فصل: قصة زكريا عليه السلام:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قصة زكريا عليه السلام:

قال الفخر:
تمسكوا بقوله تعالى: {يا زكريا إنا نبشرك بغلام اسمه يحيى لم نجعل له من قبل سميا قال رب أنى يكون لى غلام وامرأتى عاقر وقد بلغت من الكبر عتيا قال كذلك قال ربك هو على هين ولنجعله آية للناس ورحمة منا وكان أمرا مقضيا} قالوا: قد شك في قدرة الله تعالى.
جوابه: لو كان الأمر على ما قالوه لكان زكريا عليه السلام غير عاقل لما سأل الله ذلك فلما أضافه إليه استنكره فاستبعد قدرته عليه كان ذلك من افعال المجانين، فثبت أن الأمر بخلاف ما قالوه وذلك أن زكريا عليه السلام لم يسأل ربه أن يهب له ولدا من جهة الولادة وإنما سأله أن يهب له ولدا من عنده فقال: (هب لى من لدنك وليا) وقال في آل عمران: (هب لى من لدنك ذرية طيبة) إنما سأل ذلك عند ما أخبرته مريم بأن رزقها يأتيها من عند الله فسأل ولدا من عنده فلما بشرته الملائكة بالولد سأل كيف ذلك يقع على كبره، وكيف وكانت امرأته عاقرا؟ فقال: (كذلك يفعل الله ما يشاء). اهـ.

.فوائد لغوية وإعرابية:

قال السمين:
{يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا (7)}.
قوله: {يحيى}: فيه قولان: أحدُهما: أنه سامٌ أعجميٌّ لا اشتقاقَ له، وهذا هو الظاهرُ، ومَنْعُه من الصَّرْفِ للعَلَمِيَّةِ والعُجْمة. وقيل: بل هو منقولٌ من الفعلِ المضارعِ كما سَمَّوْا بيَعْمُرَ ويَعيشَ ويَموتَ، وهو يموتُ بنُ المُزَرَّع.
والجملةُ مِنْ قولِه: {اسمه يحيى} في محلِّ جَرٍّ صفةً ل {غُلام} وكذلك {لَمْ نَجْعَل}. و{سَمِيَّا} كقوله: {رَضِيَّا} إعرابًا وتصريفًا لأنَّه من السُّمُوِّ، وفيه دلالةٌ لقول البصريين: أنَّ الاسمَ من السُّمُوِّ، ولو كان من الوَسْم لقيل: وَسِيما.
{قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا (8)}.
قوله: {عِتِيًّا}: فيه أربعةُ أوجهٍ، أظهرُها: أنه مفعولٌ به، أي: بَلَغْتُ عِتِيًَّا من الكِبَرِ، فعلى هذا {مِنَ الكبر} يجوز أَنْ يتعلَّقَ ب {بَلَغْتُ}، ويجوز أَنْ يتعلَّقَ بمحذوفٍ على أنه حالٌ مِنْ {عِتِيَّا} لأنه في الأصلِ صفةٌ له كما قَدَّرْتُه لك. الثاني: أن يكونَ مصدرًا مؤكِّدًا مِنْ الفعل، لأنَّ بلوغَ الكِبرَ في معناه. الثالث: أنَّه مصدرٌ واقعٌ موقعَ الحالِ من فاعل {بَلَغْتُ}، أي: عاتيًا أو ذاعِتِيّ. الرابع: أنه تمييزٌ. وعلى هذه الأوجهِ الثلاثةِ ف {مِنْ} مزيدةٌ، ذكره أبو البقاء، والأولُ هو الوجهُ.
والعُتُوُّ: بزنة فُعُوْل، وهو مصدرُ عَتا يَعْتُو، أي: يَبِس وصَلُب. قال الزمخشري: (وهو اليُبْس والجَسَاوَةُ في المفاصِلِ والعظام كالعُوْدِ القاحِل يُقال: عَتا العُوْدُ وجَسا، أو بَلَغْتُ مِنْ مدارجِ الكِبَر ومراتبِه ما يُسَمَّى عِتِيَّا) يريد بقوله: (أو بَلَغْتُ) أنه يجوزُ أَنْ يكونَ مِنْ عتا يَعْتُو، أي: فَسَدَ.
والأصل: عُتُوْوٌ بواوين فاسْتُثْقِل واوان بعد ضمتين، فَكُسِرَتِ التاءُ تخفيفًا فانقلبت الواوُ الأولى ياءً لسكونها وانكسارِ ما قبلها، فاجتمع ياءٌ وواوٌ، وسَبَقَتْ إحداهما بالسكون، فَقُلبت الواوُ ياءً وأُدْغِمت فيها الياءُ الأُولى. وهذا الإِعلالُ جارٍ في المفرد كهذا، والجمعِ نحو: (عِصِيّ) إلا أنَّ الكثيرَ في المفردِ التصحيحُ كقوله: {وعَتَوْا عُتُوًَّا كبيرًا} وقد يُعَلُّ كهذه الآية، والكثيرُ في الجمع والإِعلالُ، وقد يُصَحَّحُ نحو: (إنكم لتنظرون في نُحُوّ كثيرة) وقالوا: فُتِيَ وفُتُوّ.
وقرا الأخَوان: {عِتِيَّا} و{صِلِيَّا} و{بِكِيَّا} و{جِثِيَّا} بكسر الفاء للإِتباع، والباقون بالضمِّ على الأصل.
وقرأ عبدُ الله بن مسعود بفتح الأول مِنْ {عَتِيَّا} و{صَلِيَّا} جَعَلَهما مصدَرَيْن على زنة فَعيل كالعَجيج والرَّحيل.
وقرأ عبد الله ومجاهد: {عُسِيَّا} بضم العين وكسر السينِ المهملة. وتقدَّم اشتقاقُ هذه اللفظة في الأعراف وتصريفُها.
{قَالَ كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا (9)}.
قوله: {كذلك}: في محلِّ هذه الكاف وجهان، أحدهما: أنه رفعٌ على خبرِ ابتداءٍ مضمرٍ، أي: الأمرُ كذلك، ويكون الوقف على: {كذلك} ثم يُبْتَدَأ بجملة أخرى. والثاني: أنها منصوبةُ المحلِّ، فَقَدَّره أبو البقاء ب (أَفْعَلُ) مثلَ ما طلبْتَ، وهو كنايةٌ عن مطلوبِه، فَجَعَلَ ناصبَه مقدَّرًا، وظاهرُه أنَّه مفعولٌ به.
وقال الزمخشري: أو نصبٌ ب {قال} و{ذلك} إشارةٌ إلى مُبْهم يُفَسِّره {هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ}، ونحوُه: {وَقَضَيْنَآ إِلَيْهِ ذَلِكَ الأمر أَنَّ دَابِرَ هَؤُلاءِ مَقْطُوعٌ مُّصْبِحِينَ} [الحجر: 66]. وقرأ الحسن {وهُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ} ولا يُخَرَّجُ هذا إلا على الوجه الأول، أي: الأمرُ كما قلت، وهو على ذلك يَهُون عليَّ. ووجهٌ آخرُ: وهو أَنْ يُشارَ ب {ذلك} إلى ما تقدَّم من وَعْدِ الله، لا إلى قولِ زكريَّا. و(قال) محذوفٌ في كلتا القراءتين.- في كلتا القراءتين: يعني قراءةَ العامة وقراءةَ الحسنِ- أي: قال هو عليَّ هيِّن، قال: وهو عَلَيَّ هَيِّن، وإن شئتَ لم تَنْوِه، لأنَّ اللهَ هو المخاطَبَ، والمعنى أنه قال ذلك، ووَعْدُه وقولُه الحق.
وفي هذا الكلامِ قَلَقٌ؛ وحاصلُه يَرْجع إلى أنَّ {قال} الثانيةَ هي الناصبةُ للكاف. وقوله: (وقال محذوفٌ) يعني تفريغًا على أنَّ الكلامَ قد تَمَّ عند {قال ربك} ويُبْتَدأ بقولِه: {هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ}. وقوله: (وإنْ شِئْتَ لم تَنْوِه) أي: لم تَنْوِ القولَ المقدَّرَ، لأنَّ اللهَ هو المتكلَّمُ بذلك.
وظاهرُ كلامِ بعضهِم: أنَّ {قال} الأولى مُسْنَدةٌ إلى ضميرِ المَلَكِ، وقد صَرَّح بذلك ابنُ جريرٍ، وتبعه ابن عطية. قال الطبري: ومعنى قوله: {قال كذلك}، أي: الأمران اللذان ذكرْتَ مِنَ المرأةِ العاقرِ والكِبَرِ هو كذلك، ولكم قال ربُّكِ، والمعنى عندي: قال المَلَكُ: كذلك، أي: على هذه الحال، قال ربك: هو عليَّ هَيِّنٌ. انتهى.
وقرأ الحسن البصري {عَلَيِّ} بكسر ياء المتكلم كقوله:
عَلَيَّ لعمروٍ نِعْمَةٌ بعد نِعْمةٍ ** لوالدِه ليسَتْ بذاتِ عَقَارِبِ

أنشدوه بالكسر. وقد أَمْنَعْتُ الكلامَ في هذه المسألة في قراءةِ حمزةَ {بِمُصْرِخِيِّ}.
قوله: {وَقَدْ خَلَقْتُكَ} هذه جملة مستأنفة. وقرأ الأخَوان {خَلَقْناك} أسنده إلى الواحدِ المعظِّمِ نفسَه. والباقون {خَلَقْتُكَ} بتاءِ المتكلم.
وقوله: {وَلَمْ يَكُ شَيْئًا} جملةٌ حاليةٌ، ومعنى نَفْيِ كونِه شيئًا، أي: شيئًا يُعْتَدُّ به كقوله:
.............................. ** إذا رَأَى غيرَ شَيْءٍ ظَنَّه رَجُلًا

وقالوا: عَجِبْتُ مِنْ لا شيء. ويجوز أن يكونَ قال ذلك؛ لأنَّ المعدومَ ليس بشيءٍ. اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

من لطائف القشيري في الآية:
قال عليه الرحمة:
{يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا (7)}.
أي استجبنا لدعائِك، ونرزقك ولدًا ذكَرًَا اسمُه يحيى؛ تحيا به عُقْرَةُ أُمِّه، ويحيا به نَسَبُكُ، يحيا به ذكْرُك، وما سألَته من أن يكون نائبًا عنك؛ فيحيا به محلُّ العبادة والنبوة في بيتك.
{لَمْ نَجْعَل لَّهُ مِن قَبْلُ سَمِيًّا}: انفراده- عليه السلام- بالتسمية يدل على انفراده بالفضيلة؛ أي لم يكن له سَمِيٌّ قَبْله؛ فلا أحَدَ كُفْؤٌ له في استجماع أوصاف فَضْله.
ويقال لم تجعل له من قبل نظيرًا؛ لأنه لم يكن أحد لا ذنبَ له قَبْلَ النبوة ولا بعدها غيره.
{قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا (8)}.
سأل الوَلدَ فلمَّا أُجِيب قال أَنَّى يكون لي غلام؟ ومعنى ذلك- على ما جاء في التفسير- أن بين سؤاله الولد وبين الإجابة مدةً طويلة؛ فكأنه سأل الولدَ في ابتداء حال سِنِّه، واستجيبت دعوتُه بعد ما تناهى في سِنَّه، فلذلك قال: {أَنَّى يَكُونُ لِى غُلاَمٌ}؟.
ويقال أراد أن يعرف ممن يكون هذا الولد.. أمِنْ هذه المرأة وهي عاقر أم من امرأة أخرى أتزوج بها مملوكة أستفرشها؟ فالسؤال إنما كان لتعيين مَنْ منها يكون الولد. فقال تعالى:
قوله جلّ ذكره: {قَالَ كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَىَّ هَيِّنٌ}.
معناه إجابة الولد لك فيها معجزة ودلالة في هذا الوقت الذي فيه حسب مستقرِّ العادة ولادة مثلِ هذه المرأة دلالةٌ ومعجزةٌ لك على قومك، فتكون للإجابة بالولد مِنْ وَجْهٍ معجزةٌ؛ ومن وجهٍ راحةٌ وكرامةٌ.
قوله جلّ ذكره: {وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِن قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا}.
دلَّت الآية على أن المعدومَ ليس بشيءٍ، لأنه نفي أن يكون قبل خَلْقِه له كان شيئًا. اهـ.

.تفسير الآيات (10- 15):

قوله تعالى: {قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا (10) فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا (11) يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا (12) وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا وَزَكَاةً وَكَانَ تَقِيًّا (13) وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّارًا عَصِيًّا (14) وَسَلَامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا (15)}.

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ثم قيل جوابًا لمن كأنه قال: ما قال بعد علمه بذلك؟: {قال رب} أي أيها المحسن إليّ بالتقريب! {اجعل لي} على ذلك {ءاية} أي علامة تدلني على وقوعه {قال} أي الله: {ءايتك} على وقوع ذلك {ألا تلكم الناس} أي لا تقدر على كلامهم.
ولما بدئت السورة بالرحمة، وكان الليل محل تنزلها «ينزل ربنا كل ليلة إلى السماء الدنيا فيقول»- الحديث، قال: {ثلاث ليال} أي بأيامها- كما ذلك عليه التعبير بالأيام في آل عمران حال كونك {سويًا} من غير خرس ولا مرض ولا حبسة عن مطلق الكلام، بل تناجي ربك فيها بتسبيحه وتحميده وتلاوة كتابه وكل ما أردت من مثل ذلك وكذا من عدا الناس من الملائكة وغيرهم من صالح عباد الله، وجعلت الآية الدالة عليه سكوتًا عن غير ذكر الله دلالة على إخلاصه وانقطاعه بكليته إلى الله دون غيره {فخرج} عقب إعلام الله له بهذا {على قومه} أي عاليًا على العلية منهم {من المحراب} الذي كان فيه وهو صدر الهيكل وأشرف ما فيه، وهو منطلق اللسان بذكر الله منحبسه عن كلام الناس {فأوحى إليهم} أي أشار بشفتيه من غير نطق: قال الإمام أبو الحسن الرماني في آل عمران: والرمز: الإيماء بالشفتين، وقد يستعمل في الإيماء بالحاجبين والعينين واليدين، والأول أغلب؛ قال: وأصله الحركة.
وسبقه إلى ذلك الإمام أبو جعفر بن جرير الطبري فقال: وأما الرمز فإن الأغلب من معانيه عند العرب الإيماء بالشفتين، وقد يستعمل في الإيماء بالحاجبين والعينين أحيانًا، وذلك غير كثير فيهم، وقد يقال للخفي من الكلام الذي مثل الهمس بخفض الصوت الرمز.
ثم نقل أن المراد به هنا تحرك الشفتين عن مجاهد- انتهى.
وهو ظاهر أيضًا في الوحي لأنه مطلق الإشارة والكناية والكلام الخفي، فيجوز أن يكون وحيه بكل منهما، لا يقدر على غير ذلك في مخاطبته للناس، فإذا توجه إلى مناجاة ربه سبحانه انطلق أحسن انطلاق {أن سبحوا} أي أوجدوا التنزيه والتقديس لله تعالى بالصلاة وغيرها {بكرة وعشيًا} فحملت امرأته كما قلنا فولدت ولدًا فسماه يحيى كما بشرناه به فكبر حتى ميز فقلنا: {يا يحيى خذ الكتاب} أي التوراة {بقوة}.
ولما كانت النبوة لا يستضلع بأمرها ويقوى على حملها إلا عند استحكام العقل ببلوغ الأشد، وكان التطويق على أمرها قبل ذلك من العظمة بمكان، دل عليه النون في قوله: {وءاتيناه} بما لنا من العظمة {الحكم} أي النبوة والفهم للتوراة {صبيًا} لغلبة الروح عليه، وهذه الخارقة لم تقتض الحكمة أن تكون لنبينا- صلى الله عليه وسلم- لأن قومه لا عهد لهم بالنبوة، فكانوا إذا كذبوا لا يكون لهم من أنفسهم ما يلزمهم من التناقض، فعُوّض أعظم من ذلك بغرائز الصدق التي أوجبت له تسميته بالأمين ليكونوا بذلك مكذبين لأنفسهم في تكذيبهم له.
وبمزيد إبقاء معجزته القرآنيه بعده تدعو الناس إلى دينه دعاء لا مرد له {و} آتيناه {حنانًا} أي رحمة وهيبة ووقارًا ورقة قلب ورزقًا وبركة {من لدنا} من مستقرب المستغرب من عظمتنا بلا واسطة تعليم ولا تجربة {وزكاة} أي طهارة في نيته تفيض على أفعاله وأقواله {وكان} أي جبلة وطبعًا {تقيًا} حوافًا لله تعالى {وبرًا} أي واسع الأخلاق محسنًا {بوالديه ولم يكن} جبلة وطبعًا {جبارًا} عليهما ولا على غيرهما؛ ثم قيده بقوله: {عصيًا} إشارة إلى أن يفعل فعل الجبارين من الغلظة والقتل والبطش بمن يستحق ذلك كما قال تعالى لخاتم النبيين- صلى الله عليه وسلم- {جاهد الكفار والمنافقين وأغلظ عليهم} [التحريم: 9] فكان مطيعًا لله قائمًا بحقوقه وحقوق عباده على ما ينبغي، فهنيئًا له ما أعطاه من هذه الخلال القاضية بالكمال، والتعبير بصيغة المبالغة يفهم أن المنفي الجبل عليها، وما دونها يذهبه الله بغسل القلب أو غيره {وسلام} أي أيّ سلام {عليه} منا {يوم ولد} من كل سوء يلحق بالولادة وما بعدها في شيء من أمر الدين {ويوم يموت} من كرب الموت وما بعده، ولعله نكر السلام لأنه قتل فما سلم بدنه بخلاف ما يأتي في عيسى عليه الصلاة والسلام {ويوم يبعث} من كل ما يخاف بعد ذلك {حيًا} حياة هي الحياة للانتفاع بها، إجابة لدعوة أبيه في أن يكون رضيًا، وخص هذه الأوقات لأن من سلم فيها سلم في غيرها لأنها أصعب منه؛ أخرج الطبراني عن أبي هريرة- رضي الله عنهم- قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم- «كل بني آدم يلقى الله يوم القيامة بذنب وقد يعذبه عليه إن شاء أو يرحمه إلا يحيى بن زكريا عليهما السلام فإنه كان سيدًا وحصورًا ونبيًا من الصالحين، وأهوى النبي- صلى الله عليه وسلم- إلى قذاة من الأرض فأخذها وقال: ذكره مثل هذه القذاة».
قال الهيثمي: وفيه حجاج ابن سليمان الرعيني وثقه ابن حبان وغيره وضعفه أبو زرعة وغيره، وبقية رجاله ثقات، وأخرجه أيضًا عن عبد الله بن عمرو ابن عباس- رضي الله عنهم- م، لكن ليس فيه ذكر الذكر، ولفظ ابن عباس- رضى الله عنهما ـ: كنت في حلقة في المسجد نتذاكر فضائل الأنبياء- فذكره حتى قال: فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم ـ: «ما ينبغي أن يكون أحد خيرًا من يحيى بن زكريا، قلنا: يا رسول الله! وكيف ذاك؟ قال: ألم تسمعوا الله كيف نعته في القرآن؟ {يا يحيى خذ الكتاب}- إلى قوله: {حيًا}، مصدقًا بكلمة من الله وسيدًا وحصورًا ونبيًا من الصالحين لم يعمل سيئة ولم يهم بهم» ورواه أيضًا البزار وفيه على بن زيد بن جدعان ضعفه الجمهور- وقد وثق، وبقية رجاله ثقات.
وأشار سبحانه بالتنقل في هذه الأطوار إلى موضع الرد على من ادعى لله ولدًا من حيث إن ذلك قاضٍ على الولد نفسه وعلى أبيه بالحاجة، وذلك مانع لكل من الولد والوالد من الصلاحية لمرتبة الإلهية المنزهة عن الحاجة، وقد مضى في آل عمران ما تجب مراجعته. اهـ.