فصل: قال القاسمي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وأخرج مالك وأحمد في الزهد، وابن المبارك وأبو نعيم عن مجاهد قال: كان طعام يحيى بن زكريا عليهما السلام العشب وإنه كان ليبكي من خشية الله تعالى حتى لو كان القار على عينه لخرقه وقد كانت الدموع اتخذت مجرى في وجهه.
{وَبَرّا بوالديه} كثير البر بهما والإحسان إليهما؛ والظاهر أنه عطف على خبر {كان} [مريم: 13] وقيل هو من باب:
علفتها تبنًا وماء باردًا

والمراد وجعلناه برًا وهو يناسب نظيره حكاية عن عيسى عليه السلام، وقرأ الحسن وأبو جعفر في رواية وابن نهيك وأبو مجلز {وَبَرًّا} في الموضعين بكسر الباء أي وذا بر {وَلَمْ يَكُن جَبَّارًا} متكبرًا متعاليًا عن قبول الحق والإذعان له أو متطاولًا على الخلق؛ وقيل: الجبار هو الذي لا يرى لأحد عليه حقًا، وعن ابن عباس أنه الذي يقتل ويضرب على الغضب.
وقال الراغب: هو في صفة الإنسان يقال لمن يجبر نقيصته بادعاء منزلة من التعالي لا يستحقها.
{عَصِيًّا} مخالفًا أمر مولاه عز وجل، وقيل: عاقًا لأبويه وهو فعول وقيل: فعيل، والمراد المبالغة في النفي لا نفي المبالغة.
{وسلام عَلَيْهِ} قال الطبري: أمان من الله تعالى عليه {يَوْمَ وُلِدَ} من أن يناله الشيطان بما ينال به بني آدم {وَيَوْمَ يَمُوتُ} من وحشة فراق الدنيا وهو المطلع وعذاب القبر، وفيه دليل على أنه يقال للمقتول ميت بناء على أنه عليه السلام قتل لبغي من بغايا بني إسرائيل {وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًا} من هول القيامة وعذاب النار. وجيء بالحال للتأكيد، وقيل للإشارة إلى أن البعث جسماني لا روحاني، وقيل للتنبيه على أنه عليه السلام من الشهداء.
وقال ابن عطية: الأظهر أن المراد بالسلام التحية المتعارفة والتشريف بها لكونها من الله تعالى في الماطن التي فيها العبد في غاية الضعف والحاجة وقلة الحيلة والفقر إلى الله عز وجل، وجاء في خبر رواه أحمد في الزهد وغيره عن الحسن أن عيسى ويحيى عليهما السلام التقيا وهما ابنا الخالة فقال يحيى لعيسى: ادع الله تعالى لي فأنت خير مني فقال له عيسى: بل أنت ادع لي فأنت خير مني سلم الله تعالى عليك وإنما سلمت على نفسي.
وهذه الجملة كما قال الطيبي عطف من حيث المعنى على {ءاتيناه الحكم} [مريم: 12] كأنه قيل وآتيناه الحكم صبيًا وكذا وكذا وسلمناه أو سلمنا عليه في تلك المواطن فعدل إلى الجملة الاسمية لإرادة الدوام والثبوت وهي كالخاتمة للكلام السابق. اهـ.

.قال القاسمي:

{قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً} أي: علامة تدلني على تحقق المسؤول ووقوع الحمل، ليطمئن قلبي: {قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَ لَيَالٍ سَوِيّا} أي: لا تقدر على تكليمهم، حال كونك سويًا، بلا مرض في بدنك، ولا في لسانك.
لطيفة:
إنما ذكر الليالي هنا، والأيام في آل عِمْرَان، للدلالة على أنه استمر عليه المنع من كلام الناس، والتجرد للذكر والشكر ثلاثة أيام بلياليها.
والعرب تتجوز أو تكتفي بأحدهما عن الآخر. والنكتة في الاكتفاء بالليالي هنا وبالأيام ثمَّ، أن هذه السورة مكية سابقة النزول. وتلك مدنية. والليالي عندهم سابقة على الأيام. لأن شهورهم وسنيَّهم قمرية، إنما تعرف بالأهلة. ولذلك اعتبروها، في التاريخ، كما ذكره النحاة، فأعطي السابق للسابق.
{فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ}.
أي: مصلاه أو غرفته: {فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ} أي: أشار إليهم رمزًا: {أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا} أي: صلوا لله طرفي النهار، وقوله تعالى: {يَا يَحْيَى} استئناف، طوى قلبه جمل كثيرة، مسارعة إلى الإنباء بإنجاز الوعد الكريم. وهو وجود هذا الغلام المبشّر به، وتعليمه التوراة التي كانوا يتدارسونها بينهم، ويحكم بها النَّبيّون الذين أسلموا للذين هادوا والربانيون والأحبار، وقد كان سنه إذ ذاك صغيرًا. فلهذا نوه بذكره، وبما أنعم عليه وعلى والديه. أي: قلنا يا يحيى: {خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ} أي: تعلم التوراة والعلم بجد وحرص واجتهاد {وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا} أي: الحكمة وفهم التوراة والعلم والاجتهاد في الخير، وهو صبيٌّ، وقوله تعالى: {وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا} أي: وآتيناه حنانًا: وهو التحنن والتعطف والشفقة. وتنوينه للتفخيم. أي: رحمة عظيمة يشفق بها على الخلق. أو حنانًا من الله عليه: {وَزَكَاةً} أي: طهارة من الذنوب، وعصمة بليغة منها: {وَكَانَ تَقِيًّا وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّارًا عَصِيًّا} أي: متكبرًا عاقًا لهما، أو عاصيًا لربه.
{وَسَلامٌ عَلَيْهِ} أي: من الله: {يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا} أي: ليستقبل النعيم الأبدي. والسلام بمعنى السلامة والأمان من الآفات. وفيه معنى التحية والتشريف. وفي ذكر الأحوال الثلاث، زيادة في العناية به، صلوات الله وسلامه عليه. اهـ.

.قال الشنقيطي:

{قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا (10)}.
المراد بالآية هنا العلامة، اي اجعل لي علامة أعلم بها وقوع ما بشرت به من الولد. قال بعض أهل العلم: طلب الآية على ذلك لتتم طمأنينته بوقوع ما بشر به. ونظيره على هذا القول قوله تعالى عن إبراهيم: {قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الموتى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بلى وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} [البقرة: 260]. وقيل: أراد بالعلامة أن يعرف ابتداء حمل امرأته، لأن الحمل في أول زمنه يخفى.
وقوله في هذه الآية الكريمة: {آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ الناس ثَلاَثَ لَيَالٍ سَوِيًّا} اي علامتك على وقوع ذلك ألا تلكم الناس، أي أن تمنع الكلام فلا تطيقه ثلاث ليال بأيامهن في حال كونك سويًا، أي سوى الخلق، سليم الجوارح، ما بك خرس ولا بكم ولطنك ممنوع من الكلام على سبيل خرق العادة، كما قدمنا في (آل عمران). أما ذكر الله فليس ممنوعًا منه بدليل قوله في (آل عمران): {واذكر رَّبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بالعشي والإبكار} [آل عمران: 41]. وقول من قال: إن معنى قوله تعالى. {ثَلاَثَ لَيَالٍ سَوِيًّا} أي ثلاث ليال متتابعات- غير صواب، بل معناه هو ما قدمنا من كون اعتقال لسانه عن كلام قومه ليس لعلة ولا مرض حدث به. ولكن بقدرة الله تعالى وقد قال تعالى هنا {ثلاث ليال} ولم يذكر معها أيامها، ولكنه ذكر الأيام في (آل عمران)، في قوله: {قَالَ رَبِّ اجعل لي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ الناس ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ} [آل عمران: 41] الآية. فدلت الآيتان على أنها ثلاث ليالي بأيامهن.
وقوله تعالى في هذه الآية: {أَلاَّ تُكَلِّمَ الناس} يعنى إلا بالإشارة أو الكتابة، كما دل عليه قوله هنا: {فأوحى إِلَيْهِمْ أَن سَبِّحُواْ بُكْرَةً وَعَشِيًّا} [مريم: 11]، وقوله في (آل عمران): {قَالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ الناس ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ إِلاَّ رَمْزًا} [آل عمران: 41] الآية. لأن الرمز: الإشارة والإيماء بالشفتين والحاجب. والإيحاء في قوله: {فأوحى إِلَيْهِمْ أَن سَبِّحُواْ} الآية، قال بعض العلماء: هو الإشارة وهو الأظهر بدليل قوله: {إلا رمزًا} كما تقدم آنفًا. وممن قال بأن الوحي في الآية الإشارة: قتادة، والكلبي، وابن منبه، والعتبي، كما نقله عنهم القرطبي وغيره. وعن مجاهد، والسدي {فأوحى إليهم} اي كتب لهم في الأرض. وعن عكرمة: كتب لهم في كتاب. والوحي في لغة العرب يطلق على كل إلقاء في سرعة وخفاء. ولذلك أطلق على الإلهام، كما في قوله تعالى: {وأوحى رَبُّكَ إلى النحل} [النحل: 68] الآية. وعلى الإشارة كما هو الظاهر في قوله تعالى: {فأوحى إِلَيْهِمْ أَن سَبِّحُواْ} الآية. ويطلق على الكتابة كما هو القول الآخر في هذه الآية الكريمة. وإطلاق الوحي على الكتابة مشهور في كلام العرب، ومنه قول لبيد بن ربيعة في معلقته:
فمدافع الريان عرى رسمها ** خلقا كما ضمن الوحي سلامها

فقوله: (الوحي) بضم الواو وكسر الحاء وتشديد الياء، جمع وحي بمعنى الكتابة. وقول عنترة:
كوحي صحائف من عهد كسرى ** فأهداها لأعجم طمطمي

وقول ذي الرمة:
سوى الأربع الدهم اللواتي كأنها ** بقية بطوحي في ون الصحائف

وقول جرير:
كأن أخا الكتاب يخط وحيا ** بكاف في منازلها ولام

{فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا (11)}.
ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أن زكريا خرج على قوله من المحراب فأشار إليهم، أو كتب لهم، أن سبحوا الله أول النهار وآخره. فالبكرة أول النهار، والعشي آخره. وقد بين تعالى في (آل عمران) أن هذا الذي أمر به زكريا قومه بالإشارة أو الكتابة من التسبيح بكرة وعشيًا- أن الله أمر زكرياء به أيضًا، وذلك في قوله: {واذكر رَّبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بالعشي والإبكار} [آل عمران: 41]. والظاهر أن هذا المحراب الذي خرج منه على قومه هو المحراب الذي بشر بالولد وهو قائم يصلي فيه المذكور في قوله تعالى: {فَنَادَتْهُ الملائكة وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي المحراب} [آل عمران: 39]. قال أبو عبد الله القرطبي رحمه الله في تفسير هذه الآية: والمحراب: ارفع المواضع، وأشرف المجالس. وكانوا يتخذون المحاريب فيما ارتفع من الآرض اهـ. وقال الجوخري في صحاحه: قال الفراء المحاريب: صدور المجالس، ومنه سمي محراب المسجد، والمحراب: الغرفة. قال وضاح اليمن:
ربة محراب إذا جئتها ** لم ألقها أو أرتقي سلما

ومن هذا المعنى قوله تعالى: {كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا المحراب} [آل عمران: 37] الآية.
تنبيه:
أخذ بعض أهل العلم من هذه الآية الكريمة: مشروعية الإمام على المأمومين في الصلاة. لأن المحراب موضع صلاة زكريا، كما جل عليه قوله: {وهو قائم يصلي في المحراب}. والمحراب أرفع من غيره، فدل ذلك على ما ذكر. قال أبو عبد الله القرطبي في تفسيره: هذه الآية تدل على أن ارتفاع إمامهم على المأمومين كان مشروعًا عندهم. وقد اختلف في هذه المسألة فقهاء الأمصار، فأجاز ذلك الإمام أحمد وغيره، متمسكًا بقصة المنبر. ومنع مالك ذلك في الارتفاع الكثير دون اليسير. وعلل أصحابه المنع بخوف الكبر على الإمام.
قلت: وهذا فيه نظر، وأحسن ما فيه ما رواه أبو داود عن همام: أن حذيفة أم الناس بالمدائن على دكان. فأخذ أبو مسعود بقميصه فجبذه. فلما فرغ من صلاته قال: ألم تعلم أنهم كانوا ينهون عن هذا، أو ينهى عن ذلك؟ قال بلى، ذكرت ذلك حين مددتني. وروي ايضًا عن عدي بن ثابت الأنصاري قالك حدثني رجل أنه كان مع عمار بن ياسر بالمدائن. فأقيمت الصلاة فتقم عمار بن ياسر، وزقام على دكان يصلي والناس أسفل منه فتقدم حذيفة فأخذ على يديه فاتبعه عمار حتى أنزله حذيفة. فلما فرغ عمار من صلاته قال له حذيفة: ألم تسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إذا أم الرجل القوم فلا يقم في مكان أرفع من مقامهم» أو نحو ذلك؟ فقال عمار: لذلك اتبعتك حين أخذت على يدي.
قلت: فهؤلاء ثلاثة من الصحابة قد أخبروا بالنهي عن ذلك، ولم يحتج أحد منهم على صاحبه بحديث المنبر.
فدل على أنه منسوخ، ومما يدل على نسخه: أن فيه عملًا زائدًا في الصلاة وهو النزول والصعود، فنسخ كما نسخ الكلام والسلام. وهذا أولى مما اعتذر به أصحابنا من أن النًّبي صلى الله عليه وسلم كان معصومًا من الكبر. لأن كثيرًا من الأئمة يوجدون لا كبر عندهم. ومنهم من علله بأن ارتفاع المنبر كان يسيرًا، والله أعلم. انتهى كلام القرطبي رحمه الله تعالى.
قال مقيده عفا الله عنه: سنتكلم هنا إن شاء اله تعالى على الأحاديث المذكورة، ونبين أقوال العلماء في هذه المسألة، وأدلتهم وما يظهر رجحناه بالدليل.
أما الحديثان اللذان ذكرهما القرطبي عن ابي داود ساقهما أبو داود في سننه حدثنا أحمد بن سنان وأحمد بن الفرات أبو مسعود الرازي المعنى قال: ثنا يعاى الأعمش عن إبراهيم عن همام: أن حذيفة أم الناس بالمدائن على دكان، فأخذ ابو مسعود بقميصه فجبذه، إلى آخر الحديث. ثم قال أبو داود رحمه الله: حدثنا أحمد بن إبراهيم ثنا حجاج عن ابن جريج أخبرني أبو خالد عن عدي بن ثابت الأنصاري، حدثني رجل أنه كان مع عمار بن ياسر بالمدائن. إلى آخر الحديث. ولا يخفى أن هذا الحديث الأخير ضعيف. لأن الرواي فيه عن عمار رجل لا يُدرى من هو كما ترى. وأما الأثر الأول فقد صححه غير واحد، وروى مرفوعًا صريحًا. قال ابن حجر في (التلخيص) في الكلام على الأثر والحديث المذكورين: ويعارضه ما رواه أبو داود من طريق همام: أن حذيفة أم الناس بالمدائن على دكان فأخذ أبو مسعود بقميصه فجبذه، فلما فرغ من صلاته قال: ألم تعلم أنهم كانوا ينهون عن ذلك؟ قال بلى. وصححه ابن خزيمة وابن جبان والحاكم، وفي رواية للحاكم التصريح برفعه. ورواه ابو داود من وجه آخر، وفيه أن الإمام كان عمار بن ياسر، والذي جبذه حذيفة، وهو مرفوع لكن فيه مجهول. والأول أقوى، ويقويه ما رواه الدارقطني من وجه آخر عن همام عن أبي مسعود: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقوم الإمام فوق شيء والناس خلفه أسفل منه. اه من التلخيص. وقال النووي في (شرح المهذب) في الكلام على حديث صلاة حذيفة على الدكان وجبذ أبي مسعود له المذكور: رواه الشافعي وأبو داود والبيهقي. ومن لا يحصى من كبار المحدثين ومصنفيهم، وإسناده صحيح. ويقال جذب وجبذ، لغتان مشهورتان اه منه. وأما قصة المنبر التي أشار لها القرطبي، وقال: إنها حجة من يجيز ارتفاع الإمام على المأموم- فهي حديث سهل بن سعد: أن النَّبي صلى الله عليه وسلم جلس على المنبر في أول يوم وضع، فكبر وهو عليه ثم ركع ثم نزل القهقرى فسجد وسجد الناس معه، ثم عاد حتى فرغ، فلما انصرف قال: «أيها الناس، إنما فعلت هذا لتأتموا بي، ولتعلموا صلاتي» متفق عليه. أما أقوال الأئمة في هذه المسألة: فمذهب الشافعي فيها هو كراهة علو الإمام على المأموم. وكذلك عكسن إلا إذا كان ذلك لغرض صحيح محتاج إليه، كارتفاع الإمام ليعلم الجاهلين الصلاة كما فعل النًّبي صلى الله عليه وسلم في صلاته على المنبر، وبين أنه فعل ذلك لقصد التعليم، وكارتفاع المأموم ليبلغ غير من المأمومين تكبيرات الإمام فإن كان ارتفاع أحدهما لنحو هذا الغرض استحب له الارتفاع لتحصيل الغرض المذكور.
قال النووي في (شرح المهذب): هذا مذهبنان وهو رواية عن أبي حنيفة، وعنه رواية. أنه يكره الارتفاع مطلقًا، وبه قال مالك والأوزاعي. وحكى الشيخ أبو حامد عن الأوزاعي: أنه قال تبطل به الصلاة.
وأما مذهب مالك في المسألة ففيه تفصيل بين علو الإمام على المأموم وعكسه. فعلو المأموم جائز عنده. وقد رجع إلى كراهته. وبقي بعض أصحابه على قوله بجوازه. وعلو الإمام لا يعجبه. وفي المدونة قال مالك: لا باس في غير الجمعة أن يصلي الرجل بصلاة الإمام على ظهر المسجد والإمام في داخل المسج. ثم كرهه. وأخذ ابن القاسم بقوله الأول. انتهى بواسطة نقل الموق في الكلام على قول خليل بن إسحاق في متصره عاطفًا على ما يجوز. وعلو مأموم ولو بسطح. وفي المدونة أيضًا قال مالك: إذا صلى الإمام بقوم على ظهر المسجد والناس خلفه أسفل من ذلك فلا يعجبني. انتهى بواسطة نقل المواق أيضًا. وقوله: (يعجبني) ظاهر في الكراهة. وحمله بعضهم على المنع. وفي وجوب إعادة الصلاة قولان. ومحل الخلاف ما لم يقصد المرتفع بارتفاعه التَّكَبُّر على الناس، فإن قصد ذلك بطلت صلاته عندهم إمامًا كان أو مأمومًا. وهذه المسألة ذركها خليل بن إسحاق في مختصره في قوله: وعلو مأموم ولو بسطح لا عكسه، وبطلب بقصد إمام ومأموم به الكبر إلا بكشبر اهـ. وقوله: (إلا بكشبر) يعني إلا أن يكون الارتفاع بكشبر (مستثن من قوله) لا عكسه (لا من مسألة قصده الكبر فالصلاة فيها باطلة عندهم مطلقًا: قال المواق في شرحه لكلام خليل المذكور من المدونة: كره مالك وغيره أن يصلي الإمام على شيء أرفع مما يصلي عليه من خلفه، مثل الدكان يكون في المحراب ونحوه. قال ابن القاسم: فإن فعل اعادوا أبدًا، لأنهم يعبثون إلا أن يكون ذلك دكانًا يسير الارتفاع مثل ما كان عندنا بمصر فتجزئهم الصلاة. قال أبو محمد: مثل الشبر وعظم الذراع)- إلى أن قال: (وانظر إذا صلى المقتدي كذلك أعني على موضع مرتفع قصدًا إلى التكبر عن مساواة الإمام. قال ابن بشير: صلاته أيضًا باطلة). اهـ. محل الغرض منه.