فصل: قال نظام الدين النيسابوري في الآيات السابقة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



ويُوحِي إلى الملائكة: {إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الملائكة أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُواْ الذين آمَنُواْ} [الأنفال: 12].
ويُوحِي للصالحين من أتباع الرسل: {وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الحواريين أَنْ آمِنُواْ بِي وَبِرَسُولِي} [المائدة: 111].
ويتعدَّى الإعلام بخفاء إلى الحشرات: {وأوحى رَبُّكَ إلى النحل أَنِ اتخذي مِنَ الجبال بُيُوتًا وَمِنَ الشجر وَمِمَّا يَعْرِشُونَ} [النحل: 68].
بل يتعدَّى الوحي إلى الجماد في قوله تعالى: {إِذَا زُلْزِلَتِ الأرض زِلْزَالَهَا وَأَخْرَجَتِ الأرض أَثْقَالَهَا وَقَالَ الإنسان مَا لَهَا يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا بِأَنَّ رَبَّكَ أوحى لَهَا} [الزلزلة: 15].
وقد يُوحي الشياطين بعضهم إلى بعض: {يُوحِي بَعْضُهُمْ إلى بَعْضٍ زُخْرُفَ القول غُرُورًا} [الأنعام: 112].
ويُوحون إلى أوليائهم: {وَإِنَّ الشياطين لَيُوحُونَ إلى أَوْلِيَآئِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ} [الأنعام: 121] لأن الشيطان لا يأتي الإنسان إلا بطريق خفيٍّ، ووسوسة في خواطره.
أما الوحي الشرعي فهو إعلام من الله وحده إلى نبي يدَّعي النبوة ومعه معجزة، إذن فالوحي: إعلام خفيّ من الله للرسول.
فقوله تعالى: {فأوحى إِلَيْهِمْ} [مريم: 11] أي: قال لهم بطريق الإشارة؛ لأنه لا يتكلم {أَن سَبِّحُواْ بُكْرَةً وَعَشِيًّا} [مريم: 11] بُكرة: أول النهار، وعَشيًا: آخره، يعني: طوِّقوا النهار بالتسبيح بداية ونهاية. وكأن زكريا عليه السلام قد بدتْ عليه علامات الفرح والإنبساط بالبُشْرى، ورأى أن شُكْره لله وتسبيحه لا ينهض بهذه النعمة، فأمر قومه أنْ يُسبِّحوا الله معه، ويشكروه معه على هذه النعمة؛ لأنها لا تخصُّه وحده، بل هي عامة لكل القوم.
ثم يقول تعالى: {يا يحيى خُذِ الكتاب}.
نلحظ أن الآية الكريمة انتقلتْ بنا نَقْلة واسعة، وطوَتْ فترة طويلة من حياة يحيى عليه السلام فقد كان السياق يتحدث عنه وهو بُشْرى لوالده، وهو ما يزال في بطن أمه جنينًا، وفجأة يخاطبه وكأنه أصبح أمرًا واقعًا: {يايحيى خُذِ الكتاب بِقُوَّةٍ} [مريم: 12] فقد بلغ مبلغ النُّضْج، وأصبح أهْلًا لحمْل مهمة الدعوة، إذن: المسألة مأخوذة مأخَذ الجدِّ، وهي حقيقة واقعة.
وقوله: {خُذِ الكتاب} [مريم: 12] أي: التوراة، وفيها منهج الله الذي يُنظِّم لهم حركة حياتهم {بِقُوَّةٍ} [مريم: 12] أي: بأخلاص في حِفْظه وحِرْص على العمل به؛ لأن العلم السماوي والمنهج الإلهي الذي جاءكم في التوراة ليس المراد أن تعلمه فقط بل وتعمل به.
وإلا فقد قال تعالى في بني إسرائيل: {مَثَلُ الذين حُمِّلُواْ التوراة ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الحمار يَحْمِلُ أَسْفَارًا} [الجمعة: 5] فقد حَمَّلهم الله التوراة، فلم يحملوها ولم يعملوا بها.
والقوة: هي الطاقة الفاعلة التي تدير دولاب الحياة حركةً وسكونًا، وخُذْ مثلًا سفينة الفضاء التي تنطلق إلى الفضاء الخارجي، وتظل تدور فيه عدة سنوات وتتساءل: من أين لها بالوقود الذي يُحرّكها طوال هذه المدة؟ والحقيقة أنها لا تحتاج: إلى وقود إلا بمقدار ما يُخرِجها من مدار الجاذبية الأرضية، فإذا ما خرجت من نطاق الجاذبية وهي متحركة تظل متحركة ولا تتوقف إلا بقوة توقفها، وكذلك الساكن يظل ساكنًا إلى أنْ تأتيَ قوة تحركه.
إذن: القوة إمّا أنْ تُحرِّك الساكن أو تُسْكِن المتحرك وتصده، ومن ذلك ما نراه في السكك الحديدية من مصدَّات تُوقِف القطارات؛ لأنك إنْ أردتَ أن توقف القطار تمنع عنه الوقود، لكن يظل به قوة دفع تحركه تحتاج إلى قوة معاكسة توقفه، وهذا ما يسمونه قانون العطالة. يعني: إن كان الشيء متحركًا فيحتاج إلى قوة توقفه، وإن كان ساكنًا يحتاج إلى قوة تحركه.
ومن ذلك قانون القصور الذاتي الذي تعلمناه في المدارس، وتلاحظه إذا تحركتْ بك السيارة تجد أن جسمك يندفع للخلف؛ لأنها تحركتْ للأمام وأنت ساكن، فإنْ توقفتْ السيارة تحرَّك جسمك للأمام لأنها توقفت وأنت متحرك. إذن: هذه الأشياء التي تتحرك في الكون أو الساكنة نتيجة قوة.
فقوله تعالى: {خُذِ الكتاب بِقُوَّةٍ} [مريم: 12] لأن الكتاب فيه أوامر وفيه نَوَاهٍ، يأمر بالخير وينهاك عن الشر، فإنْ أمركَ بالخير وأنت لا تفعله تحتاج إلى قوة دَفْع تدفعك إلى الخير، وكأنك كنتَ ساكنًا تحتاج إلى قوة تحركك، وإنْ نهاك عن الشر وأنت تفعله فأنت في حاجة إلى قوة تمنعك وتوقف حركتك في الشر. والمنهج هو هذه القوة التي تُحرِّكك إلى الخير وأنت ساكن، وتُسكنك عن الشر وأنت متحرك.
ثم يقول تعالى: {وَآتَيْنَاهُ الحكم صَبِيًّا} [مريم: 12] الحكم: العلم والفهم للتوراة، أو الطاعة والعبادة، {صَبِيًّا} [مريم: 12] في سِنٍّ مبكرة؛ لأن المسألة عطاء من الله لا يخضع للأسباب، فجاء يحيى عليه السلام مُبكِّر النضج والذكاء، يفوق أقرانه، ويسبق زمانه، وقد أُثِر عنه وهو صغير أنْ دعاه أقرانه للعب فقال لهم: «ما للعب خُلِقْنا».
ثم يقول الحق تبارك وتعالى: {وَحَنَانًا مِّن لَّدُنَّا}.
ولأن يحيى جاء إلى الدنيا حال كِبَر وضعف والديه، وهو كطفل يحتاج مَنْ يشمله بالعطف والحنان، ويُعوِّضه حنان الوالدين، ويحتاج إلى مَنْ يُعلِّمه ويُربِّيه؛ لذلك تولِّى الحق سبحانه وتعالى هذه المهمة، فهو سبحانه خالقه ومُسمِّيه ومُتولّيه فوهبه حنانًا منه سبحانه {مِّن لَّدُنَّا} [مريم: 13] من عندنا؛ لأن طاقة الحنان عند الوالدين قد نضبتْ.
وقوله: {وَزَكَاةً} [مريم: 13] أي: طهارة من الذنوب وصفاءَ نفْسٍ وبركة، وهذه كلها نتيجة التربية الإلهية بمنهج الله الذي يرسم له حركته في الحياة: افعل كذا ولا تفعل كذا.
{وَكَانَ تَقِيًّا} [مريم: 13] أي: استجاب لهذا الحنان، وأثمرت فيه هذه التربية فكان تقيًا، أي: مُنفذًا لأوامر الله مُجتنبًا لنواهيه، وبذلك وقَى نفسه من صفات الجلال من الله تعالى.
وقلنا: إن التقوى أنْ تجعل بينك وبين ما تتقيه مانعًا يحميك ويبعدك عن إيذائه، فنقول: اتقِ الله واتقِ النار، كيف ذلك ونحن نريد أن نصل إلى معيته سبحانه؟
نقول: اتق الله أي: اجعل بينك وبين صفات جلاله وجبروته وقايةً تحميك من جبروته وجباريته وقهره، فلسْت مطيقًا لأدنى شيء من العذاب، والنار من جنود الله ومظهر من مظاهر قهره، فاتقاء النار جزء من اتقاء الله، والوقاية التي تحميك من صفات الجبروت والجلال هي الطاعة بامتثال الأوامر والنواهي.
ثم يقول تعالى: {وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُن}.
فرغم أن يحيى عليه السلام جاء أبويْه في حال كِبَرهما وضعفهما، ولم يجد منهما الحنان الكافي والتربية المناسبة، ولم يشعر معهما بالأُبوة الكاملة، فكان دورهما في حياته ثانويًا، وحمايلهم عليه باهتة متواضعة، مع هذا كله كان بارًا بهما حانيًا عليهما. وقال عنه أيضًا: {وَلَمْ يَكُن جَبَّارًا عَصِيًّا} [مريم: 14].
وصفة الجبروت وصفة العصيان لا يُتصوَّران من الولد على والديه، إلا حين يرى من أبيه شرودًا عنه وانصرافًا عن رعايته، وحين يرى من أمه انشغالًا عن تربيته، فهي تاركة له غير مُراعية لحقه.
لذلك نرى صورًا من هذا الجبروت ومن هذا العصيان، ونسمع مَنْ يقسو على أمه وعلى أبيه؛ لأنه لم يجد منهما العطف والحنان والرعاية، فتقعطتْ بينهما أواصر الأبوة. ويبدو أن زكريا حكى لولده ما حدث، وقصَّ عليه قِصّته، فتفهَّم الولد دور والديه ونفى عنهما أيّ تقصير، فكان بهما بارًا رحيمًا، ولهما طائعًا متواضعًا.
ثم يقول الحق سبحانه: {وَسَلاَمٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ}.
هذه مسائل ثلاث تُعَدُّ أعلام حياة للإنسان: الميلاد، والموت، والبعث. وقد خَصَّه الله بالسلام يوم مولده؛ لأنه وُلِد على غير العادة في الميلاد فأُمّه عاقر أسنتْ، ومع ذلك لم تتعرض لألسنة الناس ولم يعترض أحد على ولادتها، وهي على هذا الوصف، فلم يتجرأ أحد عليها؛ لأن ما حدث لها كان آيةً من آيات الله وقد بشّر الله بها زكريا لتكون البُشْرى إعدادًا ومقدمة لهذا الحدث العجيب.
وخَصَّه بالسلام يوم يموت؛ لأنه سيموت شهيدًا، والشهادة غير الموت، الشهادة تعطيه حياة موصولةً بالحياة الأبدية الخالدة. وكذلك خَصَّه بالسلام يوم القيامة يوم يُبعث حيًّا. اهـ.

.قال نظام الدين النيسابوري في الآيات السابقة:

{كهيعص (1) ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا (2)}.
التفسير:
حروف المعجم في الوقف ثنائية وثلاثية، وقد جرت عادة العرب بإمالة الثنائيات وبتفخيم الثلاثيات، وفي الزاي اعتيد الأمران لأنه قد يلحق بآخره ياء وقد لا يلحق بآخره ياء وقد لا يلحق فيصير ثنائيًا، ولا ريب أن التفخيم أصل والإمالة فرع عليه. فمن قرأ بإمالة الهاء والياء معًا فعلى العادة، ومن قرأ بتفخيمهما جميعًا فعلى الأصل ومن قرأ بإمالة إحداهما فلرعاية الجانبين. وقد روى صاحب الكشاف عن الحسن أنه قرأ بضمهما فقيل: لأنه تصور أن عين الكلمة فيهما واو فنبه بالضم على أصلها. والبحث عن هذه الفواتح قد سلف في أول البقرة، ومما يختص بهذا الموضع ما روي عن ابن عباس أن قوله: {كهيعص} ثناء من الله تعالى على نفسه، فالكاف كاف لأمور عباده، والهاء هاد والعين عالم أو عزيز، والصاد صادق. وعنه أيضًا أنه حمل الكاف على الكريم أو الكبير، والياء على الكريم مرة وعلى الحكيم أخرى. وعن الربيع بن أنس أن الياء من مجير، وهذا التفسير لا يخلو من تحكم إلا أن يسند إلى الوحي أو الإلهام، وارتفع {ذكر رحمة} على الخبر أي هذا المتلو من القرآن ذكر رحمة {ربك} وانتصب {عبده} على أنه مفعول لذكر و{زكريا} عطف بيان، وقرئ برفعهما على إضافة المصدر إلى المفعول، وعن الكلبي أنه قرأ {ذكر} بلفظ الماضي مشددًا تارة و{رحمة} و{عبده} منصوبان على المفعولية، والفاعل ضمير المتلو.
ومخففًا أخرى و{عبده} مرفوع على الفاعلية. وقرئ {ذكر} على الأمر وهي قراءة ابن معمر. وقيل: يحتمل على هذا أن تكون الرحمة عبارة عن زكريا لأن كل نبي رحمة لأمته، ويجوز أن يكون رحمة لنبينا صل الله عليه وسلم ولأمته لأن طريقه في الإخلاص والابتهال يصلح لأن يقتدى به وكان ذكره رحمة لنا ولنبينا. وفي خفاء ندائه. وجوه منها: أن الإخفاء أبعد عن الرياء وأدخل في الخشية ولهذا فسره الحسن بأنه نداء لا رياء فيه. ومنها أنه أخفاه لئلا يلام على طلب الولد في غير وقته. ومنها أنه أسره من مواليه الذين خافهم. ومنها أنه خفت صوته لضعفه وهرمه كما جاء في صفة الشيخ (صوته خفات وسمعه تارات) ولعله أتى بأقصى ما يقدر عليه من الصوت ومع ذلك كان خفيًا لنهاية كبره. ثم شرع في حكاية ندائه قائلًا: {قال رب إني وهن العظم مني} إلى قوله: {واجعله رب رضيًا} قال علماء المعاني: في الآية لطائف وذلك أصل الكلام: يا ربي قد شخت فإن الشيخوخة مشتملة على ضعف البدن وشيب الرأس، ثم ترك الإجمال إلى التفصيل لتوخي زيادة التقرير فصار ضعف بدني وشاب رأسي، ثم في القرينة الأولى عدل من التصريح إلى الكناية التي هي أبلغ منه فصار وهنت عظامي فإن وهن عظام البدن لازم لضعفه، ثم بنيت الكناية على المبتدأ لتقوي الحكم فحصل أنا وهنت عظام بدني، ثم سلك طريق الإجمال والتفصيل لمزيد البيان فصار: إني وهنت العظام من بدني، لأنك إذا قلت إني وهنت العظام أفاد أن عظامًا واهنة عندك، فإذا قلت: (من بدني) فقد فصلت، ثم ترك توسيط البدن لطلب مزيد اختصاص العظام، ثم لطلب شمول العظام فردًا فردًا قصدت مرتبة ثانية وهي ترك جمع العظم إلى الإفراد لأن استغراق المفرد أشمل من استغراق الجمع فحصل {إني وهن العظم مني} فحصل أني وهنت العظام مني. وإذا حصل الوهن في هذا الجنس الذي هو أصلب الأعضاء وبه قوام البدن وقد يكون جنة لسائر الأعضاء الرئيسة كالقحف للدماغ والقص للقلب ففي الأعضاء الأخر أولى. وأما القرينة الأخرى فتركت الحقيقة فبها الاستعارة التي هي أبلغ فحصل اشتعل شيب رأسي. وبيان الاستعارة فيه أنه شبه الشيب بشواظ النار في بياضه وإنارته، وشبه انتشاره في الشعر وفشوّه فيه وأخذه منه كل مأخذ باشتعال النار، ثم أخرجه مخرج الاستعارة بالكتابة بأن حذف المشبه به وأداة التشبيه فصار اشتعل شيب الرأسي، ويمكن تقرير الاستعارة بوجه آخر وهو أن يكون استعمل {اشتعل} بدل (انتشر) فتكون الاستعارة تبعية تصريحية وقرينتها ذكر الشيب، ثم تركت هذه المرتبة إلى أبلغ منها وهي (اشتعل رأسي شيبًا).
وكونها أبلغ من وجهات منها: إسناد الاشتعال إلى الرأس لإفادته شمول الاشتعال الرأس كما لو قلت: (اشتعل بيتي نارًا) مكان (اشتعل النار في بيتي). ومنها الإجمال والتفصيل الواقعان في طريق التمييز، ومنها تنكير {شيبًا} للتعظيم كما هو حق التمييز. ثم عدل إلى مرتبة أخرى هي (اشتعل الرأس مني شيبًا) لتوخي مزيد التقرير بالإبهام ثم البيان على نحو {وهن العظم مني} ثم ترك لفظ {مني} ذكره في القرينة الأولى ففي ذلك إحالة تأدية المعنى على العقل دون اللفظ. وكم بين الحوالتين مع أن بناء الكلام على الاختصار حيث قال: {رب} بحذف حرف النداء وياء المتكلم يناسب الاختصار في آخره. وإنما أطنب في هذا المقام لأن هذه الآية كالعلم فيما بين علماء المعاني.
ثم إنه توسل إلى الله عز وجل بما سلف له معه من الاستجابة قائلًا {ولم أكن بدعائك رب شقيًا} كما حكى أن محتاجًا قال لكريم: أنا الذي أحسنت إليّ وقت كذا فقال: مرحبًا بمن توسل إلينا وقضى حاجته. تقول العرب: سعد فلان بحاجته إذا ظفر بها، وشقي بها إذا خاب ولم ينلها. ومعنى {بدعائك} أي بدعائي إياك. واعلم أن زكريا عليه السلام قدم على السؤال أمورًا ثلاثة: الأول كونه ضعيفًا، والثاني أنه تعالى لم يرد دعاءه والثالث كون المطلوب بالدعاء سببًا للمنفعة في الدين وذلك قوله: {وإني خفت الموالي} قال ابن عباس والحسن: أي الورثة. وعن مجاهد العصبة. وعن أبي صالح: الكلالة. وعن الأصم: بني العم وهم الذين يلونه في النسب. وعن أبي مسلم: المولى يراد به الناصر وابن العم والمالك والصاحب وهو هاهنا من تقدم في ميراثة كالولد. والمختار أن المراد من الموالي الذين يخلفون بعده إما في السياسة أو في المال الذي كان له أو في القيام بأمر الدين، وكان من عاداتهم أن كل من كان إلى صاحب الشرع أقرب كان متعينًا للحبورة. وقوله: {من ورائي} أي بعد موتي لا يتعلق ب {خفت} لأن الخوف بعد الموت محال ولكن بمحذوف أي الموالي الذين يخلفون من بعدي، أو بمعنى الولاية في الموالي أي خفت ولايتهم وسوى خلافتهم بعدي، فإن زكريا انضم له مع النبوّة الملك فخاف بعده على أحدهما أو عليهما. وسبب الخوف القرائن والأمارات التي ظهرت له من صفائح أحوالهم وأخلاقهم. وإنما قال: {خفت} بلفظ الماضي لأنه قصد به الإخبار عن تقادم الخوف، ثم استغنى بدلالة الحال كمسألة الوارث وإظهار الحاجة عن الإخبار بوجود الخوف في الحال.
وقرىء {خفت الموالي} بتشديد الفاء. وعلى هذا فمعنى ورائي خلفي وبعدي أي قلوا وعجزوا عن أمر الدين والإقامة بوظائفه، والظرف متعلق بالموالي، أو معناه قدامي والظرف متعلق ب {خفت} أي درجوا ولم يبق من يعتضد به. ثم صرح بالمسألة قائلًا: {فهب لي} وأكده بقوله: {من لدنك} أي وليًا صادرًا من عندك مضافًا إلى اختراعك بلا سبب لأني وامرأتي لا تصلح للولادة. من قرأ {يرثني ويرث} بالجزم فيهما فهو جواب الدعاء، ومن قرأ برفعهما فالأكثرون ومنهم جار الله قالوا: إنه صفة. وقال صاحب المفتاح: الأولى حمله على الاستئناف كأنه قيل: لم تطلب الولد؟ فقال مجيبًا: يرثني أي لأنه يرثني لئلا يلزم منه أنه لم يوهب من وصف لهلاك يحيى قبل زكريا. واعترض بأن حمله على الاستئناف يوجب الإخبار عما لم يقع، وكذب النبي صلى الله عليه وسلم. أمنع من كونه غير مستجاب الدعوة. وأجيب بأن عدم ترتب الغرض من طلب الولد لا يوجب الكذب. وأقول: الاعتراض باق لأن المعنى يؤل إلى قولنا (هب لي وليًا موصوفًا بالوراثة) أو بأن الغرض منه الوراثة، أوهب لي وليًا أخبر عنه بأنه يرثني. وعلى التقادير يلزم عدم الاستجابة أو الكذب. والحق في الجواب هو ما سلف لنا في قصة زكريا من سورة آل عمران، أن النبي لا يطلب في الدعاء إلا الأصلح حتى لو كان الأصلح غير ما طلبه فصرفه الله تعالى عنه كان المصروف إليه هو بالحقيقة مطلوبه. ويمكن أن يقال: لعل الوراثة قد تحققت من يحيى وإن قتل قبل زكريا، وذلك بأن يكون قد تلقى منه كتاب أو شرع هو المقصود من وجود يحيى وبقى ذلك الكتاب أو الشرع معمولًا به بعد زكريا أيضًا إلى حين. وقد روى صاحب الكشاف هاهنا قراآت شاذة لا فائدة كثيرة في تعدادها إلى قوله عن علي وجماعة وأرث من آل يعقوب أي يرثني به وارث ويسمى التجريد في علم البيان. فقيل: هو أن تجرد الكلام عن ذكر الأول حتى تقول (جاءني فلان فجاءني رجل) لا تريد به إلا الأول، ولذلك تذكر اسمه في الجملة الثانية، وتجرد الكلام عنه. وأقول: يشبه أن يكون معنى التجريد هو أنك تجرده عن جميع الأوصاف المنافية للرجولية. وكذا في الآية كأنه جرده عن منافيات الوارثية بأسرها.