عن اللّه تعالى: «أنا أغنى الشركاء عن الشرك فمن عمل عملًا أشرك فيه غيري فأنا منه بريء هو للذي عمله»، وعن سعيد بن فضالة قال: سمعت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يقول: «إذا جمع اللّه تبارك وتعالى الناس ليوم لا ريب فيه نادى مناد من كان يشرك في عمل عمله للّه فليطلب ثوابه منه فإن اللّه تعالى أغنى الشركاء عن الشرك» والآية جامعة لخلاصتي العلم والعمل وهما التوحيد والإخلاص في الطاعة.
خاتمة:
روي في فضائل سورة الكهف أحاديث كثيرة منها ما رواه الترمذي وغيره من قرأها عند مضجعه كان له نور يتلألأ في مضجعه إلى مكة حشو ذلك النور ملائكة يصلون عليه حتى يقوم وإن كان مضجعه بمكة كان له نور يتلألأ من مضجعه إلى البيت المعمور حشو ذلك النور ملائكة يصلون عليه حتى يستيقظ، وروي أبو الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من حفظ عشر آيات من أول سورة الكهف عصم من فتنة الدجال»، وقال البيضاوي وعنه عليه السلام: «من قرأ سورة الكهف من آخرها كانت له نورًا من قرنه إلى قدمه»، ولكن الذي رواه الإمام أحمد: «من قرأ أول سورة الكهف كانت له نورًا من فرقه إلى قدمه، ومن قرأها كلها كانت له نورًا من الأرض إلى السماء»، وروى البغوي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من قرأ أوّل سورة الكهف وآخرها كانت له نورًا من قدمه إلى رأسه، ومن قرأها كلها كانت له نورًا من الأرض إلى السماء» فنسأل اللّه تعالى أن ينوّر قلوبنا وأبصارنا وأن يغفر زلاتنا ولا يؤاخذنا بسوء أفعالنا، وأن يفعل ذلك بوالدينا وأولادنا وأقاربنا وأصحابنا ومشايخنا وجميع إخواننا المسلمين وأحبابنا آمين ولا حول ولا قوة إلا باللّه العليّ العظيم وصلى اللّه على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا دائمًا إلى يوم الدين. اهـ.

.قال الشوكاني في الآيات السابقة:

{وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعًا (99)}.
قوله: {وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ في بَعْضٍ} هذا من كلام الله سبحانه بعد انقضاء كلام ذي القرنين، والضمير في {بعضهم} ليأجوج ومأجوج، أي: تركنا بعض يأجوج ومأجوج يوم مجيء الوعد، أو يوم خروج يأجوج ومأجوج يموج في بعض آخر منهم، يقال: ماج الناس: إذا دخل بعضهم في بعض حيارى كموج الماء.
والمعنى: أنهم يضطربون ويختلطون، وقيل: الضمير في {بعضهم} للخلق، واليوم: يوم القيامة أي: وجعلنا بعض الخلق من الجنّ والإنس يموج في بعض، وقيل: المعنى: وتركنا يأجوج ومأجوج يوم كمال السدّ وتمام عمارته بعضهم يموج في بعض، وقد تقدّم تفسير {وَنُفِخَ في الصور} في الأنعام، قيل: هي النفخة الثانية بدليل قوله بعد: {فجمعناهم جَمْعًا} فإن الفاء تشعر بذلك، ولم يذكر النفخة الأولى لأن المقصود هنا ذكر أحوال القيامة.
والمعنى: جمعنا الخلائق بعد تلاشي أبدانهم ومصيرها ترابًا جمعًا تامًا على أكمل صفة وأبدع هيئة وأعجب أسلوب.
{وَعَرَضْنَا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ للكافرين عَرْضًا} المراد بالعرض هنا: الإظهار، أي: أظهرنا لهم جهنم حتى شاهدوها يوم جمعنا لهم، وفي ذلك وعيد للكفار عظيم لما يحصل معهم عند مشاهدتها من الفزع والروعة، ثم وصف الكافرين المذكورين بقوله: {الذين كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ في غِطَاء عَن ذِكْرِى} أي: كانت أعينهم في الدنيا في غطاء، وهو ما غطى الشيء وستره من جميع الجوانب {عن ذكري} عن سبب ذكري، وهو الآيات التي يشاهدها من له تفكر واعتبار، فيذكر الله بالتوحيد والتمجيد، فأطلق المسبب على السبب، أو عن القرآن العظيم، وتأمل معانيه وتدبر فوائده.
ثم لما وصفهم سبحانه بالعمى عن الدلائل التكوينية أو التنزيلية أو مجموعهما، أراد أن يصفهم بالصمم عن استماع الحق فقال: {وَكَانُواْ لاَ يَسْتَطِيعُونَ سَمْعًا} أي: لا يقدرون على الاستماع لما فيه الحق من كلام الله وكلام رسوله، وهذا أبلغ مما لو قال: وكانوا صمًا، لأن الأصمّ قد يستطيع السمع إذا صيح به، وهؤلاء لا استطاعة لهم بالكلية، وفي ذكر غطاء الأعين وعدم استطاعة السماع تمثيل لتعاميهم عن المشاهدة بالأبصار وإعراضهم عن الأدلة السمعية.
{أَفَحَسِبَ الذين كَفَرُواْ} الحسبان هنا بمعنى: الظنّ.
والاستفهام: للتقريع والتوبيخ، والفاء للعطف على مقدّر كنظائره.
والمعنى: أفظنوا أنهم ينتفعون بما عبدوه مع إعراضهم عن تدبر آيات الله وتمردّهم عن قبول الحق، ومعنى {أَن يَتَّخِذُواْ عِبَادِى مِن دُونِى} أي: يتخذوهم من دون الله، وهم الملائكة والمسيح والشياطين {أَوْلِيَاء} أي: معبودين، قال الزجاج: المعنى: أيحسبون أن ينفعهم ذلك؟ وقرئ: {أفحسب} بسكون السين، ومعناه: أكافيهم ومحسبهم أن يتخذوهم أولياء على أنه مبتدأ وخبر، يريد أن ذلك لا يكفيهم ولا ينفعهم عند الله كما حسبوا {إِنَّا أَعْتَدْنَا جَهَنَّمَ للكافرين نُزُلًا} أي: هيأناها لهم نزلًا يتمتعون به عند ورودهم.
قال الزجاج: النزل: المأوى والمنزل، وقيل: إنه الذي يعدّ للضيف، فيكون تهكمًا بهم كقوله: {فَبَشّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ}.