فصل: قال الشعراوي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وهذا أظهر في الثناء على يحيى والامتنان على أبيه.
والمعنى: أنه لم يجىء قبل يحيى من الأنبياء من اجتمع له ما اجتمع ليحيى فإنه أعطي النبوءة وهو صبيّ، قال تعالى: {وآتيناه الحكم صبيًا} [مريم: 12]، وجعل حصورًا ليكون غير مشقوق عليه في عصمته عن الحرام، ولئلا تكون له مشقة في الجمع بين حقوق العبادة وحقوق الزوجة، وولد لأبيه بعد الشيخوخة ولأمّه بعد العَقر، وبُعث مبشرًا برسالة عيسى عليه السلام، ولم يكن هو رسولًا، وجعل اسمه العلم مبتكرًا غير سابق من قبله.
وهذه مزايا وفضائل وهبت له ولأبيه، وهي لا تقتضي أنه أفضل الأنبياء لأنّ الأفضلية تكون بمجموع فضائل لا ببعضها وإن جلّت، ولذلك قيل (المزيّة لا تقتضي الأفضليّة) وهي كلمة صدق.
وجملة {قَالَ رَبّ} جواب للبشارة. و{أنى} استفهام مستعمل في التعجب، والتعجب مكنى به عن الشكر، فهو اعتراف بأنها عطية عزيزة غير مألوفة لأنّه لا يجوز أن يسأل الله أن يهب له ولدًا ثمّ يتعجب من استجابة الله له. ويجوز أن يكون قد ظن الله يهب له ولدًا من امرأة أخرى بأن يأذنه بتزوج امرأة غير عاقر، وتقدّم القول في نظير هذه الآية في سورة آل عمران.
وجملة {امرأتي عاقرًا} حال من ياء التكلّم. وكرّر ذلك مع قوله في دعائه {وكَانَتِ امرأتي عاقِرًا}. وهو يقتضي أنّ زكرياء كان يظن أن عدم الولادة بسبب عقر امرأته، وكان الناس يحسبون ذلك إذا لم يكن بالرجل عُنّةٌ ولا خصاء ولا اعتراض، لأنهم يحسبون الإنعَاظ والإنزال هما سبب الحمل إن لم تكن بالمرأة عاهة العُقر.
وهذا خطأ فإن عدم الولادة يكون إمّا لعلّة بالمرأة في رحمها أو لعلة في ماء الرجل يكون غير صالح لنماء البويضات التي تبرزها رحم المرأة.
و{من} في قوله: {من الكبر عُتِيًّا} للابتداء، وهو مجاز في معنى التعليل.
والكِبر: كثرة سني العمر، لأنه يقارنه ظهور قلّة النشاط واختلال نظام الجسم.
و{عُتِيًّا} مفعول {بَلَغْتُ}.
والبلوغ: مجاز في حلول الإبان، وجعل نفسه هنا بالغًا الكبر وفي آية آل عمران (40) قال: {وقد بلغني الكبر} لأن البلوغ لما كان مجازًا في حصول الوصف صح أن يسند إلى الوصف وإلى الموصوف.
والعُتيّ بضم العين في قراءة الجمهور مصدر عتا العود إذا يبس، وهو بوزن فعول أصله عُتُووٌ، والقياس فيه أن تصحح الواو لأنها إثر ضمّة ولكنهم لما استثقلوا توالي ضمتين بعدهما واوان وهما بمنزلة ضمتين تخلصوا من ذلك الثقل بإبدال ضمّة العين كسرة ثم قلبوا الواو الأولى ياء لوقوعها ساكنة إثْرَ كسرة فلما قلبت ياءً اجتمعت تلك الياء مع الواو التي هي لام، وكأنهم ما كسروا التاء في عتي بمعنى اليبس إلاّ لدفع الالتباس بينه وبين العُتوّ الذي هو الطغيان فلا موجب لطلب تخفيف أحدهما دون الآخر.
شبه عظامه بالأعواد اليابسة على طريقة المكنية، وإثباتُ وصف العُتي لها استعارة تخييلية.
{قَالَ كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا (9)}.
فصلت جملة {قَالَ كذلك} لأنها جرت على طريقة المحاورة. وهي جواب عن تعجبه. والمقصود منه إبطال التعجب الذي في قوله: {وكانَتِ امرأتي عاقِرًا وقد بلغتُ مِن الكِبَر عُتِيًا} [مريم: 8]. فضمير {قَالَ} عائد إلى الرب من قوله: {قَالَ رَبّ أنَّى يكونُ لي غُلامٌ} [مريم: 8]. والإشارة في قوله: {كذلك} إلى قول زكرياء {وكانت امرأتي عاقِرًا وقَد بلَغْتُ مِنَ الكِبَرِ عُتِيًّا}. والجار والمجرور مفعول لفعل {قَالَ رَبُّكَ}، أي كذلك الحال من كبرك وعقر امرأتك قدّر ربُّك، ففعلُ {قَالَ رَبُّكَ} مرادٌ به القول التكويني، أي التقديري، أي تعلّق الإرادة والقدرة. والمقصود من تقريره التمهيد لإبطال التعجب الدال عليه قوله: {عَلَيَّ هَيِنٌ}، فجملة {هُوَ عليَّ هَيِنٌ} استئناف بياني جوابًا لسؤال ناشىء عن قوله: {كَذَلِكَ} لأنّ تقرير منشأ التعجب يثير ترقب السامع أن يعرف ما يُبطل ذلك التعجب المقرّر، وذلك كونه هيّنًا في جانب قدرة الله تعالى العظيمة. ويجوز أن يكون المشار إليه بقوله: {كَذلِكَ} هو القول المأخوذ من {قَالَ رَبُّكَ}، أي أن قولَ ربّك {هُوَ عليَّ هَيّنٌ} بلغ غاية الوضوح في بابه بحيث لا يبين بأكثر ما علمت، فيكون جاريًا على طريقة التشبيه كقوله تعالى: {وكذلك جعلناكم أمة وسطا} وقد تقدم في سورة البقرة (143).
وعلى هذا الاحتمال فجملة {هُوَ عليَّ هَينٌ} تعليل لإبطال التعجب إبطالًا مستفادًا من قوله: {كذلك قال ربّك}، ويكون الانتقال من الغيبة في قوله: {قَالَ ربّك} إلى التكلم في قوله: {هُوَ عليَّ هَيّنٌ} التفاتًا. ومقتضى الظاهر: هو عليه هيّن. والهيّن بتشديد الياء: السهل حصوله.
وجملة {وقَدْ خَلقتُكَ من قَبْلُ} على الاحتمالين هي في موضع الحال من ضمير الغيبة الذي في قوله: {هُوَ على هَيِنٌ}، أي إيجاد الغلام لك هيّن عليّ في حال كوني قد خلقتُك من قبل هذا الغلام ولم تكن موجودًا، أي في حال كونه مماثلًا لخلقي إياك، فكما لا عجب من خلق الولد في الأحوال المألوفة كذلك لا عجب من خلق الولد في الأحوال النادرة إذ هما إيجاد بعد عدم.
ومعنى {ولَمْ تَكُ شَيْئًا}: لم تكن موجودًا. وقرأ الجمهور: {وقَدْ خَلَقْتُكَ} بتاء المتكلّم. وقرأه حمزة، والكسائي، وخلف: (وقد خلقناك) بنون العظمة. اهـ.

.قال الشعراوي:

{يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا (7)}.
المتأمل لهذه القصة يجد هذه الآية قد اختصرت من القصة ما يفهم من سياقها ثقةً في نباهة السامع، وأنه قادر على إكمال المعنى، فكأن معنى الآية: سمع الله دعاء زكريا وحيثيات طلبه، فأجابه بقوله: {يازكريآ} [مريم: 7].
وتوجيه الكلام إلى زكريا عليه السلام هكذا مباشرة دليلٌ على سرعة الاستجابة لدعائه، فجاءت الإجابة مباشِرة دون مُقدِّمات.
ومثال ذلك: ما حكاه القرآن من قصة سليمان عليه السلام وبلقيس، قال سليمان: {أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَن يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ قَالَ عِفْرِيتٌ مِّن الجن أَنَاْ آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن تَقُومَ مِن مَّقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ قَالَ الذي عِندَهُ عِلْمٌ مِّنَ الكتاب أَنَاْ آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِندَهُ قَالَ هذا مِن فَضْلِ رَبِّي ليبلوني أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ} [النمل: 3840] فبيْنَ قوله: {قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ} [النمل: 40] وقوله: {رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِندَهُ} [النمل: 40] كلام يقتضيه سياق القصة، كأن نقول: فأذِن له فذهب وأتى بالعرش، لكن جاء الأسلوب سريعًا ليتناسب مع سرعة الحدث في إحضار عرش بلقيس من مكانه.
وقوله: {إِنَّا نُبَشِّرُكَ} [مريم: 7] البشارة: هي الإخبار بما يسرُّك قبل أن يجيء ليستطيل أمدَ الفرح بالشيء السَّار، وقد يُبشرك مُساويك ويكذب في البُشْرى، وقد تأتي الظروف والأحداث مُخالفة لما يظنه، فكيف بك إذا بشّرك الله تعالى؟ ساعة أن تكون البشارة من الله فاعلم أنها حَقٌّ وواقعٌ لا شكَّ فيه.
وقوله: {بِغُلاَمٍ اسمه يحيى} [مريم: 7] أي: وسماه أيضًا. ونحن نعلم أن للبشر اختيارات في وَضْع الأسماء للمسميات، ولهم الحرية في ذلك، فواحدة تُسمى ولدها (حرنكش) هي حرة، والأخرى تسمى ابنتها الزنجية (قمر) هي أيضًا حرة.
إلا أن الناس حين يُسمُّون يتمنون في المسمّى مواصفات تَسرُّ النفس وتقرُّ العين، فحين نُسمِّي سعيدًا تفاؤلًا بأن يكون سعيدًا فعلًا، والاسم وُضِع للدلالة على المسمى، لكن، أيملك هذا المتفائل أن يأتي المسمى على وَفْق ما يحب ويتمنى؟ لا، لا يملك ذلك ولا يضمنه؛ لأن هناك قوة أعلى منه تتحكم في هذه المسألة، وقد يأتي المسمَّى على غير مُراده.
أما إذا كان الذي سمّى هو الله تعالى فلابد أن يتحقق الاسم في المسمَّى، وينطبق عليه، ولابُدَّ أنْ يتحقَّق مراده تعالى في مَنْ سَمَّاه، وقد سَمَّى الحق تبارك وتعالى ابن زكريا يحيى فلابد أن تنطبق عليه هذه الصفة، ويحيى فعل ضده يموت، إذن: فهو سبحانه القادر على أن يُحييه، لكن يحييه إلى متى؟ وكم عامًا؟ الحياة هنا والعيش يتحقق ولو بمتوسط الأعمار مثلًا، فقد أحياه وتحققت فيه صفة الحياة.
ولذلك استدل أهل المعرفة من تسميته يحيى على أن ابن زكريا سيموت شهيدًا ليظل حيًا كما سماه الله وقد كان.
وقوله: {لَمْ نَجْعَل لَّهُ مِن قَبْلُ سَمِيًّا} [مريم: 7] السميُّ: اختلف العلماء في معناها فقالوا: تأتي بمعنى: نظير أو مثيل أو شبيه وإما سميًا يعني: اسمه كاسمه.
ومن ذلك قوله تعالى: {رَّبُّ السماوات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا فاعبده واصطبر لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} [مريم: 65] فقالوا: سميًا هنا تحمل المعنيين: هل تعلم له نظيرًا أو شبيهًا؛ لأنه سبحانه {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11] {وَلَمْ يَكُنْ لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ} [الإخلاص: 4].
ويمكن أن نقول بهذا المعنى أيضًا في قصة يحيى عليه السلام، إلا أنه يقع فيه شيء وهو: أن الله تعالى حينما قال في مسألة يحيى: {لَمْ نَجْعَل لَّهُ مِن قَبْلُ سَمِيًّا} [مريم: 7] واعتبرناها بمعنى المِثْل أو النظير والشبيه، فهذا يعني أنه لم يسبق يحيى واحد مثله في الصلاح والتقوى، فأين إذن أبو الأنبياء إبراهيم عليه السلام؟ وأين إسماعيل وإسحق؟
فهذا المعنى وإن كان السياق يحتمله في غير هذا الموضع إلا أنه لا يستقيم هنا؛ لأن الله تعالى جعل من قَبْل يحيى مَنْ هو أفضل من يحيى، أو مثله على الأقل.
أما المعنى الآخر فيكون: {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} [مريم: 65] أي: هل هناك مَنْ تسمى باسمه تعالى؟ وهذا هو المعنى الذي يستقيم في قصة يحيى عليه السلام؛ لأنه أول اسم وضعه الحق سبحانه على ابن زكريا، ولم يكن أحدٌ تسمى به من قبل، أما بعده فقد انتشر هذا الاسم، حتى قال الشاعر:
وسَمَّيتُه يَحْيى ليحيى فلم يكُنْ ** لِردِّ قَضَاءِ اللهِ فِيهِ سَبِيلُ

ونقف هنا على آية من آيات الله في التسمية، حيث لم يجرؤ أحد حتى من الكفرة والملاحدة الذين يجاهرون بإلحادهم ويعلنون إنكارهم للخالق سبحانه، لم يجرؤ أحدهم أن يسمى ولده (الله)، وحرية اختيار الأسماء مكفولة، وهذا إنْ دَلَّ فإنما يدلُّ على أن كفرهم عناد ولَجَجٌ، وأنهم غير صادقين في كُفْرهم، ويعلمون أن الله موجود؛ لذلك يخافون على أنفسهم وعلى أولادهم أنْ يُسمّوا بهذا الاسم.
إذن: كلمة (سَمِيًا) في مسألة الألوهية تُؤخَذ على المعنيين، أما في مسألة يحيى فلا تحتمل إلا المعنى الثاني.
وَهبْ أن الحق سبحانه وتعالى استعرض الأسماء السابقة فلم يجد في الماضي من سُمِّى (الله) فأعلنها تحديًا: {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} [مريم: 65]؟ فلم يحدث بعد هذا التحدي أنْ يُسمَّى أحد بهذا الاسم.
{قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا (8)}.
لما سمع زكريا عليه السلام البشارة من ربه، واطمأن إلى حصولها أغراه ذلك في أنْ يُوغل في معرفة الوسيلة، وكيف سيتم ذلك، وتتحقق هذه البشارة حالَ كوْنه قد بلغ من الكبر عتيًا وامرأته عاقر؟
لكن ماذا يقصد زكريا من سؤاله، وهو يعلم تمامًا أن الله تعالى عالم بحاله وحال زوجه؟ الواقع أن زكريا عليه السلام لا يستنكر حدوث هذه البشرى، ولا يستدرك على الله، وحاشاه أنْ يقصد ذلك، وإنما أطمعته البُشْرى في أنْ يعرف الكيفية، كما حدث في قصة موسى عليه السلام حينما كلَّمه ربه واختاره، وأفرده بهذه الميزة فأغراه الكلام في أنْ يطلب الرؤيا، فقال: {رَبِّ أرني أَنظُرْ إِلَيْكَ} [الأعراف: 143].
وكما حدث في قصة إبراهيم عليه السلام لما قال لربه: {رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الموتى} [البقرة: 260] وأبو الأنبياء لا يشكّ في قدرة الله تعالى على إحياء الموتى، ولكنه يريد أنْ يعرف هذه الطريقة العجيبة، فالكلام ليس في الحقيقة وجودًا وعدمًا، إنما في كيفية وجود الحقيقة، والكلام في الكيفية لا دخْلَ له بالوجود.
فأخبره الحق سبحانه أن هذه المسألة لا تُقال إنما تُباشَر عمليًا، فأمره بما نعلم من هذه القصة: وهو أن يحضر أربعة من الطير بنفسه، ثم يضمهنّ إليه ليتأكد بنفسه من حقيقتها، ثم أمره أنْ يُقطِّعهن أجزاء، ثم يُفرِّق هذه الأجزاء على قمم الجبال، ثم بعد ذلك ترك له الخالق سبحانه أنْ يدْعُوَهُن بنفسه، وأن يصدر الأمر منه فتتجمع هذه القطع المبعثرة وتدبّ فيها الحياة من جديد، وهذا من مظاهر عظمته سبحانه وتعالى أنه لم يفعل، بل جعل مَنْ لا يستطيع ذلك يفعله. ويقدر عليه.
فإنْ كان البشر يُعَدُّون أثر قدرتهم إلى الضعفاء، فمَنْ لا يقدر على حَمْل شيء يأتي بمَنْ يحمله له، ومَنْ يعجز عن عمل شيء يأتي بمَنْ يقوم به، ويظل هو ضعيفًا لا يقدر على شيء، أما الحق سبحانه وتعالى فيُعدِّي قوته بنفسه إلى الضعيف فيصير قويًا قادرًا على الفعل.
فقوله: {أنى يَكُونُ لِي غُلاَمٌ} [مريم: 8]؟ سؤال عن الكيفية، كما أن إبراهيم عليه السلام لما قال له ربه: {أَوَلَمْ تُؤْمِن} [البقرة: 260]؟ أي: بقدرتي على إحياء الموتى، قال (بَلَى) أي: نعم أومن {وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} [البقرة: 260] أي: الكيفية التي يتم بها الإحياء.
أو: أن زكريا عليه السلام بقوله: {أنى يَكُونُ لِي غُلاَمٌ} [مريم: 8] يريد أن يُوثِّق هذه البشرى ويُسجِّلها، كما تَعِد ولدك بأنْ تشتري له هدية فيُلِحّ عليك في هذه المسألة ليؤكد وَعْدك له، ويستلذ بأنه وَعْد مُحقَّق لا شكَّ فيه، ثم يذكر زكريا حيثيات تعجُّبه من هذا الأمر فيقول: {وَكَانَتِ امرأتي عَاقِرًا وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الكبر عِتِيًّا} [مريم: 8].
عتيًا: من عَتَا يعني طغى وتجبر وأفسد كثيرًا، والعُتُو: الكفر، والعَتيّ: هو القوي الذي لا يُغالب؛ لذلك وصف الكِبَر الذي هو رمز للضعف بأنه عَتِيّ؛ لأن ضعف الشيب والشيخوخة ضَعْف لا يقدر أحد على مقاومته، أو دفعه أبدًا، مهما احتال عليه بالأدوية والعقاقير (والفيتامينات).
ويبدو أن مسألة الولد هذه كانت تشغل زكريا عليه السلام؛ وتُلِح عليه؛ لأنه دعا الله كثيرًا أنْ يرزقه الولد، ففي موضع آخر يقول: {رَبِّ لاَ تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنتَ خَيْرُ الوارثين} [الأنبياء: 89]. فزكريا عليه السلام يريد الولد الذي يَرِثه وهو موروث؛ لأن الله تعالى خير الوارثين.
لكن يأتي الرد: {فاستجبنا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يحيى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ} [الأنبياء: 90] ونلاحظ أنه تعالى قبل أن يقول: {وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ} [الأنبياء: 90] التي ستنجب هذا الولد، قال: {وَوَهَبْنَا لَهُ يحيى} [الأنبياء: 90] فصلاح الزوجَة ليس شرطًا في تحقُّق هذه البشرى وحدوث هذه الهبة.
وهنا مظهر من مظاهر طلاقة القدرة الإلهية التي لا يُعجِزها شيء، فهو سبحانه قادر على إصلاح هذه الزوجة العاقر، فالصنعة الإلهية لا تقف عند حَدٍّ، كما لو تعطَّل عندك أحد الأجهزة مثلًا فذهبتَ به إلى الكهربائي لإصلاحه فوجد التلفَ به كبيرًا، فينصحك بترْكه وشراء آخر جديد، فلا حيلةَ في إصلاحه.
لذلك أصلح الله تعالى لزكريا زوجه حتى لا نظنَّ أن يحيى جاء بطريقة أخرى، والزوجة ما تزال على حالها.
ثم يقول الحق: {قَالَ كذلك قَالَ رَبُّكَ}.
(قَالَ) أي: الحق تبارك وتعالى {كذلك قَالَ رَبُّكَ} [مريم: 9] أي: أنه تعالى قال ذلك وقضى به، فلا تناقش في هذه المسألة، فنحن أعلَم بك وما أنتَ فيه من كِبَر، وأن زوجتك عاقر، ومع ذلك سأهبك الولد.
وقوله تعالى: {هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ} [مريم: 9] وفي آية أخرى يقول في آية البعث: {وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} [الروم: 27] فلا تظن أن الأمر بالنسبة لله تعالى فيه شيء هَيِّن وشيء أَهْوَن، وشيء شاقّ، فالمراد بهذه الألفاظ تقريب المعنى إلى أذهاننا.
والحق سبحانه يخاطبنا على كلامنا نحن وعلى منطقنا، فالخَلْق من موجود أهون في نظرنا من الخلق من غير موجود، كما قال الحق سبحانه تعالى: {أَفَعَيِينَا بالخلق الأول بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِّنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ} [ق: 15].
إذن: فمسألة الإيجاد بالنسبة له تعالى ليس فيها سَهْل وأسْهَل أو صَعْب وأصعب، لأن هذه تُقال لمَنْ يعمل الأعمال علاجًا، ويُزوالها مُزَاولة، وهذا في إعمالنا نحن البشر، أما الحق تبارك وتعالى فإنه لا يعالج الأفعال، بل يقول للشيء كُنْ فيكون: {إِنَّمَآ أَمْرُهُ إِذَآ أَرَادَ شَيْئًا أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ} [يس: 82].
ثم يُدلّل الحق سبحانه وتعالى بالأَقْوى، فيقول: {وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِن قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا} [مريم: 9] فلأن يوجد يحيى من شيء أقلّ غرابة من أن أوجد من لا شيء. اهـ.