فصل: قال القاسمي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وقيل لأن ذلك موجب لانقطاع رجائه عن حصول الولد منها وهي في تلك الحال واستيهابه على الوجه الذي يشاؤه الله تعالى، وهو مبني على القول الثاني في المراد من {هَبْ لِى مِن لَّدُنْكَ وَلِيًّا} والأول أولى.
ولا يقدح فيما ذكر أن يكون هناك داع آخر إلى الإقبال على الدعاء من مشاهدته عليه السلام للخوارق الظاهرة في حق مريم كما يعرب عنه قوله تعالى: {هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ} [آل عمران: 38] الآية.
وعدم ذكره هاهنا للتعويل على ما ذكر هنالك كما أن عدم ذكر مقدمة الدعاء هنالك للاكتفاء بذكرها ههنا، والاكتفاء بما ذكر في موطن عما ترك في موطن آخر من السنن التنزيلية وقوله: {يَرِثُنِى وَيَرِثُ مِنْ ءالِ يَعْقُوبَ} صفة لوليا كما هو المتبادر من الجمل الواقعة بعد النكرات، ويقال: ورثه وورث منه لغتان كما قيل، وقيل من للتبعيض لا للتعدية، وآل الرجل خاصته الذين يؤل إليه أمرهم للقرابة أو الصحبة أو الموافقة في الدين، ويعقوب على ما روى عن السدي هو يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم فإن زكريا من ولد هرون وهو من ولدي لاوي بن يعقوب وكان متزوجًا باخت مريم بنت عمران وهي من ولد سليمان بن داود عليهما السلام وهو من ولد يهوذ بن يعقوب أيضًا.
وقال الكلبي: ومقاتل: هو يعقوب بن ماثان وأخوه عمران بن ماثان أبو مريم.
وقيل: هو أخو زكريا عليه السلام والمراد من الوراثة في الموضعين العلم على ما قيل.
وقال الكلبي: كان بنو ماثان رؤس بني إسرائيل وملوكهم وكان زكريا عليه السلام رئيس الأحبار يومئذ فأراد أن يرثه ولده الحبورة ويرث من بني ماثان ملكهم فتكون الوراثة مختلفة في المضعين وأيد ذلك بعدم اختيار العطف على الضمير المنصوب والاكتفاء بيرث الأول، وقيل الوراثة الأولى وراثة التبوة والثانية وراثة الملك فتكون مختلفة أيضًا إلى أن قوله: {واجعله رَبّ رَضِيًّا} أي مرضيًا عندك قولًا وفعلًا، وقيل راضيًا والأول أنسب يكون على هذا تأكيدًا لأن النبي شأنه أن يكون كذبك، وعلى ما قلنا يكون دعاء بتوفيقه للعمل كما أن الأول متضمن للدعاء بتوفيقه للعلم فكأنه طلب أن يكون ولده عالمًا عاملًا، وقيل: المراد اجعله مرضيًا بين عبادك أي متبعًا فلا يكون هناك تأكيد مطلقًا، وتوسيط {رَبّ} بين مفعولي الجعل على سائر الأوجه للمبالغة في الاعتناء بشأن ما يستدعيه.
واختار السكاكي أن الجملتين مستأنفتان استئنافًا بيانيًا لأنه يرد أنه يلزم على الوصفية أن لا يكون قد وهب لزكريا عليه السلام من وصف لهلاك يحيى عليه السلام قبل هلاكه لقتل يحيى عليه السلام قبل قتله.
وتعقب ذلك في (الكشف) بأنه مدفوع بأن الروايات متعارضة والأكثر على هلاك زكريا قبله عليهما السلام، ثم قال: وأما الجواب بأنه لا غضاضة في أن يستجاب للنبي بعض ما سأل دون بعض ألا ترى إلى دعوى نبينا صلى الله عليه وسلم في حق أمته حيث قال عليه الصلاة والسلام: «وسألته أن لا يذيق بعضهم بأس بعض فمنعنيها» وإلى دعوة إبراهيم عليه السلام في حق أبيه فإنما يتم لو كان المحذور ذلك وإنما المحذور لزوم الخلف في خبره تعالى فقد قال سبحانه وتعالى في الأنبياء: {فاستجبنا لَهُ} [الأنبياء: 76، 84، 88، 90] وهو يدل على أنه عليه السلام أعطى ما سأل من غير تفرقة بين بعض وبعض وكذلك سياق الآيات الأخر.
ولك أن تستدل بظاهر هذه الآية على ضعف رواية من زعم أن يحيى هلك قبل أبيه عليهما السلام، وأما الايراد بأن ما اختير من الحمل على الاستئناف لا يدفع المحذور لأنه وصل معنوي فليس بشيء لأن الوصل ثابت ولكنه غير داخل في المسؤول لأنه بيان العلة الباعثة على السؤال ولا يلزم أن يكون علة السؤال مسؤلة انتهى.
وأجاب بعضهم بأنه حيث كان المراد من الوراثة هنا وراثة العلم لا يضر هلاكه قبل أبيه عليهما السلام لحصول الغرض وهو أخذ ذلك وإفاضته على الغير بحيث تبقى آثاره بعد زكريا عليه السلام زمانًا طويلًا ولا يخفى أن المعروف بقاء ذات الوارث بعد الموروث عنه.
وقرأ أبو عمرو والكسائي والزهري والأعمش وطلحة واليزيدي وابن عيسى الأصفهاني وابن محيصن وقتادة بجزم الفعلين على أنهما جواب الدعاء؛ والمعنى أن تهب لي ذلك يرثني.. إلخ، والمراد أنه كذلك في ظني ورجائي، وقرأ علي كرم الله تعالى وجهه وابن عباس وجعفر بن محمد رضي الله تعالى عنهم والحسن وابن يعمر والجحدري وأبو حرب بن أبي الأسود وأبو نهيك {يَرِثُنِى} بالرفع {وأرث} فعلًا مضارعًا من ورث وخرج ذلك على أن المعنى يرثني العلم وأرث أنا به الملك من آل يعقوب وذلك بجعل وراثة الولي الملك وراثة لزكريا عليه السلام لأن رفعة الولد رفعة للوالد والواو لمطلق الجمع، وقال بعضهم: والواو للحال والجملة حال من أحد الضميرين، وقال (صاحب اللوامح): فيه تقديم ومعناه فهب لي وليًا من آل يعقوب يرثني النبوة إن مت قبله وأرثه ماله إن مات قبلي وفيه ما ستعلمه إن شاء الله تعالى قريبًا، ونقل عن علي كرم الله تعالى وجهه وجماعة أنهم قرأوا {يَرِثُنِى} برفع وأرث بزنة فاعل على أنه فاعل يرثني على طريقة التجريد كما قال أبو الفتح وغيره أي يرثني ولي من ذلك الولي أو به فقد جرد من الولي وليًا كما تقول رأيت مه به أسدًا، وعن الجحدري أنه قرأ {وأرث} بإمالة الواو، وقرأ مجاهد {أَوْ} تصغير وارث وأصله وويرث بواوين الأولى فاء الكلمة الأصلية والثانية بدل ألف فاعل لأنها تقلب واوًا في التصغير كضويرب ولما وقعت الواو مضمومة قبل أخرى في أوله قلبت همزة كما تقرر في التصريف ونقل عنه أنه قال التصغير لصغيره فإنه عليه السلام تورث عنهم أموالهم لأن الوراثة حقيقية في وراثة المال ولا داعي إلى الصرف عن الحقيقة، وقد ذكر الجلال السيوطي في (الدر المنثور) عن ابن عباس ومجاهد وعكرمة وأبي صالح أنهم قالوا في الآية: يرثني مالي وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم عن الحسن أنه صلى الله عليه وسلم قال في الآية: يرحم الله تعالى أخي زكريا ما كان عليه من ورثة وفي رواية ما كان عليه ممن يرث ماله، وقال بعضهم: إن الوراثة ظاهرة في ذلك ولا يجوز هاهنا حملها على وراثة النبوة لئلا يلغو قوله: {يَعْقُوبَ واجعله رَبّ رَضِيًّا} ولا على وراثة العلم لأنه كسبي والموروث حاصل بلا كسب. ومذهب أهل السنة أن الأنبياء عليهم السلام لا يرثون مالًا ولا يورثون لماصح عندهم من الأخبار.
وقد جاء ذلك أيضًا من طريق الشيعة فقد روى الكليني في الكافي عن أبي البختري عن أبي عبد الله جعفر الصادق رضي الله تعالى عنه أنه قال: إن العلماء ورثة الأنبياء وذلك أن الأنبياء لم يورثوا درهمًا ولا دينارًا وإنما ورثوا أحاديث من أحاديثهم فمن أخذ بشيء منها فقد أخذ بحظ وافر، وكلمة إنما مفيدة للحصر قطعًا باعتراف الشيعة، والوراثة في الآية محمولة على ما سمعت ولا نسلم كونها حقيقة لغوية في وراثة المال بل هي حقيقة فيما يعم وراثة العلم والمنصب والمال وإنما صارت لغلبة الاستعمال في عرف الفقهاء مختصة بالمال كالمنقولات العرفية ولو سلمنا أنها مجاز في ذلك فهو مجاز متعارف مشهور خصوصًا في استعمال القرآن المجيد بحيث يساوي الحقيقة، ومن ذلك قوله تعالى: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الكتاب الذين اصطفينا مِنْ عِبَادِنَا} [فاطر: 32] وقوله تعالى: {فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُواْ الكتاب} [الأعراف: 169] وقوله تعالى: {إِنَّ الذين أُورِثُواْ الكتاب مِن بَعْدِهِمْ} [الشورى: 14] وقوله تعالى: {إِنَّ الأرض للَّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ} [الأعراف: 128] {ولله ميراث السموات والأرض} [آل عمران: 180] قولهم لا داعي إلى الصرف عن الحقيقة قلنا: الداعي متحقق وهي صيانة قول المعصوم عن الكذب ودون تأويله خرط القتاد، والآثار الدالة على أنهم يورثون المال لا يعول عليها عند النقاد، وزعم البعض أنه لا يجوز حمل الوراثة هنا على وراثة النبوة لئلا يلغو قوله: {واجعله رَبّ رَضِيًّا} قد قدمنا ما يعلم منه ما فيه.
وزعم أن كسبية الشيء تمنع من كونه موروثًا ليس بشيء فقد تعلقت الوراثة بما ليس بكسبي ف يكلام الصادق، ومن ذلك أيضًا ما رواه الكليني في الكافي عن أبي عبد الله رضي الله تعالى عنه قال: إن سليمان ورث داود وإن محمدًا صلى الله عليه وسلم ورث سليمان عليه السلام فإن وراثة النبي صلى الله عليه وسلم سليمان عليه السلام لا يتصور أن تكون وراثة غير العلم والنبوة ونحوهما، ومما يؤيد حمل الوراثة هنا على وراثة العلم ونحوه دون المال أنه ليس في الأنظار العالية والهمم العلياء للنفوس القدسية التي انقطعت من تعلقات هذا العالم المتغير الفاني واتصلت بالعالم الباقي ميل للمتاع الدنيوي قدر جناح بعوضة لاسيما جناب زكريا عليه السلام فإنه كان مشهورًا بكمال الانقطاع والتجرد فيستحيل عادة أن يخاف من وراثة المال والمتاع الذي ليس له في نظره العالي أدنى قدر أو يظهر من أجله الكلف والحزن والخوف ويستدعي من حضرة الحق سبحانه وتعالى ذلك النحو من الاستدعاء وهو يدل على كمال المحبة وتعلق القلب بالدنيا، وقالت الشيعة: إنه عليه السلام خاف أن يصرف بنو عمه ماله بعد موته فيما لا ينبغي فطلب لو الوارث المرضي لذلك، وفيه أن ذلك مما لا يخاف منه إذ الرجل إذا مات وانتقل ماله بالوراثة إلى آخر صار المال مال ذلك الآخر فصرفه على ذمته صوابًا أو خطأ ولا مؤاخذة على الميت من ذلك الصرف بل لا عتاب أيضًا مع أن دفع هذا الخوف كان ميسرًا له عليه السلام بأن يصرفه قبل موته ويتصدق به كله في سبيل الله تعالى ويترك بني عمه الأشرار خائبين لسوء أحوالهم وقبح أفعالهم.
وللأنبياء عليهم السلام عند الشيعة خبر بزمن موتهم وتخيير فيه فما كان له خوف موت الفجأة أيضًا فليس قصده عليه السلام من مسألة الولد سوى إجراء أحكام الله تعالى وترويج الشريعة وبقاء النبوة في أولاده فإن ذلك موجب لتضاعف الأجر إلى حيث شاء الله تعالى من الدهر، ومن أنصف لم يتوقف في قبول ذلك والله تعالى الهادي لأقوم المسالك. اهـ.

.قال القاسمي:

{كهيعص ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا} [1- 3].
{كهيعص} سلف في أول سورة البقرة الكلام على هذه الأحرف، المبتدأ بها. وأولى الأقوال بالصواب أنها أسماء للسورة المبتدأ بها. وكونها خبر مبتدأ محذوف. أي: هذا: {كهيعص} أي: مسمى به، وقوله تعالى: {ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا} مبتدأ خبره محذوف. أي: فيما يتلى عليك. أو خبر محذوف. أي: هذا المتلوّ ذكرها وزكريا والد يحيى عليهما السلام. بدل من عبده أو عطف بيان له. قال المهايميّ: أي: ذكر الله لنا ما رحم به زكريا عليه السلام بمقتضى كمال ربوبيته. فأعطاه ولدًا كاملًا في باب النبوة. فبشره بنفسه تارة وبملائكته أخرى. وتولى تسميته ولم يشرك فيه من تقدمه. وذكرُها لنا كبير هبة لنا، في تعريف مقام النبوة، وقدرة الله وعنايته بصفوته.
{إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا} ظرف لرحمة أو بدل اشتمال من زكريا والنداء في الأصل رفع الصوت وظهوره. والمراد به الدعاء. وقد راعى أدب الدعاء، وهو إخفاؤه، لكونه أبعد عن الرياء، وأدخل في الإخلاص. ثم فسر الدعاء بقوله: {قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي} أي: ضعف. قال الزمخشريّ: وإنما ذكر العَظْم لأنه عمود البدن. وبه قوامه، وهو أصل بنائه. فإذا وهن تداعى وتساقطت قوته. ولأنه أشد ما فيه وأصلبه. فإذا وهن كان ما وراءَه أوهن. ووحّده، لأن الواحد هو الدال على معنى الجنسية، المنبئة عن شمول الوهن بكل فرد من أفراده. وقرئ: {وَهُِنَ} بكسر الهاء وضمها: {وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا} قال الزمخشريّ: شبه الشيب بشواظ النار في بياضه وإنارته، وانتشاره في الشعر وفشوه فيه، وأخذه منه كل مأخذ- باشتعال النار. ثم أخرجه مخرج الاستعارة. ثم أسند الاشتعال إلى مكان الشعر ومنبته وهو الرأس. وأخرج الشيب مميزًا ولم يضف الرأس اكتفاءً بعلم المخاطب أنه رأس زكريا. فمن ثم فصحت هذه الجملة وشهد لها بالبلاغة. وظاهره أن فيه استعارتين مبنيتين على تشبيهين: أولاهما تصريحية تبعية في اشتعل بتشبيه انتشار المبيضّ في المسودّ باشتعال النار، كما قال ابن دريد في (مقصورته):
إِمَّا تَرَى رَأْسِيَ حَاكى لَوْنُهُ ** طرّةَ صبحٍ تَحْتَ أذيال الدجا

واشتعل المبيضُّ في مسودِّهِ مثلَ ** اشتعالِ النَّارِ في جَزْلِ الغضَا

والثانية مكنية. بتشبيه الشيب، في بياضه وإنارته، باللهب. وهذا بناء على أن المكنية قد تنفك عن التخييلية، وعليه المحققون من أهل المعاني. وقيل: إن الاستعارة هنا تمثيلية. فشبه حال الشيب بحال النار، في بياضه وانتشاره: {وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا} أي: ولم أكن بدعائي إياك خائبًا في وقت لم أعوّد منك إلا الإجابة في الدعاء، ولم تردَّني قط. وهذا توسل منه إلى الله تعالى بما سلف له معه من الاستجابة، إثر تمهيد ما يستدعي الرحمة ويستجلب الرأفة، من كبر السن وضعف الحال. فإنه تعالى بعدما عوَّد عبده بالإجابة دهرًا طويلًا. لا يكاد يخيبه أبدًا. لاسيما عند اضطراره وشدة افتقاره.
تنبيه:
استفيد من هذا الآيات آداب الدعاء وما يستحب فيه. فمنها الإسرار بالدعاء، لقوله خَفِيًّا ومنها استحباب الخضوع في الدعاء وإظهار الذل والمسكنة والضعف لقوله: {وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا} ومنها التوسل إلى الله تعالى بنعمه وعوائده الجميلة لقوله: {وَلَمْ أَكُنْ}.. إلخ. كما قدمنا.
{وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائي} أي: الذين يلون أمر رهطي من بعد موتي، لعدم صلاحية أحد منهم لأن يخلفني في القيام بما كنت أقوم به، من الإرشاد ووعظ العباد، وحفظ آداب الدين. والتمسك بهديه المتين: {وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا} أي: لا تلد من حين شبابها: {فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ} أي: هب لي ولدًا، يلي من الأمر ما كنت إليه وارثًا، لي ولآل يعقوب، في العلم والنبوة. وفي قوله: {مِنْ لَدُنْكَ} إعلام بأنه من محض الفضل وخرق العادة. لعدم صلاحية زوجه للحمل. وتنويه به لكونه مضافًا إلى الله تعالى، وصادرًا من عنده. وآل يعقوب أولاده الأنبياء، عليهم السلام {وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا} أي: مرضيًّا عندك قولًا وفعلًا. اهـ.

.قال الشنقيطي:

{كهيعص (1) ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا (2)}.
قد قدمنا الكلام على الحروف المقطعة في أوائل السور. كقوله هنا: {كهيعص} في سورة هود فأغنى عن إعادته هنا. وقوله: {ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ} خبر مبتدأ محذوف. اي هذا ذكر رحمة ربك. وقيل: مبتدأ خبره محذوف، وتقديره: فيما يتلى عليكم ذكر رحمة ربك، والأول، والأول أظهر. والقول بأنه خبر عن قوله ظاهر السقوط لعدم ربط بينهما. وقوله: {ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ} لفظه {ذكر} مصدر مضاف إلى مفعوله. ولفظة {رحمة} مصدر مضاف إلى فَاعله وهو {ربك}. وقوله: {عبده} مفعول به للمصدر الذي هو {رحمة} المضاف إلى فاعله، على حد قوله في الخلاصة:
وبعد جره الذي الذي أضيف له... كمل بنصب أو برفع علمه وقوله: {زكريا} بدل من قوله: {عبده} أو عطف عليه.
وقد بين جل وعلا في هذه الآية: أن هذا الذي يتلى في أول هذه لسورة الكريمن هو ذكر الله رحمته التي رحم بها عبده زكريا حين ناداه نداء خفيًا أي دعاه في سر وخفية. وثناؤه جل وعلا عليه يكون دعائه خفيًا يدل على أن إخفاء الدعاء أفضل من إظهاره وإعلانه. وهذا المعنى المفهوم من هذه الآية جاء مصرحًا به في قوله تعالى: {قُلْ مَن يُنَجِّيكُمْ مِّن ظُلُمَاتِ البر والبحر تَدْعُونَهُ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً} [الأنعام: 63] الآية، وقوله تعلى: {ادعوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ المعتدين} [الأعراف: 55]. وإنما كان الإخفاء أفضل من الإظهار لأنه أقرب إلى الإخلاص، وأبعد من الرياء. فقول من قال: إن سبب إخفائه دعاءه أنه خوفه من قومه أن يلوموه على طلب الولد، في حالة لا يمكن فيها الولد عادة لكبر سنه وسن امرأته، وكونها عاقرًا. وقول من قال: إنه أخفاه لأنه طلب أمر دنيوي، فإن أجبا الله دعاءه فيه نال ما كان يريد. وإن لم يجبه لم يعلم ذلك أحد، إلى غير ذلك من الأقوال، كل ذلك ليس بالأظهر. والأظهر أن السر في إخفائه هو ما ذكرنا من كون الإخفاء أفضل من الإعلان في الدعاء. ودعاء زكريا هذا لم يبين الله في هذا الموضع مكانه ولا وقته، ولكنه أشار إلى ذلك في سورة (آل عمران) في قوله: {كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا المحراب وَجَدَ عِندَهَا رِزْقًا قَالَ يامريم أنى لَكِ هذا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ الله إنًّ الله يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً} [آل عمران: 37-38] الآية. فقوله: {هنالك} اي في ذلك المكان الذي وجد فيه ذلك الرزق عند مريم. وقال بعضهم: {هنالك} أي في ذلك الوقت، بناء على أن هنا ربما أشير بها إلى الزمان.