فصل: قال الشوكاني في الآيات السابقة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



واختلف المفسرون في أنه طلب ولدًا يرثه أو طلب من يقوم مقامه ولدًا كان أو غيره؟ والأول أظهر لقوله في آل عمران {رب هب لي من لدنك ذرية طيبة} [آل عمران: 38] ولقوله في سورة الأنبياء {ربي لا تذرني فردًا} [الأنبياء: 89] حجة المخالف أنه لما بشر بالولد استعظم وقال: {أنى يكون لي غلام} ولو كان دعاؤه لأجل الولد ما استعظم ذلك.
والجواب ما مر في آل عمران. واختلفوا أيضًا في الوراثة فعن ابن عباس والحسن والضحاك: هي وراثة المال. وعنهم أيضًا أن المراد يرثني المال ويرث من آل يعقوب النبوّة أو بالعكس. وفي رواية أبي صالح أن المراد في الموضعين النبوّة. فلفظ الإرث مستعمل في المال {وأورثكم أرضهم وديارهم وأموالهم} [الأحزاب: 17] وفي العلم {وأورثنا بني إسرائيل الكتاب} [غافر: 53] «العلماء ورثة الأنبياء» وحجة الأولين ما روي أنه صلى الله عليه وسلم قال: «رحم الله زكريا وما عليه من يرثه» فإن ظاهره يدل على أنه أراد بالوراثة المال. وكذا قوله صلى الله عليه وسلم «أنا معشر الأنبياء لا نورث ما تركناه صدقة»، وأيضًا العلم والنبوة كيف يحصل بالميراث ولو كان المراد إرث النبوّة إلى قوله: {واجعله رب رضيًا} لأن النبي لا يكون إلا مرضيًا. وأجيب بأنه إذا كان المعلوم من حال الابن أنه يصير نبيًا بعده فيقوم بأمر الدين جاز أن يقال ورثه. والمراد يكون رضيًا أن لا يوجد منه معصية ولا همّ بها كما جاء في حق يحيى، وقج مر الحديث هناك. ولا يلزم من هذا أن يكون يحيى مفضلًا على غيره من الأنبياء كلهم فلعل لبعضهم فضائل أخر تختص به. احتجت الأشاعرة بالآية في مسألة خلق الأعمال، وأجابت المعتزلة بأنه يفعل به ضروب الألطاف فيختار ما يصير مرضيًا عنده، وزيف بأن ارتكاب المجاز على خلاف الأصل، وبأن فعل الألطاف واجب على الله فطلب ذلك بالدعاء والتضرع عبث. واعلم أن أكثر المفسرين على أن يعقوب المذكور في الآية هو يعقوب بن إسحق بن إبراهيم لأن زوجة زكريا كانت من ولد سليمان بن داود من ولد يهودا بن بعقوب، وأما زكريا فقد كان من ولد هرون أخي موسى وهرون وموسى ولد لاوى بن يعقوب بن إسحق، وكانت النبوّة في سبط وهو إسرائيل عليه السلام. وزعم بعض المفسرين أن المراد هو يعقوب بن ماثان أخو عمران بن ماثان وهذا قول الكلبي ومقاتل. وعن مقاتل: أن بني ماثان كانوا رؤوس بني إسرائيل وملوكها.
قوله: {يا زكريا} الكثرون على أنه نداء من الله تعالى لقرينة التخاطب من قوله: {رب إني وهو العظم مني} إلى قوله: {رب أنى يكون لي غلام} ومنهم من قال: هو نداء الملك لقوله في آل عمران {فنادته الملائكة} [الآية: 49] وجوز بعضهم الأمرين. واختلفوا في عدم السمي فقيل: أراد أن لم يسم أحد بيحيى قبله. وقيل: أراد أنه لا نظير له كقوله: {هل تعلم له سميًا} [مريم: 65] وذلك أنه سيدًا وحصورًا ولم يعص ولم يهم بمعصية فكأنه جواب لقوله: {واجعله رب رضيًا} وأيضًا سمي بيحيى قبل دخوله في الوجود ولد بين شيخ فان وعجوز عاقر فلا نظير له في هذه الخواص.
قال بعض العلماء: القول الأول أظهر لما في الثاني من العدول عن الظاهر ولا يصار إليه لضرورة كما في قوله: {فاعبده واصطبر لعبادته هل تعلم له سميًا} [مريم: 65] لأنا نعلم أن مجرد كونه تعالى لا سميّ له لا يقتضي عبادته فنقول: السميّ هناك يراد به المثل والنظير. ويمكن أن يقال: إن التفرد بالاسم فيه ضرب من التعظيم فلا ضرورة في الآية أيضًا. قال جار الله: إنما قيل للمثل سميّ لأن كل متشاكلين يسمى كل منهما باسم المثل والشبيه والشكل والنظير، فكل واحد منهما سمي. قلت: ويقرب هذا من إطلاق اللازم وإرادة الملزوم. ولم سمي بيحيى؟ تكلفوا له وجوهًا. فعن ابن عباس لأنه تعالى أحيا عقر أمه. وعن قتادة لأنه تعالى أحيا قلبه بالإيمان والطاعة {أو من كان ميتًا فأحييناه} [الأنعام: 122] {إذا دعاكم لما يحييكم} [الأنفال: 24]. ولهذا كان من أول من آمن بعيسى. وقيل: لأنه استشهد والشهداء أحياء. وقيل: لأن الدين أحيى به لأن زكريا سأله لأجل الدين. قوله: {وقد بلغت من الكبر} قال جار الله: أي من أجل الكبر والطعن في السن العالية ف {من} للتعليل، ويجوز أن تكون للابتداء أي بلغت من مدارج الكبر ومراتبه ما يسمى {عتيًا} وهو اليبس والجساوة في المفاصل والعظام. يقال: عنا العود عتيًا إذا غيره طول الزمان إلى حالة اليبس.
سؤال: إنه قال في آل عمران {وقد بلغني الكبر وامرأتي عاقر} [آل عمران: 40] فلم عكس الترتيب في هذه السورة؟ وأجيب بأن الواو لا تفيد الترتيب. قلت: إن ذاك ورد على الأصل وهو تقديم نقص نفسه وهاهنا راعى الفاصلة. {قال} الأمر {كذلك} تصديقًا له. ثم ابتدأ قائلًا {قال ربك} فمحل {كذلك} رفع، ويحتمل أن يكون نصبًا {قال} وذلك إشارة إلى مبهم يفسره قوله: {هو} أي خلق الغلام {عليّ هين} ويحتمل أن يكون إشارة إلى قول زكريا {أنى يكون لي غلام} أي كيف تعطيني الغلام أبأن تجعلني وزوجتي شابين أو بأن تتركنا على الشيخوخة؟ فأجيب بقوله: {كذلك} أي نهب الولد لك مع بقائك وبقاء زوجتك على حالتكما. ولفظ الهين مجاز عن كمال القدرة وهو فيعل من هان الشيء يهون إذا لم يصعب ولم يمتنع عن المراد {ولم تك شيئًا} لأن المعدوم ليس بشيء أو شيئًا بعتد به كالنطفة، أو كالجواهر التي لم تتألف بعد، فيه نفس استبعاد زكريا، لأن خلق الذات ثم تغييرها في أطوار الصفات ليس أهون من تبديل الصفات وهو أحداث القوة المولدة في زكريا وصاحبته بعد أن لم تكن {قال رب اجعل لي آية} قد مر تفسير الآية في أول عمران. قوله: {سويًا} قيل: إنه صفة لليالي أي تامة كاملة. والأكثرون على أنه صفة زكريا أي وأنت سليم الحواس مستوى الخلق ما بك خرس ولا عيّ {فخرج على قومه من المحراب} قيل: كان له موضع ينفرد فيه للصلاة والعبادة ثم ينتقل إلى قومه.
وقيل: كان موضعًا يصلي فيه هو وغيره إلا أنهم كانوا لا يدخلونه للصلاة إلا بإذنه. {فأوحى إليهم} عن مجاهد: أشار بدليل قوله في أول آل عمران {إلا رمزًا} وعن ابن عباس: كتب لهم على الأرض. و{أن} هي المفسرة و{سبحوا} أي صلوا أو على الظاهر وهو قول سبحان الله. عن أبي العالية أن البكرة صلاة الفجر والعشيّ صلاة العصر، فلعلهم كانوا يصلون معه هاتين الصلاتين في محرابه، وكان يخرج إليهم ويأذن لهم بلسانه، فلما اعتقل لسانه خرج إليهم كعادته ففهمهم المقصود بالإشارة أو الكتابة. وهاهنا إضمار والمراد فبلغ يحيى المبلغ الذي يجوز أن يخاطب فقلنا له: {يا يحيى خذ الكتاب} أي التوراة لأنها المعهود حينئذ، ويحتمل أن يكون كتابًا مختصًا به وإن كنا لا نعرفه الآن كقول عيسى {إني عبد الله آتاني الكتاب} [مريم: 30] والمراد بالأخذ إما الأخذ من حيث الحس، وإما الأخذ من حيث المعنى وهو القيام بمواجبه كما ينبغي وذلك بتحصيل ملكة تقتضي سهولة الإقدام على المأمور به والإحجام عن المنهى عنه. ثم أكده بقوله: {بقوة} أي بجد وعزيمة. {وآتيناه الحكم} أي الحكمة. عن ابن عباس: هو فهم التوراة والفقه في الدين ولذلك لما دعاه الصبيان إلى اللعب وهو صبي قال: ما للعب خلقت. وعن معمر: العقل. وقيل: النبوة. وكل هذه الأوصاف على الأقول من الخوارق كما حق عيسى فلا استبعاد إلا من حيث العادة. والحنان أصله توقان النفس، ثم استعمل في الرحمة وهو المراد ههنا. وما قيل إنه يحتمل أن يراد حنانًا منا على زكريا أو على أمة يحيى لا يساعده وجود الواو. وقيل: أراد آتيناه الحكم والحنان على عبادنا كقوله في نبينا {فبما رحمة من الله لنت لهم} [آل عمران: 159] وأراد بقوله: {وزكاة} أنه مع الإشفاق عليهم كان لا يخل بإقامة ما يجب عليهم لأن الرأفة واللين ربما تورث ترك الواجب ولهذا قال: {ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله} [النور: 2] ولا يخفى أنه يساعد هذا القول وجود لفظة {من لدنا} وعن عطاء: أن معنى حنانًا تعظيمًا من لدنا. وعن ابن عباس وقتادة والضحاك وابن جريج: أن معنى زكاة عملًا صالحًا زكيًا. وقيل: زكيناه بحسن الثناء عليه كما يزكى الشهود. وقيل: بركة كقول عيسى {جعلني مباركًا} وقيل: صدقة أي ينعطف على الناس ويتصدق عليهم.
ثم أخبر محمد صلى الله عليه وسلم عن جملة أحواله بقوله: {وكان تقيًا} بحيث لم يعص الله ولا هم بمعصية قط {وبرًّا بوالديه} لأن تعظيم الوالدين تلو تعظيم الله {ولم يكن جبارًا عصيًا} وذلك أن الزاهد في الدنيا قلما يخلو عن طلب ترفع والرغبة في احترام، فذكر أنه مع غاية زهده كان موصوفًا بالتواضع للخلق وتحقيق العبودية للحق.
قال سفيان: الجبار الذي يقتل عند الغضب دليله قوله: {أتريد أن تقتلني كما قتلت نفسًا بالأمس إن تريد إلاّ أن تكون جبارًا في الأرض} [القصص: 19] ثم إنه سبحانه سلم عليه في ثلاثة مواطن هي أوحش المواطن وأحوجها إلى طلب السلامة فيها، ويحتمل أن يكون هذا السلام من الملائكة عليه إلا أنه لما كان بإذن الله كان كلام الله، وقيل: إنما قال: {حيًا} مع أن المبعوث هو المعاد إلى حال الحياة تنبيها على كونه من الشهداء وهم أحياء إلا أنه يشكل بما يجيء في قصة عيسى {ويوم أبعث حيًا} [مريم: 33] وذلك أنه ورد في الأخبار أن عيسى سيموت بعد النزول. والظاهر أنه أراد ويوم يجعل حيًا فوضع الأخص موضع الأعم تأكيدًا. قيل: السلام عليه يوم ولد لابد أن يكون تفضلًا من الله تعالى لأنه لم يتقدم منه عمل يجزى عليه، وأما الآخران فيجوز أن يكونا لأجل الثواب. قلت: أكثر أموره خارق للعادة، فيحتمل أن يوجد منه في بطن أمه عمل يستحق الثواب كما يحكى أن أمه قالت لمريم وهما حاملان: إني أرى ما في بطني يسجد لما في بطنك. اهـ.

.قال الشوكاني في الآيات السابقة:

{كهيعص (1) ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا (2)}.
قوله: {كهيعص} قرأ أبو جعفر هذه الحروف مقطعة، ووصلها الباقون، وأمال أبو عمرو الهاء وفتح الياء، وعكس ذلك ابن عامر وحمزة، وأمالهما جميعًا الكسائي وأبو بكر وخلف، وقرأهما بين اللفظين أهل المدينة وفتحهما الباقون.
وعن خارجة أن الحسن كان يضم كاف، وحكي عن غيره أنه كان يضم (ها).
وقال أبو حاتم: لا يجوز ضمّ الكاف ولا الهاء ولا الياء. قال النحاس: قراءة أهل المدينة من أحسن ما في هذا، والإمالة جائزة في (ها) وفي يا وقد اعترض على قراءة الحسن جماعة. وقيل في تأويلها: أنه كان يشمّ الرفع فقط. وأظهر الدال من هجاء (صاد) نافع وأبو جعفر وابن كثير وعاصم ويعقوب، وهو اختيار أبي عبيد وأدغمها الباقون.
وقد قيل في توجيه هذه القراءات: أن التفخيم هو الأصل، والإمالة فرع عنه، فمن قرأ بتفخيم الهاء والياء فقد عمل بالأصل، ومن أمالهما فقد عمل بالفرع، ومن أمال أحدهما وفخم الآخر فقد عمل بالأمرين، وقد تقدم الكلام في هذه الحروف الواقعة في فواتح السورة مستوفى في أوائل سورة البقرة.
ومحل هذه الفاتحة إن جعلت اسمًا للسورة على ما عليه الأكثر الرفع على أنها مبتدأ خبرها ما بعدها، قاله الفراء.
واعترضه الزجاج فقال: هذا محال لأن {كهيعص} ليس هو مما أنبأنا الله عزّ وجلّ به عن زكريا، وقد أخبر الله تبارك وتعالى عنه وعما بشر به، وليس {كهيعص} من قصته، أو على أنها خبر مبتدأ محذوف، وإن جعلت مسرودة على نمط التعديد، فقوله: {ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبّكَ} خبر لمبتدأ محذوف أي: هذا ذكر رحمة ربك وقيل: هو مبتدأ خبره محذوف أي: فيما يتلى عليك ذكر رحمة ربك.
قال الزجاج: {ذكر} مرتفع بالمضمر، والمعنى: هذا الذي نتلوه عليك ذكر رحمة ربك {عَبْدِهِ زكريا} يعني: إجابته إياه حين دعاه وسأله الولد، وانتصاب {عبده} على أنه مفعول للرحمة، قاله الأخفش.
وقيل: للذكر.
ومعنى ذكر الرحمة: بلوغها وإصابتها، كما يقال: ذكرني معروف فلان أي: بلغني.
وقرأ يحيى بن يعمر: {ذكر} بالنصب، وقرأ أبو العالية {عبده} بالرفع على أن المصدر مضاف إلى المفعول، وفاعل الذكر هو عبده، وزكريا على القراءتين عطف بيان له أو بدل منه، وقرأ الكلبي: {ذكر} على صيغة الفعل الماضي مشدّدًا ومخففًا على أن الفاعل عبده، وقرأ ابن معمر على الأمر، وتكون الرحمة على هذا عبارة عن زكريا، لأن كل نبيّ رحمة لأمته.
{إِذْ نادى رَبَّهُ نِدَاء خَفِيًّا} العامل في الظرف: رحمة.
وقيل: ذكر.
وقيل: هو بدل اشتمال من زكريا.
واختلف في وجه كون ندائه هذا خفيًا؛ فقيل: لأنه أبعد عن الرياء، وقيل: أخفاه، لئلا يلام على طلبه للولد في غير وقته، ولكونه من أمور الدنيا.
وقيل: أخفاه مخافة من قومه.
وقيل: كان ذلك منه لكونه قد صار ضعيفًا هرمًا لا يقدر على الجهر.
{قَالَ رَبّ إِنّي وَهَنَ العظم مِنّي} هذه الجملة مفسرة لقوله: {نادى ربه} يقال: وهن يهن وهنا إذا ضعف فهو واهن، وقرئ بالحركات الثلاث.
أراد أن عظامه فترت وضعفت قوّته، وذكر العظم، لأنه عمود البدن، وبه قوامه، وهو أصل بنائه، فإذا وهن تداعى وتساقطت قوّته، ولأن أشدّ ما في الإنسان صلبه، فإذا وهن كان ما وراءه أوهن، ووحد العظم قصدًا إلى الجنس المفيد لشمول الوهن لكل فرد من أفراد العظام {واشتعل الرأس شَيْبًا} قرأ أبو عمرو بإدغام السين في الشين، والباقون بعدمه، والاشتعال في الأصل: انتشار شعاع النار، فشبه به انتشار بياض شعر الرأس في سواده بجامع البياض والإنارة، ثم أخرجه مخرج الاستعارة بالكناية، بأن حذف المشبه به وأداة التشبيه، وهذه الاستعارة من أبدع الاستعارات وأحسنها.
قال الزجاج: يقال للشيب إذا كثر جدًّا: قد اشتعل رأس فلان، وأنشد للبيد:
فإن ترى رأسي أمسى واضحا ** سلط الشيب عليه فاشتعل

وانتصاب {شيبًا} على التمييز، قاله الزجاج.
وقال الأخفش: انتصابه على المصدر، لأن معنى اشتعل: شاب.
قال النحاس: قول الأخفش أولى لأنه مشتق من فعل، والمصدرية أظهر فيما كان كذلك، وكان الأصل اشتعل شيب رأسي، فأسند الاشتعال إلى الرأس لإفادة الشمول {وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبّ شَقِيًّا} أي لم أكن بدعائي إياك خائبًا في وقت من الأوقات، بل كلما دعوتك استجبت لي.
قال العلماء: يستحب للمرء أن يجمع في دعائه بين الخضوع، وذكر نعم الله عليه كما فعل زكريا ها هنا، فإن في قوله: {وَهَنَ العظم مِنّي واشتعل الرأس شَيْبًا} غاية الخضوع والتذلل وإظهار الضعف والقصور عن نيل مطالبه، وبلوغ مآربه، وفي قوله: {وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبّ شَقِيًّا} ذكر ما عوّده الله من الإنعام عليه بإجابة أدعيته، يقال شقي بكذا، أي تعب فيه ولم يحصل مقصوده منه.
{وَإِنّي خِفْتُ الموالى مِن وَرَائِى} قرأ عثمان بن عفان ومحمد بن علي بن الحسين وأبوه علي ويحيى بن يعمر {خفت} بفتح الخاء وتشديد الفاء وكسر التاء وفاعله {الموالي} أي قلوا وعجزوا عن القيام بأمر الدين بعدي، أو انقطعوا بالموت، مأخوذًا من خفت القوم إذا ارتحلوا، وهذه قراءة شاذة بعيدة عن الصواب.
وقرأ الباقون {خفت} بكسر الخاء وسكون الفاء على أن فاعله ضمير يعود إلى زكرياء، ومفعوله الموالي، ومن ورائي متعلق بمحذوف لا بخفت، وتقديره: خفت فعل الموالي من بعدي.
قرأ الجمهور: {ورائي} بالهمز والمدّ وسكون الياء، وقرأ ابن كثير بالهمز والمدّ وفتح الياء.
وروي عنه أنه قرأ بالقصر مفتوح الياء، مثل عصاي.
والموالي هنا هم الأقارب الذين يرثون وسائر العصبات من بني العمّ ونحوهم، والعرب تسمي هؤلاء موالي، قال الشاعر:
مهلًا بني عمنا مهلًا موالينا ** لا تنشروا بيننا ما كان مدفونًا

قيل: الموالي الناصرون له.