فصل: (سورة مريم: الآيات 22- 33).

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



. [سورة مريم: الآيات 22- 33].

{فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكانًا قَصِيًّا (22) فَأَجاءَهَا الْمَخاضُ إِلى جِذْعِ النَّخْلَةِ قالَتْ يا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هذا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا (23) فَناداها مِنْ تَحْتِها أَلاَّ تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا (24) وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُساقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا (25) فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا (26) فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَها تَحْمِلُهُ قالُوا يا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا (27) يا أُخْتَ هارُونَ ما كانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَما كانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا (28) فَأَشارَتْ إِلَيْهِ قالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا (29) قالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتانِيَ الْكِتابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا (30) وَجَعَلَنِي مُبارَكًا أَيْنَ ما كُنْتُ وَأَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ ما دُمْتُ حَيًّا (31) وَبَرًّا بِوالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا (32) والسلام عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا (33)}.

.اللغة:

(قَصِيًّا): بعيدا من أهلها.
(فَأَجاءَهَا): يقال: جاء وأجاء لغتان بمعنى واحد والأصل في جاء أن يتعدى لواحد بنفسه فإذا دخلت عليه الهمزة كان القياس يقتضي تعديته لاثنين إلا أن استعماله قد تغير بعد النقل فصار بمعنى ألجأه إلى كذا ألا تراك لا تقول: جئت المكان وأجاءنيه زيد كما تقول بلغته وأبلغنيه ونظيره آتى حيث لم يستعمل إلا في الإعطاء ولم تقل أتيت المكان وآتانيه فلان.
(الْمَخاضُ): وجع الولادة، وفي القاموس: مخض يمخض بتثليث الخاء في المضارع مخضا اللبن استخرج زبده فهو لبن مخيض وممخوض ومخض الشيء حركه شديدا ومخض الرأي قلبه وتدبر عواقبه حتى ظهر له الصواب ومخضت بكسر الخاء تمخض بفتحها الحامل مخاضا بكسر الميم ومخاضا بفتحها ومخضت بالبناء للمجهول، ومخضت بتشديد الخاء وتمخضت الحامل دنا ولادها وأخذ الطلق فهي ماخض والجمع مخض بضم الميم وتشديد الخاء ومواخض. وللميم والخاء مجتمعتين معنى يكاد يكون متقاربا فهي تشير إلى الانزلاق ومنه مخر البحر والماء أي شقه مع صوت ومخط وامتخط معروفة.
(مِتُّ): بكسر الميم وضمها يقال مات يمات ومات يموت.
(نَسْيًا): النسي بفتح النون وكسرها بمعنى المنسي كالذبح بمعنى المذبوح وكل ما من حقه أن يطرح ويرمى وينسى.
(سَرِيًّا): السري فيه قولان: أحدهما أنه الرجل المرتفع القدر من سرو يسرو كشرف يشرف فهو سري فأعل إعلال سيد فلامه واو يقال هو سري من السراة والسروات، قال بشامة بن حزن النهشلي:
وإن دعوت إلى جلّى ومكرمة ** يوما سراة كرام الناس فادعينا

والثاني أنه النهر الصغير ويناسبه {فكلي واشربي}، واشتقاقه من سرى يسري لأن الماء يسري فيه فلامه على هذا ياء، قال لبيد يصف حمارا وحشيا:
فمضى وقدّمها وكانت عادة ** منه إذا هي عردت أقدامها

فتوسّطا عرض السري فصدعا ** مسجورة متجاورا أقلامها

يقول إنه مضى خلف أتانه نحو الماء وقدمها أمامه وأقدامها اسم كان وألحقها التاء لأنها بمعنى التقدمة وعادة خبر كانت والتعريد التأخر والجبن فتوسطا أي الحمار والأتان عرض السري أي ناحية النهر الصغير فصدعا أي شقا عينا مسجورة أي مملوءة.
(رُطَبًا جَنِيًّا): الرطب بضم ففتح ما نضج من البسر قبل أن يصير تمرا والجني فعيل بمعنى فاعل أي صار طريا صالحا للاجتناء.
(وَقَرِّي عَيْنًا): أي طيبي نفسا ولا تغتمي وارفضي ما أحزنك يقال قرت عينه تقر بفتح العين وكسرها في المضارع وفي وصف العين بذلك تأويلان أولهما أنه مأخوذ من القر وهو البرد وذلك أن العين إذا فرح صاحبها كان دمعها باردا وإذا حزن كان دمعها حارا ولذلك قالوا في الدعاء عليه أسخن اللّه عينك والثاني أنه من الاستقرار والمعنى أعطاه اللّه ما يسكن عينه فلا تطمح إلى غيره وفي المصباح: وقرت العين من باب ضرب قرة بالضم وقرورا بردت سرورا وفي لغة أخرى من باب تعب.
(صَوْمًا): صمتا وخيل صائمة وصيام قال:
خيل صيام وخيل غير صامتة ** تحت العجاج وأخرى تعلك اللجما

وقيل المراد بصائمة وغير صائمة واقفة وغير واقفة.
وصامت الريح ركدت وصام النهار وصامت الشمس كبّدت وجئته والشمس في مصامها وشاخ فصامت عنه النساء.
(فَرِيًّا): الفري البديع من فرى الجلد، والفري العظيم من الأمر يقال في الخير والشر وقيل الفري العجيب وقيل المفتعل ومن الأول الحديث في وصف عمر بن الخطاب: «فلم أرى عبقريا يفرى فريه» والفري قطع الجلد للخرز والإصلاح، وفي المختار: فرى الشيء قطعه لاصلاحه وبابه رمى وفرى كذبا خلقه وافتراه واختلقه والاسم الفرية وقوله تعالى: {شَيْئًا فَرِيًّا} أي مصنوعا مختلقا وقيل عظيما وأفرى الأوداج قطعها وأفرى الشيء شقه فانفرى وتفرى أي انشق، وقال الكسائي: أفرى الأديم قطعه على جهة الإفساد وفراه قطعه على جهة الإصلاح.

.الإعراب:

{فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكانًا قَصِيًّا} الفاء عاطفة على محذوف، تقديره فنفخ جبريل في جيب درعها فحملته وسيأتي سر هذا التعقيب في باب الفوائد {فانتبذت} عطف على {فحملته} و{به} جار ومجرور في موضع نصب على الحال وقد رمق سماءه أبو الطيب المتنبي في قصيدة يمدح بها علي بن مكرم بن سيار التميمي ويصف الخيل:
كأن خيولنا كانت قديما ** تسقّى في قحوفهم الحليبا

فمرّت غير نافرة عليهم ** تدوس بنا الجماجم والتريبا

يريد أن خيولهم لم تنفر منهم كأنها كانت في صغرها تسقى في قحوف رءوسهم اللبن يعنى قحوف رءوس الأعداء والعرب كان من عادتها أن تسقي كرام خيولها اللبن وقحف الرأس ما انضم على أم الدماغ، والجمجمة العظم الذي فيه الدماغ فوطئت رءوسهم وصدورهم ولم تنفر عنهم فكأنها ألفتهم والتريب والتريبة واحدة الترائب وهو موضع القلادة ومن طريف الأخطاء أن بعضهم تصدى لشرح هذا البيت ولما لم يعرف معنى التريب قال بالحرف: والتريب والتراب لغة في التراب. زاده اللّه فهما!!. ومكانا مفعول فيه أو مفعول به وقد تقدم وقصيا صفة.
{فَأَجاءَهَا الْمَخاضُ إِلى جِذْعِ النَّخْلَةِ} الفاء عاطفة للتعقيب وأجاءها فعل ماض ومفعول به مقدم و{المخاض} فاعل مؤخر و{الى جذع النخلة} متعلقان بمحذوف حال وسيأتي السر في تعريف النخلة في باب البلاغة.
(قالَتْ يا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هذا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا) {يا} حرف نداء والمنادى محذوف أو {يا} لمجرد التنبيه وليت واسمها وجملة {مت} خبرها وهي فعل وفاعل والظرف منصوب لأنه أضيف وهو متعلق بمت وهذا مضاف اليه و{كنت} الواو عاطفة و{كان} واسمها و{نسيا} خبرها و{منسيا} تأكيد لنسيا لأنه بمعناه ولك أن تعربه نعتا.
(فَناداها مِنْ تَحْتِها أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا) الفاء عاطفة و{ناداها} فعل ومفعول به وفاعل مستتر يعود على الملك أو عيسى و{من تحتها} متعلقان {بناداها} أي في مكان أسفل من مكانها أو بمحذوف حال من فاعل أي ناداها وهو تحتها وأن مفسرة لأن النداء فيه معنى القول دون حروفه و{لا} ناهية و{تحزني} مجزوم بلا ويجوز أن تكون مصدرية، و{لا} نافية و{تحزني} منصوب بها وأن وما بعدها نصب بنزع الخافض المتعلق بالنداء والأول أسهل وقد حرف تحقيق و{جعل ربك} فعل وفاعل و{تحتك} ظرف متعلق بمحذوف هو المفعول الثاني لجعل و{سريا} هو المفعول الأول وسيأتي السرّ في علة انتزاع الحزن عنها بسبب وجود الطعام والشراب.
(وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُساقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا): الواو عاطفة و{هزي} فعل أمر مبني على حذف حرف العلة والياء هي الفاعل و{إليك} متعلقان بهزي و{بجذع النخلة} أورده بن هشام في مغني اللبيب شاهدا على زيادة الباء في المفعول به وأكثر المعربين على ذلك ولكن الزمخشري قال بعد ذكر وجه الزيادة ما معناه: يحتمل أنه نزل هزي منزلة اللازم وإن كان متعديا ثم عداه بالباء كما يعدى اللازم والمعنى افعلي به الهز و{تساقط} مجزوم لأنه جواب الطلب و{عليك} متعلقان بتساقط و{رطبا} مفعول به و{جنيا} صفة، و{تساقط} يتعدى بنفسه ومن أمثلته لا من شواهده لأن البحتري غير محتج بكلامه:
فمن لؤلؤ تجلوه عند ابتسامها ** ومن لؤلؤ عند الحديث تساقطه

وعن المبرد أن {رطبا} مفعول {هزي} وباء {بجذع النخلة} للاستعانة ولا يخفى ما فيه من التكلف بتأخير ما في حيز الأمر عن جوابه وستأتي أوجه زيادة الباء في باب الفوائد.
{فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا} الفاء الفصيحة أي إذا تم لك هذا كله فكلي، وكلي فعل أمر والياء فاعل وما بعده عطف عليه و{عينا} تمييز من الفاعل لأنه منقول عنه إذ الأصل لتقر عينك.
{فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا} الفاء عاطفة وإن شرطية أدغمت نونها بما الزائدة و{ترين} فعل الشرط وأصله ترأيين بهمزة هي عين الفعل وياء مكسورة هي لامه وأخرى ساكنة هي ياء الضمير والنون علامة الرفع وقد حذفت لام الفعل لتحركها وانفتاح ما قبلها فقلبت ألفا فالتقت ساكنة مع ياء الضمير فحذفت لالتقاء الساكنين، و{من البشر} حال لأنه كان في الأصل صفة لأحدا وأحدا مفعول به.
(فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا) الفاء رابطة لجواب الشرط وقولي فعل أمر مبني على حذف النون والياء فاعل وإن واسمها وجملة {نذرت} خبرها والجملة مقول القول وسيرد إشكال أجبنا عنه في باب الفوائد، و{للرحمن} متعلقان بنذرت و{صوما} مفعول به، {فلن} الفاء استئنافية ولن حرف نفي ونصب واستقبال و{أكلم} منصوب بلن و{اليوم} ظرف متعلق بأكلم وإنسيا مفعول به.
(فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَها تَحْمِلُهُ قالُوا يا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا) الفاء استئنافية وأتت فعل وفاعل مستتر والتاء للتأنيث و{به} علقه أبو البقاء بمحذوف حال أي مصحوبة به وهو جميل ولا نرى مانعا بتعلقه بأتت و{قومها} مفعول به وجملة {تحمله} حال ثانية إما من ضمير مريم وإما من ضمير عيسى في به، {قالوا} فعل وفاعل و{يا} حرف نداء و{مريم} منادى واللام جواب للقسم المحذوف وقد حرف تحقيق و{جئت} فعل وفاعل و{شيئا} مفعول به أي فعلت شيئا و{فريا} نعت ويجوز إعراب {شيئا} على المصدرية أي نوعا من المجيء غريبا.
(يا أُخْتَ هارُونَ ما كانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَما كانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا) {يا} حرف نداء و{أخت هارون} منادى مضاف أي يا شبيهته، و{هارون} رجل صالح شبهوها به في عفتها وصلاحها وليس المراد منه أخوة النسب وقيل إنما عنوا هارون أخا موسى لأنها كانت من نسله والعرب تقول للتميمي يا أخا تميم وقيل غير ذلك مما تراه في المطولات و{ما} نافية و{كان أبوك امرأ سوء} كان واسمها وخبرها وما كا.............
التاريخ غير اسم مريم وهي تحتوي على عدة آيات في ميلاد المسيح كما وردت آيات أخرى في هذا الحادث الجليل.
ولقد اصطفى اللّه آل عمران كما اصطفى آدم ونوحا وآل إبراهيم على العالمين، وكان عمران أبو مريم رجلا تقيا ورعا، كما كانت زوجته صالحة تقية فلما حملت نذرت إلى اللّه أن يكون حملها خادما للهيكل فلما وضعت وتبين لها أنها أنثى، وليس الذكر كالأنثى، سمتها أمها مريم ولكن اللّه تقبلها في الهيكل بقبول حسن وأنبتها نباتا حسنا.
ولم يعش عمران حتى تشب مريم وتكبر فتوفي وهي صغيرة فكفلها زوج خالتها النبي زكريا وكانت مريم صادقة مباركة يفيض اللّه عليها من رزقه من حيث تعلم ولا تعلم فكان زكريا كلما دخل عليها المحراب وجد عندها رزقا كثيرا فيسألها قائلا: يا مريم أنّى لك هذا فتجيبه: هو من عند اللّه.
وكانت مريم تتعبد في الهيكل بعيدا عن أهلها وعن الناس، قد انتبذت مكانا شرقيا في الناصرة من مدينة الجليل، وكانت مخطوبة لرجل من أبناء عمومتها اسمه يوسف النجار ولكن لم يتم زواجهما لأنها وهبت نفسها إلى اللّه ولكن اللّه تعالى شاء أن يهب إلى البشر من هذه الفتاة الطاهرة الكريمة التقية نبيا كريما، ورسولا عظيما، ويجعل منها ومن ابنها آية للناس كما قال تعالى: {وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْناهُما إِلى رَبْوَةٍ ذاتِ قَرارٍ وَمَعِينٍ} لم يتم زواج يوسف بمريم وبعث اللّه جبريل فبشرها بحملها بالسيد المسيح وهي في عزلتها تعبد اللّه وتخلص له العبادة والتقوى فعجبت لذلك وأجفلت وقالت: كيف يكون لي ولد ولم يمسسني بشر، فكان الجواب عليها كما جاء في القرآن، كما صور القرآن فزع مريم في سورة (مريم) حين جاءها الملك بهذه البشارة متمثلا لها في صورة إنسان ظهر لها في عزلتها، على حين غرة من أمرها فاستعاذت باللّه منه فهدأ من روعها وأنبأها أنه مرسل من السماء ليهب لها غلاما زكيا فجاء في هذه السورة {واذكر في الكتاب مريم} إلخ الآيات.
وقد اتفق إنجيل لوقا وإنجيل برنابا والقرآن الكريم في حادث ولادة المسيح على أنه آية للناس ولم يكن نتيجة اتصال مريم بخطيبها يوسف النجار، كما جاء في بعض الأناجيل الاخرى كإنجيل متى الذي نصّ على أن (يسوع بن يوسف النجار ابن يعقوب بن متان بن اليعازر، ابن اليهود بن أخيم) إلى آخر هذا النسب الذي يصل إلى يعقوب بن اسحق بن ابراهيم عليهم السلام.
فالقرآن الكريم نزل بأن مريم عذراء وانه بعد بشارة الملك لها بهذا الغلام الزكي حملت به وانتبذت مكانا بعيدا عن الناس، وعانت وحدها آلام وضعه حتى تمنت الموت قبل هذا كما جاء في القرآن الكريم {فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ} إلخ. الآيات. خاطبها هذا الوليد الكريم في مهده وهدأ من روعها، وطلب إليها أن تستعين على ضعفها بالرطب الجني، والماء الهني أو خاطبها الملك.
وكان أن وقع ما خشيته مريم من اتهامها بالسوء، فلما جاءت به إلى قومها أنكروا عليها، واتهموها بما هي براء منه، فصامت عن الكلام وتولى الطفل الصغير في مهده الدفاع عن أمه الطاهرة النقية كما جاء في القرآن الكريم.
2- أسرار الفاءات:
وعدناك أن نتحدث عن أسرار الفاءات في قوله تعالى: {فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكانًا قَصِيًّا فَأَجاءَهَا الْمَخاضُ} في هذه الفاءات دليل على أن حملها به ووضعها إياه لأنه عطف الحمل والانتباذ إلى المكان الذي مضت اليه والمخاض الذي هو الطلق بالفاء وهي للفور ولو كانت كغيرها من النساء لعطف بثم التي هي للتراخي والمهلة ألا ترى أنه قد جاء في الأخرى: {قتل الإنسان ما أكفره من أي شيء خلقه من نطفة خلقه فقدره ثم السبيل يسره} فلما كان بين تقديره في البطن وإخراجه مدة متراخية عطف ذلك بثم وهذا بخلاف قصة مريم عليها السلام، فانها عطفت بالفاء وقد اختلف الناس في مدة حملها فقيل: أنه كحمل غيرها من النساء وقيل: لا بل كان مدة ثلاثة أيام، وقيل: أقل، وقيل: أكثر، وهذه الآية مزيلة للخلاف لأنها دلت صريحا على أن الحمل والوضع كانا متقاربين على الفور من غير مهلة وربما كان ذلك في يوم واحد أو أقل أخذا بما دلت عليه الآية. هذا ما ورد في المثل السائر لابن الأثير، وقد رد ابن أبي الحديد في الفلك الدائر على ذلك بما أوردناه في سورة النحل من أن التعقيب على حسب ما يصح إما عقلا وإما عادة إلى أن يقول: وليست الفاء للفور الحقيقي الذي معناه حصول هذا بعد هذا بغير فصل ولا زمان كما توهمه هذا الرجل ألا ترى إلى قوله تعالى: {لا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذابٍ} فإن العذاب متراخ عن الافتراء فلا يدل قوله تعالى في قصة مريم على أن الحمل والمخاض كانا في يوم واحد.
قلت: بحث ابن أبي الحديد متجه والذي قاله ابن الأثير لا يخلو من ضعف وقد اختلف المفسرون في مدة حملها فقال ابن عباس تسعة أشهر كما في سائر النساء وقال عطاء وأبو العالية والضحاك سبعة أشهر وقال ابن عباس أيضا في ساعة واحدة وقال آخر لثمانية أشهر وقال آخرون ستة أشهر وقال آخرون ثلاث ساعات ورجح الامام الرازي أنه في ساعة وقال: (ويمكن الاستدلال له بوجهين) وذكر في الوجه الاول ما قاله ابن الأثير وذكر في الوجه الثاني: (ان اللّه تعالى قال في وصفه: أن مثل عيسى عند اللّه كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون فثبت أن عيسى عليه السلام لما قال اللّه له كن فكان وهذا مما لا يتصور فيه مدة الحمل انما تعقل تلك المدة في حق من يتولد من النطفة).
ومذهب الشافعية أن أكثر مدة الحمل أربع سنين وأقله ستة أشهر وقد ولد الضحاك بن مزاحم لستة عشر شهرا وشعبة ولد لسنتين وهرم بن سنان ولد لأربع سنين ولذلك سمي هرما ومالك بن أنس حمل به أكثر من ثلاث سنين، والحجاج بن يوسف ولد لثلاثين شهرا، ويقال أنه كان يقول: اذكروا ليلة ميلادي، ويقال: إن عبد الملك بن مروان حمل به ستة أشهر والشافعي حمل به أربع سنين أو أقل، والحنفية يقولون للشافعية: ما جسر إمامكم أن يظهر إلى الوجود حتى توفي إمامنا، ويجيبهم الشافعية بقولهم: بل إمامكم ما ثبت لظهور إمامنا.
القول الفصل في الفاء العاطفة:
والفاء في أصل وضعها للترتيب المتصل، والترتيب على ضربين:
1- الترتيب في المعنى: هو أن يكون المعطوف بها لاحقا متصلا بلا مهلة كقوله تعالى: {خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ} والأكثر كون المعطوف بها متسببا عما قبله كقولك: أملته فمال وأقمته فقام.