فصل: قال الشنقيطي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الشنقيطي:

{وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا (16)}.
أمر الله جلو علا نبيه صلى الله عليه وسلم في هذه الآية الكريمة: أن يذكر في الكتاب وهو القرآن {مريم} حيت انتبذت من أهلها مكانًا شرقيًا. وقوله: {انتبذت} أي تنحَّت عنهم واعتزلتهم منفردة عنهم. وقوله: {شَرْقِيًا} أي مما يلي شرقي بيت المقدس. وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة {إذ} (مريم) بدل اشتمال، لأن الأحيان مشتملة على ما يليل فيها اشتمال الظرف على مظروفه. قاله الزمخشري في الكشاف واعتراضه عليه أبو البقاء وأبو حيان: والظاهر سقوط اعتراضهمان وأن الصواب معه، والله تعالى أعلم. ولم يذكرهنا شيئًا عن نسب (مريم) ولا عن قصة ولادتها. وبين في غير هذا الموضع أنها ابنه عمران، وأن أمها نذرت ما في بطنها محررًا، تعني لخدمة بيت المقدس، تظن أنها ستلد ذكرًا (فولدت مريم). قال في بيان كونها ابنة عمران: {وَمَرْيَمَ ابنة عِمْرَانَ التي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا} [التحريم: 12] الآية. وذكر قصة ولادتها في (آل عمران) في قوله: {إِذْ قَالَتِ امرأة عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنتَ السميع العليم فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَآ أنثى والله أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذكر كالأنثى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وِإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشيطان الرجيم فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا المحراب وَجَدَ عِندَهَا رِزْقًا قَالَ يامريم أنى لَكِ هذا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ الله إنًّ الله يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [آل عمران: 35-37]. وقوله مكانًا منصوب لأنه ظرف.
قوله تعالى: {فاتخذت مِن دُونِهِم حِجَابًا فَأَرْسَلْنَآ إِلَيْهَآ رُوحَنَا} أظهر الأقوال أن المراد بقوله: (روحنا) جبريل. ويدل لذلك قوله: {نَزَلَ بِهِ الروح الأمين} [الشعراء: 193] الآية، وقوله: {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ القدس مِن رَّبِّكَ بالحق} [النحل: 102]، وإضافته إلى الله إضافة تشريف وتكريم. قوله تعالى: {فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا}. تمثله لها بشرًا سويًا المذكور في الآية يدل على أنه ملك وليس بآدميز وهذا المدلول صرح به تعالى في قوله: {إِذْ قَالَتِ الملائكة يامريم إِنَّ الله يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ اسمه المسيح عِيسَى ابن مَرْيَمَ} [آل عمران: 45] الآية. وهذا الذي بشرها به هو الذي قال لهاهنا {إِنَّمَآ أَنَاْ رَسُولُ رَبِّكِ لًاهَبَ لَكِ غُلاَمًا زَكِيًّا} [مريم: 19]. وقوله: {بَشَرًا سَوِيًّا} حالالن من ضمير الفاعل في قوله: (تمثل لها).
{قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا (19)}.
ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أن ذلك الروح الذي هو جبريل قال لها إن رسول ربها ليهب لهان أي ليعطيها غلامًا أي ولدًا زكيا، أي طاهرًا من الذنوب والمعاصي، كثير البركات. وبين في غير هذا الموضع كثيرًا من صفات هذا الغلام الموهوب لها، وهو عيسى عليه وعلى نبيا الصلاة والسلامن كقوله: {إِنَّ الله يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ اسمه المسيح عِيسَى ابن مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدنيا والآخرة وَمِنَ المقربين وَيُكَلِّمُ الناس فِي المهد وَكَهْلًا وَمِنَ الصالحين} [آل عمران: 45-46] وقوله: {وَيُعَلِّمُهُ الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل وَرَسُولًا إلى بني إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ أني أَخْلُقُ لَكُمْ مِّنَ الطين كَهَيْئَةِ الطير فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ الله وَأُبْرِىءُ الأكمه والأبرص وَأُحْيِي الموتى بِإِذْنِ الله وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ} [آل عمران: 48-49] الآية، إلى غير ذلك من الآيات المشتملة على صفات هذا الغلامز وقرأ هذا الحرف أبو عمرو وورش عن نافع وقالون عنه أيضًا بخلف عنه {ليهب} بالياء المفتوحة بعد اللام أي ليهب لك هو، أي ربك غلامًا زكيًا. وقرأ الباقون {لأهب} بهمزة المتكلم أي لأهب لك هو أنا إيها الرسول منربك غلامًا زكيًا. وفي معنى إسناده الهبة إلى نفسه على قراءة الجمهور خلاف معروف بين العلماء. وأظهر الأقوال في ذلك عندي-: أن المراد بقول جبريل لها {قَالَ إِنَّمَآ أَنَاْ رَسُولُ رَبِّكِ لًاهَبَ لَكِ غُلاَمًا زَكِيًّا} أي لأكون سببًا في هب الغلام بالنفخ في الدرع الذي وصل إلى الفرج، فصار بسببه حملها عيسى. وبين تعالى في سورة (التحريم) أن هذا النفخ في فرجها في قوله تعالى: {وَمَرْيَمَ ابنة عِمْرَانَ التي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا} [التحريم: 12] الآية. والضمير في قوله: (فيه) راجع إلى فرجها ولا ينافي ذلك قوله تعالى في (الأنبياء): {والتي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِن رُّوحِنَا} [الأنبياء: 91] لأن النفخ وصل إلى الفرج فكان منه حمل عيسى، وبهذا فسر الزمخشري في الكشاف الآية.
وقال بعض العلماء: قوله جبريل {لًاهَبَ لَكِ غُلاَمًا} حكاية منه لقول الله جل وعلا. وعليه فلامعنى: إنما أنا رسول ربك، وقد قال لي أرسلتك لأهب غلامًا. والأول أظهر. وفي الثاني بعد عن ظاهر اللفظ. وقال بعض العلماء: جعل الهبة من قبله لما كان الإعلام بها من قبله. وبهذا صدر القرطبي في تفسيره. وأظهرها الأول: والعلم عند الله تعالى.
{قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا (20)}.
ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أن مريم لما بشرها جبريل بالغلام الزكي عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام قالت: {أنى يَكُونُ لِي غُلاَمٌ} اي كيف ألد لامًا والحال أني لم يمسسني بشر. تعني لم يجامعنى زوج بنكاح، {وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا}، اي لم أك زانية، وإذا انتفى عنها مسيب الرجلا حلالًا وحرامًا فكيف تحمل. والظاهر أن استفهامها استخبار واستعلام عن الكيفية التي يكون بها حمل الغلام المذكور، لأنها مع عدم مسيس الرجال لم تتضح لها الكيفية. ويحتمل أن يكون استفهامها استفهام تعجب من كمال قدرة الله تعالى، وهذ الذي ذكر الله جل وعلا عنها: أنها قالته فنا ذكره عنها أيضًا في سورة (آل عمران) في قوله تعالى: {إِذْ قَالَتِ الملائكة يامريم إِنَّ الله يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ اسمه المسيح عِيسَى ابن مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدنيا والآخرة وَمِنَ المقربين وَيُكَلِّمُ الناس فِي المهد وَكَهْلًا وَمِنَ الصالحين قَالَتْ رَبِّ أنى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ} [آل عمران: 45-47]. واقتصارها في آية (آل عمران) على قولها {وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا} يدل على أن مسيس البشر المنفي عنها شامل للمسيس بنكاح والمسيس بزنى. كما هو الظاهر. وعليه فقولها في سورة (مريم): {وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا} يظهر فيه إن قولها {ولم أك بغيًا}: تخصيص بعد تعميم. لأن مسيس البشر يشمل الحلال والحرام. وقال الزمخشري فالكشاف في تفسير قوله تعالى هنا {وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا}: جعل المس عبارة عن النكاح الحلال لأنه كناية عنه. كقوله تعالى: {مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ} [البقرة: 237]. {أَوْ لاَمَسْتُمُ النساء} [النساء: 43] والزنى ليس كذلك، إنما يقال فيه: فجر بها، وخبث بها وما أشبه ذلك. وليس بقمن أن تراعى فيه الكنايات والآداب اهـ.
والأظهر الأول. وآية آل عمران تدل عليه. ويؤيده أن لفظة {بشر} نكرة في سياق النفي فهي تعم كل بشر: فينتفي مسيس كل بشر كائنًا من كان، والبغي: المجاهرة المشتهر بالزنى. ووزنه فعلو عند المبرد، اجتمعت فيه واو وياء سبقت إحداهما بالسكون: فقلبت الواو ياء وادغمت في الياء وكسر ما قبلها لأجل الياؤ كما كسرت في عصيّ ودليّ جمع عصا ودلو. كما قدمنا هذا مرارًا. والقائل بأن أصلي البغي فعول، يقول: لو كان أصله فعيلًا للحقته هاء التأنيث، لأنها لازمة في فعيل بمعنى فاعل. وقال ابن جني في كتاب التمام: أصل البغي على وزن فعيل، ولو كان فعولًا لقيل بغو. كما قيل: فلان نهو عن المنكر. وعلى هذا القول فقد يجاب عن عدم لحوق تاء التأنيث: بأن البغي وصف مختص بالإناث. والرجل يقال فيه باغ لا بغي. كما قاله أبو حيان في البحر. والأوصاف المختصة بالإناث لا تحتاج إلى تاء الفرق بين الذكر والأنثى كحائض. كما عقده ابن مالك في الكافية بقوله:
وما من الصفات بالأنثى يخص ** عن تاء استغنى لأن اللفظ نص

قوله تعالى: {قَالَ كذلك قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ}.
قد قدمنا تفسير هذه الآية مستوفي في قصة زكريا، فأغنى عن إعادته هنا. وقول جبريل لمريم في هذه الآية: {كذلك قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ} أي مستلدين ذلك الغلام المبشر به من غير أن يمسك بشر، وقد أشار تعالى إلى معنى هذه الآية في سورة (آل عمران) في قوله: {قَالَتْ رَبِّ أنى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكَ الله يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قضى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [آل عمران: 47]. قوله تعالى: {وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِّلْنَّاسِ وَرَحْمَةً مِّنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَّقْضِيًّا}.
ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أن من حكم خلقه عيسى من امرأة بغير زوج ليجعل ذلك آية للناس. أي علامة دالة على كمال قدرته. وأنه تعالى يخلق ما يشاء كيف يشاء: إن شار خلقه من أنثى بدون ذكر كما فعل بعيسى. وإن شاء خلقه ن ذكر بدون أنثى كما فعل بحواء. كما نص على ذلك في قوله: {وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا} [النساء: 1] أي خلق من تلك النفس التي هي آدم زوجها حواء. وإن شاء خلقه بدون الذكر والأنثى معًا كما فعل بآدم. وإن شار خلقه من ذكر وأنثى كما فعل بسائر بني آدم. فسبحان الله العظيم على كل شيء؟ وما ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمةك من كونه جعل عليسى آية حيث ولدته أمه من غير زوج أشار له أيضًا في (الأنبياء) بقوله: {وَجَعَلْنَاهَا وابنهآ آيَةً لِّلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 91]، وفي (الفلاح) بقوله: {وَجَعَلْنَا ابن مَرْيَمَ وَأُمَّهٍُ} [المؤمنون: 50] الآية.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: {وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِّلْنَّاسِ} فيه حف دل المقام عليه. قال الزمخشري في الكشاف: {وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِّلْنَّاسِ} تعليل معلله محذوف. أي ولنجعله آية للناس فعلنا ذلك. أو هو معطوف على تعليل مضمر، اي لنبيِّن به قدرتنا ولنجعله آية. ونحوه {وَخَلَقَ الله السماوات والأرض بالحق ولتجزى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ} [الجاثية: 22]، وقله: {وكذلك مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الأرض وَلِنُعَلِّمَهُ} [يوسف: 21] اهـ.
وقوله في هذه الآية {ورحمة منا} أي لمن آمن به. ومن كفر به فلم يبتغ الرحمة لنفسه، كما قال تعالى في نبينا صلى الله عليه وسلم: {وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107]، وقوله تعالى: {وَكَانَ أَمْرًا مَّقْضِيًّا} أي وكان وجود ذلك الغلام منك أمرًا مقضيًا، أي مقدرًا في الآزل، مسطورًا في اللوح المحفوظ لابد من وقوعه، فهو واقع لا محالة. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا (16)}.
جملة {واذكر في الكتاب مريم} عطف على جملة {ذِكْرُ رحمتتِ ربِّكَ} [مريم: 2] عطف القصة على القصة فلا يراعى حُسن اتّحاد الجملتين في الخبرية والإنشائية، على أن ذلك الاتحاد ليس بملتزم.
على أنك علمت أن الأحسن أن يكون قوله: {ذكر رحمة ربك عبده زكريا} مصدرًا وقع بدلًا من فعله. والمراد بالذكر: التّلاوة، أي اتل خبر مريم الذي نقصّه عليك. وفي افتتاح القصة بهذا زيادة اهتمام بها وتشويق للسامع أن يتعرفها ويتدبرها. والكتاب: القرآن، لأنّ هذه القصة من جملة القرآن. وقد اختصت هذه السورة بزيادة كلمة {في الكتاب} بعد كلمة {واذكر}. وفائدة ذلك التنبيه إلى أن ذكر من أمر بذكرهم كائن بآيات القرآن وليس مجرد ذكر فضله في كلام آخر من قول النبي صلى الله عليه وسلم كقوله: «لو لبثت ما لبث يوسف في السجن لأجبت الداعي» ولم يأت مثل هذه الجملة في سورة أخرى لأنه قد حصل علم المراد في هذه السورة فعلم أنه المراد في بقية الآيات التي جاء فيها لفظ {اذكر}. ولعل سورة مريم هي أول سورة أتى فيها لفظ {واذكرْ} في قصص الأنبياء فإنها السورة الرابعة والأربعون في عدد نزول السور. و{إذ ظرف متعلق باذكر} باعتبار تضمنه معنى القصة والخبر، وليس متعلقًا به في ظاهر معناه لعدم صحة المعنى. ويجوز أن يكون إذ مجرد اسم زمان غير ظرف ويجعل بدلًا من (مريم)، أي اذكر زمن انتباذها مكانًا شرقيًا. وقد تقدم مثله في قوله: {ذكر رحمة ربك عبده زكريا إذ نادى ربه} [مريم: 2، 3]. والانتباذ: الانفراد والاعتزال، لأن النبذ: الإبعاد والطرح، فالانتباذ في الأصل افتعال مطاوع نبذه، ثم أطلق على الفعل الحاصل بدون سبق فاعل له. وانتصب {مكانًا} على أنه مفعول {انتبذت} لتضمنه معنى حلت. ويجوز نصبه على الظرفية لما فيه من الإبهام. والمعنى: ابتعدت عن أهلها في مكان شرقي. ونُكر المكان إبهامًا له لعدم تعلُّق الغرض بتعيين نوعه إذ لا يفيد كمالًا في المقصود من القصة. وأما التصدّي لوصفه بأنه شرقي فللتنبيه على أصل اتخاذ النصارى الشرقَ قبلة لصلواتهم إذ كان حمل مريم بعيسى في مكان من جهة مشرق الشمس. كما قال ابن عباس: إني لأعلم خلققِ الله لأي شيء اتّخذت النصارى الشرقَ قبلة لقوله تعالى: {مكانًا شرقِيًّا}، أي أن ذلك الاستقبال ليس بأمر من الله تعالى. فذكر كون المكان شرقيًا نكتة بديعة من تاريخ الشرائع مع ما فيه من مؤاخاة الفواصل. واتخاذ الحجاب: جعل شيء يَحجب عن الناس. قيل: إنها احتجبت لتغتسل وقيل لتمتشط. والروح: الملك، لأن تعليق الإرسال به وإضافته إلى ضمير الجلالة دلاَّ على أنه من الملائكة وقد تمثل لها بشرًا. والتمثل: تكلف المماثلة، أي أن ذلك الشكل ليس شكل الملك بالأصالة. و{بَشَرًَا} حال من ضمير (تمثل)، وهو حال على معنى التشبيه البليغ. والبشر: الإنسان. قال تعالى: {إني خالق بشرًا من طين} [ص: 71]، أي خالق آدم عليه السلام. والسويُّ: المُسَوّى، أي التام الخلق. وإنما تمثل لها كذلك للتناسب بين كمال الحقيقة وكمال الصورة، وللإشارة إلى كمال عصمتها إذ قالت: {إنِّي أعوذُ بالرحمن مِنكَ إن كُنتَ تقِيًَّا}، إذ لم يكن في صورته ما يكره لأمثالها، لأنها حسبت أنه بشر اختبأ لها ليراودها عن نفسها، فبادرته بالتعوذ منه قبل أن يكلمها مبادرة بالإنكار على ما توهمته من قصده الذي هو المتبادر من أمثاله في مثل تلك الحالة. وجملة {إنِّي أعوذُ بالرحمن مِنكَ} خبرية، ولذلك أكدت بحرف التأكيد. والمعنى: أنها أخبرته بأنها جعلت الله معاذًا لها منه، أي جعلت جانب الله ملجأ لها مما هَمّ به. وهذه موعظة له. وذكرها صفة (الرحمان) دون غيرها من صفات الله لأنها أرادت أن يرحمها الله بدفع من حسبته داعرًا عليها. وقولها {إن كُنتَ تَقيًّا} تذكير له بالموعظة بأن عليه أن يتّقي ربّه. ومجيء هذا التذكير بصيغة الشرط المؤذن بالشك في تقواه قصد لتهييج خشيته، وكذلك اجتلاب فعل الكون الدال على كون التّقوى مستقرة فيه. وهذا أبلغ وعظٍ وتذكيرٍ وحثّ على العمل بتقواه.
والقصر في قوله: {إنَّما أنا رسولُ ربّكِ} قصر إضافي، أي لستُ بشرًا، ردًا على قولها: {إن كنت تقيًا} المقتضي اعتقادها أنه بشر. وقرأ الجمهور: {لأَهَبَ} بهمزة المتكلم بعد لام العلّة. ومعنى إسناد الهبة إلى نفسه مجاز عقلي لأنه سبب هذه الهبة. وقرأه أبو عمرو، وورش عن نافع {ليهب} بياء الغائب أي ليهب ربّك لك مع أنها مكتوبة في المصحف بألف.
وعندي أن قراءة هؤلاء بالياء بعد اللام إنما هي نطق الهمزة المخففة بعد كسر اللام بصورة نطق الياء. ومحاورتها الملك محاولة قصدت بها صرفه عما جاء لأجله لأنها علمت أنّه مرسل من الله فأرادت مراجعة ربّها في أمر لم تطقه كما راجعه إبراهيم عليه السلام في قوم لوط وكما راجعه محمد عليه الصلاة والسلام في فرض خمسين صلاة.
ومعنى المحاورة أن ذلك يجر لها ضرًّا عظيمًا إذ هي مخطوبة لرجل ولم يَبْننِ بها فكيف يتلقى الناس منها الإتيان بولد من غير أب معروف. وقولها {ولم أكُ بغيًّا} تبرئة لنفسها من البغاء بما يقتضيه فعل الكون من تمكن الوصف الذي هو خبر الكون، والمقصود منه تأكيد النفي فمفاد قولها {ولم أكُ بغيًّا} غير مفاد قولها {ولم يَمْسَسني بَشَر}، وهو مما زادت به هذه القصة على ما في قصتها في سورة آل عمران، لأن قصتها في سورة آل عمران نزلت بعد هذه فصح الاجتزاء في القصة بقولها {ولم يَمْسَسني بَشَر}. وقولها {ولم يَمْسَسني بَشَر} أي لم يَبْننِ بي زوج، لأنها كانت مخطوبة ومراكنة ليوسف النجار ولكنه لم يبن بها فإذا حملت بولد اتهمها خطيبها وأهلها بالزنى. وأما قولها {ولَمْ أكُ بَغِيًا} فهو نفي لأن تكون بغيًا من قبل تلك الساعة، فلا ترضى بأن ترمى بالبغاء بعد ذلك.
فالكلام كناية عن التنزه عن الوصم بالبغاء بقاعدة الاستصحاب، والمعنى: ما كنت بغيًّا فيما مضى أفأعدّ بغيًا فيما يستقبل. وللمفسرين في هذا المقام حيرة ذكرها الفخر والطيبي، وفيما ذكرنا مخرج من مأزِقها، وليس كلام مريم مسوقًا مساق الاستبعاد مثل قول زكرياء {أنى يكون لي غلام وكانت امرأتي عاقرًا} [مريم: 8] لاختلاف الحالين لأن حال زكرياء حال راغب في حصول الولد، وحال مريم حال متشائم منه متبرىء من حصوله.
والبغِيّ: اسم للمرأة الزانية، ولذلك لم تتصل به هاء التأنيث، ووزنه فعيل أو فعول بمعنى فاعل فيكون أصله بَغوي. لأنه من البغي فلما اجتمع الواو والياء وسكن السابق منهما قلبت الواو ياء وأدغمت في الياء الأصلية وعوض عن ضمة الغين كسرة لمناسبة الياء فصار بغي.
وجواب المَلَك معناه: أن الأمر كما قلت، نظير قوله في قصة زكرياء: {كذلك قال ربك هو علي هين} وهو عدول عن إبطال مرادها من المراجعة إلى بيان هون هذا الخلق في جانب القدرة على طريقة الأسلوب الحكيم.
وفي قوله: {هو علي هين} توجيه بأن ما اشتكته من توقع ضدّ قولها وطعنهم في عرضها ليس بأمر عظيم في جانب ما أراد الله من هدي الناس لرسالة عيسى عليه السلام بأن الله تعالى لا يصرفه عن إنفاذ مراده ما عسى أن يعرض من ضر في ذلك لبعض عبيده، لأنّ مراعاة المصالح العامة تقدم على مراعاة المصالح الخاصة.
فضمير {هو علي هين} عائد إلى ما تضمنه حوارها من لحاق الضر بها كما فسرنا به قولها {ولم يَمْسَسني بَشَر ولم أكُ بَغِيًا}. فبين جواب الملك إياها وبين جواب الله زكرياء اختلاف في المعنى. والكلام في الموضعين على لسان المَلك من عند الله، ولكنه أسند في قصة زكرياء إلى الله لأن كلام المَلك كان تبليغَ وحي عن الله جوابًا من الله عن مناجاة زكرياء، وأسند في هذه القصة إلى الملَك لأنه جواب عن خطابها إياه.
وقوله: {ولنجعله} عطف على {فأرسلنا إليها روحنا} باعتبار ما في ذلك من قول الرُّوح لها {لأهب لك غلامًا زكيًا} أي لأن هبة الغلام الزكي كرامة من الله لها، وجعله آية للناس ورحمة كرامة للغلام، فوقع التفات من طريقة الغيبة إلى طريقة التكلم.
وجملة {وكان أمرًا مقضيًا} يجوز أن تكون من قول الملك، ويجوز أن تكون مستأنفة. وضمير {كان عائد إلى الوهْب المأخوذ من قوله لأهب لك غلامًا}. وهذا قطع للمراجعة وإنباء بأن التخليق قد حصل في رحمها. اهـ.