فصل: قال القاسمي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال القاسمي:

{يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا}.
أي: مثلًا وشبيهًا. وعن ابن عباس: لم تلد العواقر قبله مثله. وروي أنه لم يعص، ولم يهمّ بمعصية قط.
{قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا}.
أي: حالة لا سبيل إلى إصلاحها ومداواتها. وقيل: إلى رياضته. وهي الحال المشار إليها بقول الشاعر:
ومن العناء رياضة الهرم

قال الراغب: {قَالَ كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا} أي: من إنسان ونطفة وعلقة وعناصر، ثم وجدت.
قال الزمخشري: فإن قلت: لِمَ طلب أولًا، وهو وامرأته على صفة العتيّ والعقر، فلما أسعف بطلبته استبعد واستعجب؟ قلت: ليجاب بما أجيب به، فيزداد المؤمنون إيقانًا، ويرتدع المبطلون. وإلا فمعتقد زكريّا أولًا وآخرًا، كان في منهاج واحد، هو أن الله غنيٌّ عن الأسباب. انتهى.
وقال أبو السعود: إنما قال عليه السلام، مع سبق دعائه بذلك وقوة يقينه بقدرة الله لاسيما بعد مشاهدته للشواهد المذكورة في سورة آل عِمْرَان، استعظامًا لقدرة الله تعالى، وتعجيبا منها، واعتدادًا بنعمته تعالى عليه في ذلك، بإظهار أنه من محض لطف الله عز وعلا وفضله. مع كونه في نفسه من الأمور المستحيلة عادة، لا استبعادًا له. وقيل: كان ذلك منه استفهامًا عن كيفية حدوثه. أي: أيكون الولد ونحن كذلك؟ فقيل: كذلك. أي: يكون الولد وأنتما كذلك. اهـ.

.قال الشنقيطي:

{يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا (7)}.
في هذه الآية الكريمة حذف دل المقام عليه، وتقديره: فأجاب الله دعاءه فنودي {يا زكريا} الآية. وقد أوضح جل وعلا في موضع آخر هذا الذي أجمله هنا، فبين أن الذي ناداه بعض الملائكة. وأن النداء المذكور وقع وهو قائم يصلي في المحراب. وذلك قوله تعالى: {فَنَادَتْهُ الملائكة وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي المحراب أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بيحيى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِّنَ الله وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِّنَ الصالحين} [آل عمران: 39]، وقوله تعالى: {فَنَادَتْهُ الملائكة} قال بعض العماء: أطلق الملائكة وأراد جبريل. ومثل بع بعض علماء الأصول العالم المارد به الخصوص قائلًا: إنه اراد بعموم الملائكة خصوص جبريل، وإسناد الفعل للمجموع مرادًا بعضه قد بيناه فيما مضى مرارًا.
وقوله في هذه الآية الكريمة: {اسمه يحيى} يدل على أن الله هو الذي سماه، ولم يكل تسميته إلى أبيه. وفي هذا منقبة عظيمة ليحيى.
وقوله في هذه الآية الكريمة: {لَمْ نَجْعَل لَّهُ مِن قَبْلُ سَمِيًّا} اعلم أولًا أن السمى يطلق في اللغة العربية إطلاين: الأول قولهم: فلان سمى فلان اي مسمى باسمه. فمن كان اسمهما واحدًا فكلاهما سمي الآخر أي مسمى باسمه.
والثاني- إطلاق السمي يعني المسامي أي المماثل في السمو والرفعة والشرف، وهو فعيل بمعنى مفاعل من السمو بمعنى العلو والرفعة، ويكثر في اللغة إتيان الفعيل بمعنى المفاعل. كالقعيج والجليس بمعنى المقاعد والمجالس. والأكيل والشريب بمعنى المؤاكل والمشارب، وكذلك السمي بمعنى المسامي أي المماثل في السمو. فإذا علمت ذلك- فاعلم أن قوله هنا {لَمْ نَجْعَل لَّهُ مِن قَبْلُ سَمِيًّا} أي لم نجعل من قبله أحدًا يتسمى باسمه. فهو أول من كان اسمه يحيى. وقول من قال: إن معناه لم نجعل له سميًا أي نظيرًا في السمو والرفعة غير صواب لأنه ليس بأفضل من إبراهيم وموسى ونوح، فالقول الأول هو الصواب. وممن قال به ابن عباس وقتادة والسدي وابن أسلم وغيرهم. ويروى القول الثاني عن مجاهد وابن عباس أيضًا. وإذا علمت أن الصواب أن معنى قوله: {لَمْ نَجْعَل لَّهُ مِن قَبْلُ سَمِيًّا} أي لم نسم أحدًا باسمه قبله- فاعلم أن قوله: {رَّبُّ السماوات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا فاعبده واصطبر لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} [مريم: 65] معناهك أنه تعالى ليس له نظير ولا مماثل يساميه في العلو والعظمة والكمال على التحقيق. وقال بعض العلماء: وهو مروي عن ابن عباس {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} هل تعلم أحدًا يسمى باسمه الرحمن جل وعلا. والعلم عند الله تعالى.
{قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا (8)}.
ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أن زكريا لما بشر بيحيى قال: {رَبِّ أنى يَكُونُ لِي غُلاَمٌ وَكَانَتِ امرأتي عَاقِرًا وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الكبر عِتِيًّا} وهذا الذي ذكر أنه قاله هنا ذكره أيضًا في (آل عمران) في قوله: {قَالَ رَبِّ أنى يَكُونُ لِي غُلاَمٌ وَقَدْ بَلَغَنِي الكبر وامرأتي عَاقِرٌ} [آل عمران: 40]. وقوله في هذه الآية الكريمة {وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الكبر عِتِيًّا} قرأه حمزة والكسائي وحفص عن عاصم {عتيًا} بضمها على الأصل. ومعنى قوله: {وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الكبر عِتِيًّا} بكسر العين إتباعًا للكسرة التي بعدها، ومجانسة للياء وقرأه الباقون {عتيًا} بضمها على الأصل. ومعنى قوله: {وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الكبر عِتِيًّا} أنه بلغ غاية الكبر في السن. حتى نحل عظمه ويبس. قال ابن جرير الطبري رحمه الله في تفسيره هذه الآية: يقول وقد عتوت من الكبر فصرت نحيل العظام يابسها. يقال منه للعود اليابس: عود عات وعاس. وقد عتا عتوًا وعتيًا. وعسا يعسو عسيًا وعسوا. وكل متناه إلى غاية في كبر أو فساد أو كفر فهو عات وعاس.
تنبيه:
فإن قيل: ما وجه استفهام زكريا في قوله: {أنى يَكُونُ لِي غُلاَمٌ} مع علمه بقدرة الله تعالى على كل شيء.
فالجواب من ثلاثة أوجه قد ذكرناها في كتابنا (دفع إيهام الاضطراب عند آيات الكتاب) في سورة (آل عمران) وواحد منها فيه بعد وإن روى عن عكرمة والسدي وغيرهما.
الأول- أن استفهام زكريا استفهام استخبار استعلام. لأنه لايعلم هل الله يأتيه بالولد من زوجه العجوز على كبر سنهما على سبيل خرق العادة. أو يأمر بأن يتزوج شابة، أو يردهما شابين؟ فاستفهم عن الحقيقة ليعلهما. ولا إشكال في هذا، وهو أظهرها.
الثاني- أن استفهامه استفهام تعجب من كمال قدرة الله تعالى.
الثالث- وهو الذي ذكرنا أن فيه بعدًا هو ما ذكره ابن جرير عن عكرمة والسدي: من أن زكريا لما نادته الملائكة وهو قائم يصلي في المحراب أن الله يبشرك بيحيى، قال له الشيطان: ليس هذا نداء الملائكة، وإنما هو نداء الشيطان، فداخل زكريا الشك في أن النداء من الشيطان، فقال عند الله الشك الناشىء عن وسوسة الشيطان قبل أن يتيقن أنه من الله: {أنى يَكُونُ لِي غُلاَمٌ} ولذا طلب الآية من الله على ذلك بقوله: {قَالَ رَبِّ اجعل لي آيَةً} [مريم: 10] الآية. وإنما قلنا: إن هذا القول فيه بعد لأنه لا يلتبس على زكريا نداء الملائكة بنداء الشيطان.
وقوله في هذه الآية الكريمة {عتيًا} أصله عنوا، فأبدلت الواو ياء. ومن إطلاق العتي الكبر المتناهي قول الشاعر:
إنما يعذر الوليد ولا يع ** ذر من كان في الزمان عتيا

وقراءة: {عسيًا} بالسين شاذة لا تجوز القراءة بها. وقال القرطبي: وبها قرأ ابن عباس، وهي كذلك مصحف أبي.
{قَالَ كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا (9)}.
هذا الذي ذكره تعالى في هذه الآية الكريمة- ذكره أيضًا في (آل عمران) في قوله: {قَالَ كَذَلِكَ الله يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ} [آل عمران: 40]. وقوله في هذه الآية الكريمة {كذلك} للعلماء في إعرابه أوجه:
الأول- أنه خبر مبتدأ محذوف، وتقديره، الأمر كذلك، ولا محالة أن تلد الغلام المذكور. وقيل، الأمر كذلك أنت كبير في السن، وامرأتك عاقر. وعلى هذا فقوله: {قال ربك} ابتداء كلام:
الوجه الثاني- أن {كذلك} في محل نصب ب (قال) وعليه فالإشارة بقوله: {ذلك} إلى مبهم يفسره قوله: {هو عليّ هينٌ} ونظيره على هذا القول قوله تعالى: {وَقَضَيْنَآ إِلَيْهِ ذَلِكَ الأمر أَنَّ دَابِرَ هَؤُلاءِ مَقْطُوعٌ مُّصْبِحِينَ} [الحجر: 66]. وغير هذين من أوجه إعرابه تركناه لعدم وضوحه عندنا. وقوله: {هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ} أي يسير سهل.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: {وَلَمْ تَكُ شَيْئًا} أي ومن خلقك ولم تك شيئًا فهو قادر على أن يرزقك الولد المذكور كما لا يخفى. وهذا الذي قاله هنا لزكريا: من أنه خلقه ولك يك شيئًا- أشار إليه بالنسبة إلى الإنسان في مواضع أخر. كقوله: {أَوَلاَ يَذْكُرُ إلإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا} [مريم: 67] الآية، وقوله تعالى: {هَلْ أتى عَلَى الإنسان حِينٌ مِّنَ الدهر لَمْ يَكُن شَيْئًا مَّذْكُورًا} [الإنسان: 1].
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة {وَلَمْ تَكُ شَيْئًا} دليل على أن المعدوم ليس بشيء. ونظيره قوله تعالى: {حتى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا} [النور: 39]، وهذا هو الصواب. خلافًا للمعتزلة القائلين: إن المعدوم الممكن وجوده شيء، مستدلين لذلك بقوله تعالى: {إِنَّمَآ أَمْرُهُ إِذَآ أَرَادَ شَيْئًا أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ} [يس: 82] قالوا: قد سماه الله شيئًا قبل أن يقول له كن فيكون، وهو يدل على أنه شيء قبل وجوده. ولأجل هذا قال الزمخشري في تفسير هذه الآية: لأن المعدوم ليس بشيء. أو ليس شيئًا يعتد به. كقولهم: عجبت من لا شيء. وقول الشاعر:
وضاقت الأرض حتى كان هاربهم ** إذا رأى شيء ظنه رجلا

لأن مراده بقوله: غير شيء، اي إذا رأى شيئًا تافهًا لا يعتد به كأنه لا شيء لحقارته ظنه رجلًا، لأن غير شيء بالكلية لا يصح وقوع الرؤية عليه. والتحقيق هو ما دلت عليه هذه الآية وأمثالها في القرآن: من أن المعدوم ليس بشيء؟ والجواب عن استدلالهم بالآية: أن ذلك المعدوم لما تعلقت الإرادة بإيجاده، صار تحقق وقوعه كوقوعه بالفعل، كقوله: {أتى أَمْرُ الله فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ} [النحل: 1]، وقوله: {وَنُفِخَ فِي الصور} [الكهف: 99]، وقوله: {وَأَشْرَقَتِ الأرض بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الكتاب وَجِيءَ بالنبيين} [الزمر: 69] الآية، وقوله: {وَسِيقَ الذين كفروا} [الزمر: 71]، وقوله: {وَسِيقَ الذين اتقوا رَبَّهُمْ} [الزمر: 73] الآية، وأمثال ذلك. كل هذه الأفعال الماضية الدالة على الوقوع بالفعل فيما مضى- أطلقت مرادًا بها المستقبل، لأن تحقق وقوع ما ذكره صيره كالواقع بالفعل. وكذلك تسميته شيئًا قبل وجوده لتحقق وجوده بإرادة الله تعالى.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: {وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِن قَبْلُ} قرأه عامة السبعة ما عدا حمزة والكسائي {خلقتك} بتاء الفاعل المضمومة التي هي تاء المتكلم. وقرأه حمزة والكسائي {وقد خلقناك} بنون بعدها ألف، وصيغة الجمع فيها للتعظيم. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا (7)}.
مقول قول محذوف دلّ عليه السياق عقب الدعاء إيجازًا، أي قلنا يا زكرياء.. إلخ.
والتبشير: الوعد بالعطاء.
وفي الحديث: «أنّه قال للأنصَار فأبشروا وأمّلوا»، وفي حديث وفد بني تميم: «اقبَلوا البشرى، فقالوا بشرتَنا فأعطنا».
ومعنى {اسْمُهُ يَحْيَى} سَمّهِ يحيى، فالكلام خبر مستعمل في الأمر.
والسميّ فسروه بالموافق في الاسم، أي لم نجعل له من يوافقه في هذا الاسم من قبل وجوده.
فعليه يكون هذا الإخبار سرًا من الله أودعه زكرياء فلا يظن أنه قد يُسمّي أحد ابنَه يحيى فيما بين هذه البشارة وبين ازدياد الولد.
وهذه منّة من الله وإكرام لزكرياء إذ جعل اسم ابنه مبتكرًا، وللأسماء المبتكرة مزيّة قوّة تعريف المسمى لقلّة الاشتراك، إذ لا يكون مثله كثيرًا مدّة وجوده، وله مزية اقتداء الناس به من بعد حين يسمون أبناءهم ذلك الاسم تيمّنًا واستجادة.
وعندي: أن السّمِيّ هنا هو الموافق في الاسم الوصفي بإطلاق الاسم على الوصف، فإن الاسم أصله في الاشتقاق (وسَم)، والسمة: أصلها وسمة، كما في قوله تعالى: {ليسمُّون الملائكَة تسمية الأنثى} [النجم: 27]، أي يصفونهم أنهم إناث، ومنه قوله الآتي: {هل تعلم له سميًا} [مريم: 65] أي لا مثيل لله تعالى في أسمائه.