فصل: البلاغة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.البلاغة:

الإيجاز:
إذا رأى غير شيء ظنه رجلا

وقد غفل شراحه عن حقيقة الخلاف المشتجر بين أهل السنة والاعتزال فذهبوا في تفسير هذا البيت كل مذهب قال ابن القطاع: قد أوخذ في هذا البيت فقيل: كيف يرى غير شيء، وغير شيء معدوم والمعدوم لا يرى؟ وفيه تناقض. وليس الأمر كما قالوا بل أراد غير شيء يعبأ به. وقال أبو بكر الخوارزمي: رأى في هذا البيت ليست من رؤية العين وإنما هو من رؤية القلب يريد به التوهم وغير الشيء يجوز أن يتوهم ومثله كثير. وقال الواحدي: إذا رأى غير شيء يعبأ به أو يفكر في مثله ظنه إنسانا يطلبه وكذلك عادة الخائف الهارب كقول جرير:
ما زال يحسب كل شيء ** بعدهم خيلا تكر عليهم ورجالا

قال أبو عبيد: لما أنشد الأخطل قول جرير هذا قال: سرقه واللّه من كتابهم: {يحسبون كل صيحة عليهم} ويجوز حذف الصفة وترك الموصوف دالا عليها كقوله عليه الصلاة والسلام: «لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد» أجمعوا على أن المعنى لا صلاة كاملة فاضلة، ويقولون: هذا ليس بشيء يريدون شيئا جيدا. وقال بعض المتكلمين: إن اللّه خلق الأشياء من لا شيء فقيل هذا خطأ لأن لا شيء لا يخلق منه شيء ومن قال إن اللّه يخلق من لا شيء جعل لا شيء يخلق منه والصحيح أن يقال يخلق لا من شيء لأنه إذا قال لا من شيء نفى أن يكون قبل خلقه شيء يخلق منه الأشياء. والصحيح ما قاله: أي إذا رأى غير شيء يخاف منه، ومن هذا الوادي {حتى إذا جاءه لم يجده شيئا} معناه يريده أو يطلبه أو يغنيه عن الماء أي شيئا نافعا مغنيا.

. [سورة مريم: الآيات 16- 21].

{وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِها مَكانًا شَرْقِيًّا (16) فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجابًا فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا فَتَمَثَّلَ لَها بَشَرًا سَوِيًّا (17) قالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا (18) قالَ إِنَّما أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلامًا زَكِيًّا (19) قالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا (20) قالَ كَذلِكِ قالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا (21)}.

.اللغة:

(انْتَبَذَتْ): الانتباذ الاعتزال والانفراد فقد تخلت مريم للعبادة في مكان مما يلي شرقي بيت المقدس أو من دارها معتزلة عن الناس الناس وقيل غير ذلك والتفاصيل في المطولات وفي المصباح: (وانتبذت مكانا اتخذته بمعزل يكون بعيدا عن القوم).
(بَغِيًّا): البغي: الفاجرة التي تبغي الرجال وهي فعول عند المبرد أي بغوي فأدغمت الواو في الياء وقال ابن جني في كتاب التمام (هي فعيل ولو كانت فعولا لقيل بغوّ كما قيل فلان نهوّ عن المنكر) وبغت فلانة بغاء بكسر الباء ومنه قيل للإماء البغايا لأنهن كنّ يباغين في الجاهلية بقال: قامت البغايا على رؤوسهم قال الأعشى:
والبغايا يركضن أكسية الاضر ** يج والشرعبيّ ذا الأذيال

وفي القاموس وشرحه: (بغى يبغي من باب ضرب الشيء بغاء بضم الباء وبغيا بفتحها وبغى وبغية طلبه وبغى الرجل عدل عن الحق وعصى وبغى عليه استطال عليه وظلمه فهو باغ) فلعل إطلاقهم كلمة البغاء على العهر والزنا مأخوذ من هذا المعنى لأنه من دواعي ما يطلبه أهل الخنا والفجور.

.الإعراب:

{وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِها مَكانًا شَرْقِيًّا}.
{واذكر} الواو استئنافية و{اذكر} فعل أمر وفاعل مستتر تقديره أنت و{في الكتاب} جار ومجرور متعلقان باذكر و{مريم} مفعول به و{إذ}: قال أبو البقاء ما نصه: في {إذ} أربعة أوجه أحدها أنها ظرف والعامل فيه محذوف تقديره واذكر خبر مريم إذ انتبذت والثاني أن تكون حالا من المضاف المحذوف والثالث أن يكون منصوبا بفعل محذوف أي وبيّن إذ انتبذت فهو على كلام آخر كما قال سيبويه في قوله تعالى: {انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ} وهو في الظرف أقوى وان كان مفعولا به والرابع أن يكون بدلا من مريم بدل اشتمال لأن الأحيان تشتمل على الجثث ذكره الزمخشري وهو بعيد لأن الزمان إذا لم يكن حالا من الجثة ولا خبرا عنها ولا وصفا لها لم يكن بدلا منها وقيل إذ بمعنى أن المصدرية كقولك لا أكرمك إذ لم تكرمني أي لأنك لم تكرمني فعلى هذا يصح بدل الاشتمال أي واذكر مريم انتباذها. واضطرب قول ابن هشام فيها فبينما يقول في صدد بحثه عن {إذ}.
الوجه الثالث أن تكون بدلا من المفعول نحو {وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ} فإذ بدل اشتمال من مريم على حد البدل في: {يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه} يعود فيقول: وزعم الجمهور أن إذ لا تقع إلا ظرفا أو مضافا إليها وأنها في نحو {واذكروا إذ كنتم قليلا} ظرف لمفعول محذوف أي واذكروا نعمة اللّه إذ كنتم قليلا، وفي نحو {إذ انتبذت} ظرف لمضاف إلى مفعول محذوف أي واذكر قصة مريم.
وقال شهاب الدين الحلبي المعروف بالسمين: في إذ أوجه أحدها أنها منصوبة باذكر على أنها خرجت عن الظرفية إذ يستحيل أن تكون باقية على مضيها والعامل فيها ما هو نصّ في الاستقبال والثاني أنها منصوبة بمحذوف مضاف لمريم تقديره واذكر خبر مريم أو نبأها إذ انتبذت فإذ منصوبة بذلك الخبر أو النبأ، الثالث أنها بدل من مريم بدل اشتمال قال الزمخشري: لأن الأحيان مشتملة على ما فيها لأن المقصود بذكر مريم ذكر وقتها لوقوع هذه القصة العجيبة فيه. وجملة {انتبذت} مضافة إلى {إذ} و{من أهلها} حال و{مكانا} ظرف متعلق بانتبذت أي في مكان وشرقيا نعت ويجوز أن يعرب {مكانا} مفعولا به على أن معنى {انتبذت} أتت، ونص المصباح يؤيد كونه مفعولا به فتأمله في باب اللغة.
(فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجابًا فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا فَتَمَثَّلَ لَها بَشَرًا سَوِيًّا) الفاء عاطفة واتخذت فعل ماض وفاعل مستتر و{من دونهم} مفعول به ثان وحجابا مفعول به أول {فأرسلنا} عطف على {فاتخذت} و{إليها} متعلقان بأرسلنا و{روحنا} مفعول به، {فتمثل} عطف أيضا ولها متعلقان بتمثل و{بشرا} حال و{سويا} نعت وسوغ وقوع الحال جامدة وصفها وسيأتي مزيد بحث عنها في باب الفوائد.
(قالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا) أن واسمها وجملة {أعوذ} خبرها والجملة مقول القول و{بالرحمن} متعلقان بـ: {أعوذ} و{منك} متعلقان بـ: {أعوذ} أيضا و{إن} حرف شرط جازم و{كنت} فعل ماض ناقص والتاء اسمها و{تقيا} خبرها وجواب الشرط محذوف والمعنى إن كان يرجى منك أن تتقي اللّه وتخشاه وتحفل بالاستعاذة به فإني عائذة به منك.
(قالَ إِنَّما أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلامًا زَكِيًّا) {إنما} كافة ومكفوفة و{أنا} مبتدأ و{رسول ربك} خبر واللام للتعليل و{أهب} فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد اللام و{لك} متعلقان بأهب و{غلاما} مفعول به و{زكيا} صفة.
(قالَتْ: أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا) {أنى} اسم استفهام بمعنى كيف وقد تقدم إعرابه في قصة زكريا و{لم يمسسني} الواو حالية و{لم} حرف نفي وقلب وجزم و{يمسسني} مضارع مجزوم بلم والياء مفعول به و{بشر} فاعل، {ولم أك بغيا}: {لم} حرف نفي وقلب وجزم و{أك} مضارع مجزوم وعلامة جزمه السكون على النون المحذوفة للتخفيف واسم {أك} مستتر و{بغيا} خبرها. (قالَ كَذلِكِ قالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ) {كذلك} خبر لمبتدأ محذوف وقد تقدم إعراب نظيرها. (وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا) {لنجعله} تعليل معلله محذوف أي فعلنا ذلك أو هو معطوف على مضمر أي لنبين به قدرتنا {ولنجعله آية} و{آية} مفعول به ثان لنجعله و{للناس} صفة لآية و{رحمة منا} عطف على {آية} {وكان أمرا مقضيا} {كان} واسمها المستتر وخبرها و{مقضيا} صفة.

.الفوائد:

{معنى بشرا سويا}:
تقدم بحث الحال الموطئة وانها أن تكون جامدة موصوفة وهذا أحد شروطها التي تبرر كونها جامدة وهو في الآية بشرا فهو حال من فاعل تمثل وهو الملك والاعتماد فيها على الصفة وهي {سويا} وهو اسم مشتق لأنه صفة مشبهة، وعبارة ابن هشام: الثاني انقسامها بحسب قصدها لذاتها وللتوطئة بها إلى قسمين مقصودة وهو الغالب وموطئة وهي الجامدة الموصوفة نحو {فَتَمَثَّلَ لَها بَشَرًا سَوِيًّا}. واعترض بعضهم على هذا الاعراب فقال: أن دعوى الحال تقتضي أن المعنى متمثل لها في حال كونها بشرا ولا يخفى أنه وقت التمثيل ملك لا بشر فالأقرب أنه منصوب بنزع الخافض أي فتمثل لها ببشر أي تشبه به وتصور بصورته.
واعلم أنه وقع هنا للبيضاوي ما لا يليق حيث قال: (أتاها جبريل عليه السلام بصورة شاب أمرد سوي الخلق لتستأنس بكلامه ولعله ليهيج شهوتها فتنحدر نطفتها إلى رحمها) فقوله ليهيج.. إلخ. عبارة غير لائقة بمريم مع التحقيق أن عيسى عليه السلام كان من عالم الأمر أي أمر التكوين الممثل بقوله تعالى: {إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْ ءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} إذ ليس ثم قول ولا كان ولا يكون وهذا وجه المماثلة بين عيسى وآدم في قوله تعالى: {إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ} أي في التكوين بالأمر من غير واسطة ولا نطفة والنفخ المدلول عليه بقوله تعالى: {فَنَفَخْنا فِيهِ مِنْ رُوحِنا} من قبيل التمثيل استعير لإفاضة ما به الحياة بالفعل على المادة القابلة لها. لا حقيقة النفخ التي هي إجراء الريح إلى جوف صالح لإمساكها والامتلاء بها.
ولا يصح الاعتذار للقاضي البيضاوي بأنه نظر إلى العادة الإلهية الجارية بخلق المسببات عقب الأسباب لأن السبب لابد أن يكون تاما ونطفة المرأة وحدها ليست بسبب تام لحصول الولد وإنما تمثل لها بصورة حسنة لتأنس به ولا تنفر منه وتصغي اليه وترهف السمع لسماع البشرى وكان بصورة أمرد لإلف النساء إلى الأطفال ومن قرب منهن وعدم الاحتشام منهن. أما رواية الزمخشري فهي: وقيل قعدت في مشرفة للاغتسال من الحيض محتجبة بحائط أو بشيء يسترها وكان موضعها المسجد فإذا حاضت تحولت إلى بيت خالتها فإذا طهرت عادت إلى المسجد فبينما هي في مغتسلها أتاها الملك في صورة آدمي شاب وضيء الوجه، جعد الشعر، سوي الخلق، لم ينتقص من الصورة الآدمية شيئا أو حسن الصورة مستوي الخلق وإنما مثل لها في صورة الإنسان لتستأنس بكلامه ولا تنفر منه ولو بدا لها في الصورة الملكية لنفرت ولم تقدر على استماع كلامه. واستأنف الزمخشري كلامه فقال: ودل على عفافها وورعها أنها تعوذت باللّه من تلك الصورة الجميلة، الفائقة الحسن، وكان تمثيله على تلك الصفة ابتلاء لها، وسبرا لعفتها، وقيل: كانت في منزل زوج أختها زكريا ولها محراب على حدة تسكنه وكان زكريا إذا خرج أغلق عليها الباب فتمنت أن تجد خلوة في الجبل لتفلي رأسها فانفجر السقف لها فخرجت فجلست في المشرفة وراء الجبل فأتاها الملك.
ونختم هذا الفصل الذي خالفنا فيه شرط كتابنا لأهميته بتذييل للشيخ عبد الرزاق الكاشي وهذا هو نصه: إنما تمثل لها بشرا سوي الخلق حسن الصورة، لتتأثر نفسها به فتتحرك على مقتضى الجبلة أو يسري الأثر من الخيال في الطبيعة فتتحرك شهوتها فتنزل كما يقع في المنام من الاحتلام، وانما أمكن تولد الولد من نطفة واحدة لأنه ثبت في العلوم الطبيعية: أن مني الذكر في تولد الجنين بمنزلة الإنفحة من الجبن، ومني الأنثى بمنزلة اللبن: أي العقد من مني الذكر والانعقاد من مني الأنثى، لا على معنى أن مني الذكر ينفرد بالقوة العاقدة ومني الأنثى ينفرد بالقوة المنعقدة بل على معنى أن القوة العاقدة في مني الذكر أقوى، وإلا لم يمكن أن يتحدا شيئا واحدا ولم ينعقد مني الذكر حتى يصير جزءا من الولد فعلى هذا إذا كان مزاج الأنثى قويا ذكوريا كما تكون أمزجة النساء الشريفة النفس القوية القوى وكان مزاج كبدها حارا كان المني الذي ينفصل عن كليتها اليمنى أحر كثيرا من المني الذي ينفصل عن كليتها اليسرى فإذا اجتمعا في الرحم كان مزاج الرحم قويا في الإمساك والجذب قام المنفصل من الكلية اليمنى مقام مني الرجل في شدة قوة العقد والمنفصل من الكلية اليسرى مقام مني الأنثى في قوة الانعقاد فيخلق الولد.
هذا وخصوصا إذا كانت النفس متأيدة بروح القدس متقوية به يسري أثر اتصالها به إلى الطبيعة والبدن ويغير المزاج ويمد جميع القوى في أفعالها بالمدد الروحاني فتصير أقدر على أفعالها بما لا يضبط في القياس.