فصل: قال أبو السعود:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وقيل عيسى كما قال وروح منه، وعلى هذا يكون قوله: {فتمثل} أي الملك. وقرأ أبو حيوة وسهل. بفتح الراء لأنه سبب لما فيه روح العباد وإصابة الروح عند الله الذي هو عدة المقرّبين في قوله: {فأما إن كان من المقرّبين فروح وريحان} أو لأنه من المقربين وهم الموعودون بالروح أي مقربنا وذا روحنا.
وذكر النقاش أنه قرىء. بتشديد النون اسم ملك من الملائكة وانتصب {بشرًا سوّيًا} على الحال لقوله وأحيانًا يتمثل لي الملك رجلًا. قيل: وإنما مثل لها في صورة الإنسان لتستأنس بكلامه ولا تنفر عنه، ولو بدا لها في الصورة الملكية لنفرت ولم تقدر على استماع كلامه، ودل على عفافها وورعها أنها تعوذت به من تلك الصورة الجميلة الفائقة الحسن وكان تمثيله على تلك الصفة ابتلاءً لها وسبرًا لعفتها.
وقيل: كانت في منزل زوج أختها زكريا ولها محراب على حدة تسكنه، وكان زكريا إذا خرج أغلق عليها فتمنت أن تجد خلوة في الجبل لتفلي رأسها فانفرج السقف لها فخرجت فجلست في المشرقة وراء الجبل فأتاها الملَك. وقيل: قام بين يديها في صورة ترب لها اسمه يوسف من خدم بيت المقدس، وتعليقها الاستعاذة على شرط تقواه لأنه لا تنفع الاستعاذة ولا تجدي إلاّ عند من يتقي الله أي إن كان يرجى منك أن تتقي الله وتخشاه وتحفل الاستعاذة به فإني عائذة به منك.
وجواب الشرط محذوف أي فإني أعوذ. وقال الزجاج: فستتعظ بتعويذي بالله منك. وقيل: فاخرج عني. وقيل: فلا تتعرض لي وقول من قال تقي اسم رجل صالح أو رجل فاسد ليس بسديد. وقيل: {إن} نافية أي ما {كنت تقيًا} أي بدخولك عليّ ونظرك إليّ، ولياذها بالله وعياذها به وقت التمثيل دليل على أنه أول ما تمثل لها استعاذت من غير جري كلام بينهما.
{قال} أي جبريل عليه السلام {إنما أنا رسول ربك} الناظر في مصلحتك والمالك لأمرك، وهو الذي استعذت به وقوله لها ذلك تطمين لها وإني لست ممن تظن به ريبه أرسلني إليك ليهب. وقرأ شيبة وأبو الحسن وأبو بحرية والزهري وابن مناذر ويعقوب واليزيدي ومن السبعة نافع وأبو عمر: وليهب أي ليهب ربك.
وقرأ الجمهور وباقي السبعة {لأهب} بهمزة المتكلم وأسند الهبة إليه لما كان الإعلام بها من قبله. وقال الزمخشري: {لأهب لك} لأكون سببًا في هبة الغلام بالنفخ في الروع. وفي بعض المصاحف أمرني أن أهب لك، ويحتمل أن يكون محكيًا بقول محذوف أي قال: {لأهب} والغلام اسم الصبي أول ما يولد إلى أن يخرج إلى سن الكهولة.
وفسرت الزكاة هنا بالصلاح وبالنبوة وتعجبت مريم وعلمت بما ألقي في روعها أنه من عند الله. وتقدم الكلام على سؤالها عن الكيفية في آل عمران في قصتها وفي قولها {ولم أك بغيًا} تخصيص بعد تعميم لأن مسيس البشر يكون بنكاح وبسفاح.
وقال الزمخشري: جعل المس عبارة عن النكاح الحلال لأنه كناية عنه لقوله: {من قبل أن تمسوهنّ} أو لمستم النساء والزنا ليس كذلك إنما يقال فجر بها وخبث بها وما أشبه ذلك، وليس بقمن أن يراعى فيه الكنايات والآداب انتهى.
والبغي المجاهرة المشتهرة في الزنا، ووزنه فعول عند المبرد اجتمعت واو وياء وسبقت إحداهما بالسكون فقلبت الواو ياء وأدغمت في الياء وكسر ما قبلها لأجل الياء كما كسرت في عصي ودلي. قيل: ولو كان فعيلًا لحقتها هاء التأنيث فيقال بغية.
وقال ابن جنيّ في كتاب التمام: هي فعيل، ولو كانت فعولًا لقيل بغوكما قيل فلان نهو عن المنكر انتهى. قيل: ولما كان هذا اللفظ خاصًا بالمؤنث لم يحتج إلى علامة التأنيث فصار كحائض وطالق، وإنما يقال للرجل باغ. وقيل: بغى فعيل بمعنى مفعول كعين كحيل أي مبغية بطلبها أمثالها.
{قال كذلك قال ربك هو عليّ هين} الكلام عليه كالكلام السابق في قصة زكريا {ولنجعله} يحتمل أن يكون معطوفًا على تعليل محذوف تقديره لنبين به قدرتنا {ولنجعله} أو محذوف متأخر أي فعلنا ذلك، والضمير في {ولنجعله} عائد على الغلام وكذلك في قوله: {وكان} أي وكان وجوده {أمرًا} مفروغًا منه، وكونه رحمة من الله أي طريق هدى لعالم كثير فينالون الرحمة بذلك. اهـ.

.قال أبو السعود:

{واذكر في الكتاب}.
كلامٌ مستأنَفٌ خوطب به النبيُّ عليه الصلاة والسلام وأُمر بذكر قصة مريمَ إثرَ قصةِ زكريا لما بينهما من كمال الاشتباكِ، والمرادُ بالكتاب السورة الكريمة لا القرآنُ إذ هي التي صُدّرت بقصة زكريا المستتبعةِ لذكر قصتها وقصصِ الأنبياء المذكورين فيها أي واذكر للناس {مَرْيَمَ} أي نَبأَها فإن الذكرَ لا يتعلق بالأعيان وقوله تعالى: {إِذِ انتبذت} ظرف لذلك المضافِ لكن لا على أن يكون المأمورُ به ذكرَ نبئها عند انتباذِها فقط، بل كلَّ ما عُطف عليه وحُكيَ بعده بطريق الاستئنافِ، داخلٌ في حيز الظرف متممٌ للنبأ. وقيل: بدلُ اشتمال من مريم على أن المراد بها نبأُها فإن الظروفَ مشتملةٌ على ما فيها، وقيل: بدلُ الكل على المرادَ بالظرف ما وقع فيه، وقيل: إذ بمعنى أن المصدرية كما في قولك: أكرمتك إذ لم تكرمني أي لأن لم تكرمني فهو بدلُ اشتمالٍ لا محالة وقوله تعالى: {مّنْ أَهْلِهَا} متعلق بانتبذت وقوله: {مَكَانًا شَرْقِيًا} مفعولٌ له باعتبار ما في ضمنه من معنى الإتيانِ المترتبِ وجودًا واعتبارًا على أصل معناه العاملِ في الجار والمجرور، وهو السرُّ في تأخيره عنه أي اعتزلت وانفردت منهم وأتت مكانًا شرقيًا من بيت المقدِس أو من دارها لتتخلّى هنالك للعبادة، وقيل: قعدت في شرُفة لتغتسل من الحيض محتجبةً بحائط أو بشيء يستُرها وذلك قوله تعالى: {فاتخذت مِن دُونِهِم حِجَابًا} وكان موضعُها المسجدَ فإذا حاضت تحولت إلى بيت خالتها وإذا طهُرت عادت إلى المسجد، فبينما هي في مغتسلها أتاها الملَكُ عليه الصلاة والسلام في صورة آدميَ شابّ أمردَ وضيءِ الوجه جعْدِ الشعر وذلك قوله تعالى: {فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا} أي جبريلَ عليه الصلاة والسلام عبرّ عنه بذلك توفيةً للمقام حقَّه، وقرئ بفتح الراء لكونه سببًا لما فيه روحُ العباد الذي هو عُدّةُ المقربين في قوله تعالى: {فَأَمَّا إِن كَانَ مِنَ المقربين فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ} {فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا} سويَّ الخلقِ كاملَ البُنية لم يفقِدْ من حِسان نعوتِ الآدمية شيئًا، وقيل: تمثل في صورة تِرْبٍ لها اسمُه يوسفُ من خدم بيتِ المقدس وذلك لتستأنسَ بكلامه وتتلقّى منه ما يلقى إليها من كلماته تعالى، إذ لو بدا لها على الصورة الملَكيةِ لنفرَتْ منه ولم تستطع مفاوضتَه. وأما ما قيل من أن ذلك لتهييج شهوتِها فتنحدر نطفتُها إلى رحمها فمع مخالفته لمقام بيانِ آثارِ القدرة الخارقةِ للعادة يكذبه قوله تعالى: {قَالَتْ إِنّى أَعُوذُ بالرحمن مِنكَ} فإنه شاهذٌ عدْلٌ بأنه لم يخطُر ببالها شائبةُ ميل ما إليه فضلًا عما ذُكر من الحالة المترتبة على أقصى مراتبِ الميل والشهوة، نعم كان تمثيلُه على ذلك الحسنِ الفائقِ والجمالِ الرائقِ لابتلائها وسبْر عِفّتها، ولقد ظهر منها من الورع والعَفافِ ما لا غايةَ وراءه، وذكرُه تعالى بعنوان الرحمانيةِ للمبالغة في العياذ به تعالى واستجلابِ آثارِ الرحمةِ الخاصة التي هي العصمةُ مما دهِمَها وقوله تعالى: {إِن كُنتَ تَقِيًّا} أي تتقي الله تعالى وتبالي بالاستعاذة به، وجوابُ الشرط محذوفٌ ثقةً بدلالة السياقِ عليه أي فإني عائذةٌ به أو فتعوّذْ بتعوذي أو فلا تتعرّضْ لي.
{قَالَ إِنَّمَا أَنَاْ رَسُولُ رَبّكِ} يريد عليه الصلاة والسلام أني لست ممن يُتوقّع منه ما توهّمتِ من الشر، وإنما أنا رسولُ ربك الذي استعذتِ به {لأَهَبَ لَكِ غلاما} أي لأكون سببًا في هبته بالنفخ في الدِّرْع، ويجوز أن يكون ذلك حكاية لقوله تعالى ويؤيده القراءة بالياء، والتعرضُ لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضميرها لتشريفها وتسليتِها والإشعارِ بعلة الحكم، فإن هبةَ الغلامِ لها من أحكام تربيتها، وفي بعض المصاحفِ أمرَني أن أهبَ لك غلامًا {زَكِيًّا} طاهرًا من الذنوب أو ناميًا على الخير أي مترقيًا من سن إلى سن على الخير والصلاح.
{قَالَتْ أنى يَكُونُ لِى غلام} كما وصفت {وَلَمْ يَمْسَسْنِى بَشَرٌ} أي والحال أنه لم يباشرْني بالنكاح رجلٌ، وإنما قيل بشرٌ مبالغةً في بيان تنزُّهها من مبادىء الولادة {وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا} عطف على لم يمسَسْني داخلٌ معه في حكم الحالية مفصِحٌ عن كون المِساس عبارةً عن المباشرة بالنكاح أي ولم أكن فاجرةً تبغي الرجالَ، وهي فَعولٌ بمعنى الفاعل أصلها بغُويٌ فأدغمت الواوُ بعد قلبها ياء في الياء وكسرت الغين للياء، وقيل: هي فعيل بمعنى الفاعل، وإلا لقيل: بَغُوٌّ كما يقال: فلان نَهُوٌّ عن المنكر، وإنما لم تلحَقْه التاءُ لأنها من باب النسب كطالق أو بمعنى المفعول أي يبغيها الرجالُ للفجور بها.
{قَالَ} أي الملَكُ تقريرًا لمقالته وتحقيقًا لها {كذلك} أي الأمرُ كما قلتُ لك، وقوله تعالى: {قَالَ رَبُّكِ}.. إلخ، استئنافٌ مقرِّر له أي قال ربك الذي أرسلني إليك: {هُوَ} أي ما ذكرتُ لك من هبة الغلامِ من غير أن يمسَّك بشرٌ أصلًا {عَلَىَّ} خاصة {هَيّنٌ} وإن كان مستحيلًا عادة لما أني لا أحتاج إلى الأسباب والوسائطِ، وقوله تعالى: {وَلِنَجْعَلَهُ ءايَةً لّلْنَّاسِ} إما علةٌ لمعلَّلٍ محذوف أي ولنجعل وهْبَ الغلام آيةً لهم وبرهانًا يستدلون به على كمال قدرتِنا نفعل ذلك، أو معطوفٌ على علة أخرى مضمَرةٍ أي لنبين به عِظَمَ قدرتِنا ولنجعله آية.. إلخ، والواو على الأول اعتراضيةٌ والالتفاتُ إلى نون العظمة لإظهار كمالِ الجلالةِ {وَرَحْمَةً} عظيمةً كائنة {مِنَّا} عليهم يهتدون بهدايته ويسترشدون بإرشاده. {وَكَانَ} ذلك {أَمْرًا مَّقْضِيًّا} مُحكمًا قد تعلق به قضاؤنا الأزليُّ أو قُدّر وسُطّر في اللوح لابد من جريانه عليك ألبتةَ، أو كان أمرًا حقيقًا بأن يقضى ويُفعلَ لتضمنّه حِكَمًا بالغة. اهـ.

.قال الألوسي:

{واذكر في الكتاب} الخ.
فهو كلام مستأنف خوطب به النبي صلى الله عليه وسلم وأمر عليه الصلاة والسلام بذكر قصة مريم إثر قصة زكريا عليه السلام لما بينهما من كمال الاشتباك والمناسبة.
والمراد بالكتاب عند بعض المحققين السورة الكريمة لا القرآن كما عليه الكثير إذ هي التي صدرت بقصة زكريا عليه السلام المستتبعة لقصتها وقصص الأنبياء عليهم السلام المذكورين فيها أي واذكر للناس فيها {مَرْيَمَ} أي نبأها فإن الذكر لا يتعلق بالاعيان.
وقوله تعالى: {إِذِ انتبذت} ظرف لذلك المضاف لكن لا على أن يكون المأمور به ذكر نبئها عند انتباذها فقط بل كل ماعطف عليه وحكى بعده بطريق الاستئناف داخل في حيز الظرف متمم للبناء وجعله أبو حيان ظرفًا لفعل محذوف أي واذكر مريم وما جرى لها إذ انتبذت وما ذكرناه أولى.
وقيل: هو ظرف لمحذوف وقع حالًا من ذلك المضاف، وقيل: بدل اشتمال من مريم لأن الأحيان مشتملة على ما فيها وفيه تفخيم لقصتها العجيبة.
وتعقبه أبو البقاء بأن الزمان إذا لم يقع حالًا من الجثة ولا خبرًا عنها ولا صفة لها لم يكن بدلًا منها.
ورد بأنه لا يلزم من عدم صحة ما ذكر عدم صحة البدلية ألا ترى سلب زيد ثوبه كيف صح فيه البدلية مع عدم صحة ما ذكر في البدل وكون ذلك حال الزمان فقذ غير بين ولا مبين.
وقيل: بدل كل من كل على أن المراد بمريم قصتها وبالظرف الواقع فيه وفيه بعد.
وقيل: {إِذَ} بمعنى أن المصدرية كما في قوله لا أكرمتك إذ لم تكرمني أي لأن لم تكرمني أي لعدم إكرامك لي وهذا قول ضعيف للنحاة والظاهر أنها ظرفية أو تعليلية إن قلنا به ويتعين على ذلك بدل الاشتمال والانتباذ الاعتزال والانفراد.
وقال الراغب يقال: انتبذ فلان اعتزل اعتزال من تقل مبالاته بنفسه فيما بين الناس.
والنبذ: إلقاء الشيء وطرحه لقلة الاعتداد به.
وقوله تعالى: {مّنْ أَهْلِهَا} متعلق بانتبذت، وقوله سبحانه: {مَكَانًا شَرْقِيًا} قيل نصب على الظرف، وقيل مفعول به لانتبذت باعتبار ما في ضمنه من معنى الإتيان المترتب وجودًا واعتبارًا على أصل معناه العامل في الجار والمجرور وهو السر في تأخيره عنه.
واختاره بعض المحققين أي اعتزلت وانفردت من أهلها وأتت مكانًا شرقيًا من بيت المقدس أو من دارها لتتخلى هناك للعبادة، وقيل قعدت في مشرفة لتغتسل من الحيض محتجبة بحائط أو بجبل على ما روي عن ابن عباس أبو بثوب على ما قيل وذلك قوله تعالى: {فاتخذت مِن دُونِهِم حِجَابًا} وكونه شرقيًا كان أمرًا اتفاقيًا.
وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس أن أهل الكتاب كتب عليهم الصلاة إلى البيت والحج إليه وما صرفهم عنه إلا قيل ربك {انتبذت مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًا} [مريم: 16] فلذلك صلوا قبل مطلع الشمس، وفي رواية إنما اتخذت النصارى المشرق قبلة لأن مريم انتبذت من أهلها مكانًا شرقيًا، وقد قدمنا عن بعض أنهم كانوا في زمن عيسى عليه السلام يستقبلون بيت المقدس وإنهم ما استقبلوا الشرق إلا بعد رفعه عليه السلام زاعمين أنه ظهر لبعض كبارهم فأمره بذلك، وجوز أن يكون اختاره الله تعالى لها مطلع الأنوار.
وقد علم سبحانه أنه حان ظهور النور العيسوي منها فناسب أن يكون ظهور النور المعنوي في جهة ظهور النور الحسي وهو كما ترى، وروى أنه كان موضعها في المسجد فإذا حاضت تحولت إلى بيت خالتها وإذا طهرت عادت إلى المسجد فبينما هي في مغتسلها أتاها الملك عليه السلام في صورة شاب أمرد وضيء الوجه جعد الشعر، وذلك قوله عز وجل: {فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا} أي جبرائيل عليه السلام كما قاله الأكثر، وعبر عنه بذلك لأن الدين يحيا به وبوحيه فهو مجاز. والإضافة للتشريف كبيت الله تعالى. وجوز أن يكون ذلك كما تقول لحبيبك أنت روحي محبة له وتقريبًا فهو مجاز أيضًا إلا أنه مخالف للأول في الوجه والتشريف عليه في جعله روحًا.
وقال أبو مسلم: المراد من الروح عيسى عليه السلام لقوله تعالى: {وَرُوحٌ مّنْهُ} [النساء: 171] وضمير تمثل الآتي للملك وليس بشيء.
وقرأ أبو حيوة وسهل {رُوحَنَا} بفتح الراء، والمراد به جبريل عليه السلام أيضًا لأنه سبب لما فيه روح العباد وإصابة الروح عند الله تعالى الذي هو عدة المقربين في قوله تعالى: {فَأَمَّا إِن كَانَ مِنَ المقربين فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ} [الواقعة: 88، 89] أو لأنه عليه السلام من المقربين وهم الموعودون بالروح أي مقربا أو ذا روحنا.
وذكر النقاش أنه قرىء {رُوحَنَا} بتشديد النون اسم ملك من الملائكة عليهم السلام {فَتَمَثَّلَ لَهَا} مشتق من المثال وأصله أن يتكلف أن يكون مثال الشيء، والمراد فتصور لها {بَشَرًا سَوِيًّا} سوى الخلق كامل البنية لم يفقد من حسان نعوت الآدمية شيئًا، وقيل تمثل في صورة قريب لها اسمه يوسف من خدم بيت المقدس وذلك لتستأنس بكلامه وتتلقى منه ما يلقى إليها من كلماته إذ لو بدا لها على الصورة الملكية لنفرت منه ولم تستطع مفاوضته، وما قيل من أن ذلك لتهيج شهوتها فتنحدر نطفتها إلى رحمها فمع مافيه من الهجنة التي ينبغي أن تنزه مريم عنها يكذبه قوله تعالى: {قَالَتْ إِنّى أَعُوذُ بالرحمن مِنكَ} فإنه شاهد عدل بأنه لم يخطر ببالها شائبة ميل ما إليه فضلًا عن الحالة المترتبة على أقصى مراتب الميل والشهوة، نعم كان تمثله على ذلك الحسن الفائق والجمال الرائق لأن عادة الملك إذا تمثل أن يتمثل بصورة بشر جميل كما كان يأتي النبي صلى الله عليه وسلم في صورة دحية رضي الله تعالى عنه أولًا بتلائها وسبر عفتها ولقد ظهر منها من الورع والعفاف ما لا غاية وراءه وإرادة القائل أنه وقع كذلك لكيون مظنة لماذكر فيظهر خلافه فيكون أقوى في نزاهتها بعيد جدًا عن كلامه.
وقال بعض المتأخرين: إن استعاذتها بالله تعالى تنبىء عن تهييج شهوتها وميلانها إليه ميلًا طبيعيًا على ما قال تعالى حكاية عن يوسف عليه السلام {وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنّى كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ} [يوسف: 33] فقد قيل: المراد بالصبوة فيه الميل بمقتضى الطبيعة وحكم القوة الشهوية ثم أنه لا ينافي عفتها بل يحققها لكونه طبيعيًا اضطراريًا غير داخل تحت التكلف كما قيل في قوله تعالى: {وَهُمَّ بِهَا} [يوسف: 24] ومع هذا قد استعاذ يوسف عليه السلام بماحكى الله تعالى عنه من قوله تعالى: {قَالَ مَعَاذَ الله إِنَّهُ رَبّى أَحْسَنَ مَثْوَاىَّ} [يوسف: 23] فدعوى أن الاستعاذة تكذب التهييج والميل الطبيعي كذب والقول بأنه يأبى ذلك مقام بيان آثار القدرة الخارقة للعادة ليس بشيء لأن خلق الإنسان من ماء واحد آثار القدرة الخارقة للعادة أيضًا. والأسباب في هذا المقام ليست بمرفوضة بالكلية كما يرشد إلى ذلك قصة يحيى عليه السلام.