فصل: قال الجصاص:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



المسألة التاسعة:
لم قالت: {ياليتنى مِتُّ قَبْلَ هذا} مع أنها كانت تعلم أن الله تعالى بعث جبريل إليها وخلق ولدها من نفخ جبريل عليه السلام ووعدها بأن يجعلها وابنها آية للعالمين، والجواب من وجهين: الأول: قال وهب: أنساها كربة الغربة وما سمعته من الناس من بشارة الملائكة بعيسى عليه السلام.
الثاني: أن عادة الصالحين إذا وقعوا في بلاء أن يقولوا ذلك.
وروى عن أبي بكر أنه نظر إلى طائر على شجرة فقال: طوبى لك يا طائر تقع على الشجرة وتأكل من الثمر! وددت أني ثمرة ينقرها الطائر! وعن عمر أنه أخذ تبنة من الأرض وقال: ليتني هذه التبنة يا ليتني لم أك شيئًا! وقال علي يوم الجمل: يا ليتني مت قبل هذا اليوم بعشرين سنة، وعن بلال: ليت بلال لم تلده أمه.
فثبت أن هذا الكلام يذكره الصالحون عند اشتداد الأمر عليهم.
الثالث: لعلها قالت ذلك لكي لا تقع المعصية ممن يتكلم فيها، وإلا فهي راضية بما بشرت به.
المسألة العاشرة:
قال صاحب (الكشاف) النسي ما من حقه أن يطرح وينسى كخرقة الطمث ونحوها كالذبح اسم ما من شأنه أن يذبح كقوله: {وفديناه بِذِبْحٍ عَظِيمٍ} [الصافات: 107] تمنت لو كانت شيئًا تافهًا لا يؤبه به ومن حقه أن ينسى في العادة وقرأ ابن وثاب والأعمش وحمزة نسيًا بالفتح والباقون نسيًا بالكسر قال الفراء: هما لغتان كالوتر والوتر والجسر والجسر، وقرأ محمد بن كعب القرظي نسيئًا بالهمزة وهو الحليب المخلوط بالماء ينساه أهله لقلته وقرأ الأعمش منسيًا بالكسر على الإتباع كالمغير والمنخر، والله أعلم.
{فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا (24)}.
في الآية مسائل:
المسألة الأولى:
فناداها من تحتها القراءة المشهورة فناداها وقرأ زر وعلقمة فخاطبها وفي الميم فيها قراءتان فتح الميم وهو المشهور وكسره وهو قراءة نافع وحمزة والكسائي وحفص وفي المنادي ثلاثة أوجه: الأول: أنه عيسى عليه السلام وهو قول الحسن وسعيد بن جبير.
والثاني: أنه جبريل عليه السلام وأنه كان كالقابلة للولد.
والثالث: أن المنادي على القراءة بالكسر هو الملك وعلى القراءة بالفتح هو عيسى عليه السلام وهو مروي عن ابن عيينة وعاصم والأول أقرب لوجوه: الأول: أن قوله: {فَنَادَاهَا مِن تَحْتِهَا} بفتح الميم إنما يستعمل إذا كان قد علم قبل ذلك أن تحتها أحدًا والذي علم كونه حاصلًا تحتها هو عيسى عليه السلام فوجب حمل اللفظ عليه، وأما القراءة بكسر الميم فهي لا تقتضي كون المنادي جبريل عليه السلام، فقد صح قولنا.
الثاني: أن ذلك الموضع موضع اللوث والنظر إلى العورة وذلك لا يليق بالملائكة.
الثالث: أن قوله فناداها فعل ولابد وأن يكون فاعله قد تقدم ذكره ولقد تقدم قبل هذه الآية ذكر جبريل وذكر عيسى عليهما السلام إلا أن ذكر عيسى أقرب لقوله تعالى: {فَحَمَلَتْهُ فانتبذت بِهِ} [مريم: 22] والضمير هاهنا عائد إلى المسيح فكان حمله عليه أولى.
والرابع: وهو دليل الحسن بن علي عليه السلام أن عيسى عليه السلام لو لم يكن كلمها لما علمت أنه ينطق فما كانت تشير إلى عيسى عليه السلام بالكلام فأما من قال المنادي هو عيسى عليه السلام فالمعنى أنه تعالى أنطقه لها حين وضعته تطييبًا لقلبها وإزالة للوحشة عنها حتى تشاهد في أول الأمر ما بشرها به جبريل عليه السلام من علو شأن ذلك الولد ومن قال المنادي جبريل عليه السلام قال إنه أرسل إليها ليناديها بهذه الكلمات كما أرسل إليها في أول الأمر ليكون ذلك تذكيرًا لها بما تقدم من أصناف البشارات، وأما قوله: {مِن تَحْتِهَا} فإن حملناه على الولد فلا سؤال وإن حملناه على الملك ففيه وجهان: الأول: أن يكونا معًا في مكان مستو ويكون هناك مبدأ معين كتلك النخلة هاهنا فكل من كان أقرب منها كان فوق وكل من كان أبعد منها كان تحت وفسر الكلبي قوله تعالى: {إِذْ جَاءوكُمْ مّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ} [الأحزاب: 10] بذلك وعلى هذا الوجه قال بعضهم: إنه ناداها من أقصى الوادي.
والثاني: أن يكون موضع أحدهما أعلى من موضع الآخر فيكون صاحب العلو فوق صاحب السفل وعلى هذا الوجه روي عن عكرمة أنها كانت حين ولدت على مثل رابية وفيه وجه ثالث: يحكى عن عكرمة وهو أن جبريل عليه السلام ناداها من تحت النخلة ثم على التقديرات الثلاثة يحتمل أن تكون مريم قد رأته وأنها ما رأته وليس في اللفظ ما يدل على شيء من ذلك.
المسألة الثانية:
اتفق المفسرون إلا الحسن وعبد الرحمن بن زيد أن السري هو النهر والجدول سمي بذلك لأن الماء يسري فيه وأما الحسن وابن زيد فجعلا السري عيسى والسري هو النبيل الجليل يقال فلان من سروات قومه أي من أشرافهم وروي أن الحسن رجع عنه وروي عن قتادة وغيره أن الحسن تلا هذه الآية وبجنبه حميد بن عبد الرحمن الحميري: {قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا} فقال: إن كان لسريًا وإن كان لكريمًا، فقال له حميد: يا أبا سعيد إنما هو الجدول فقال له الحسن من ثم تعجبنا مجالستك، واحتج من حمله على النهر بوجهين: أحدهما: أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن السري فقال: هو الجدول.
والثاني: أن قوله: {فَكُلِي واشربي} يدل على أنه نهر حتى ينضاف الماء إلى الرطب فتأكل وتشرب واحتج من حمله (على) عيسى بوجهين: الأول: أن النهر لا يكون تحتها بل إلى جانبها ولا يجوز أن يجاب عنه بأن المراد منه أنه جعل النهر تحت أمرها يجري بأمرها ويقف بأمرها كما في قوله: {وهذه الأنهار تَجْرِى مِن تَحْتِي} [الزخرف: 51] لأن هذا حمل للفظ على مجازه ولو حملناه على عيسى عليه السلام لم يحتج إلى هذا المجاز.
الثاني: أنه موافق لقوله تعالى: {وَجَعَلْنَا ابن مَرْيَمَ وَأُمَّهُ ءايَةً وءاويناهما إلى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ} [المؤمنون: 50] والجواب عنه ما تقدم أن المكان المستوي إذا كان فيه مبدأ معين فكل من كان أقرب منه كان فوق وكل من كان أبعد منه كان من تحت فرعان: الأول: إن حملنا السري على النهر ففيه وجهان: أحدهما: أن جبريل عليه السلام ضرب برجله فظهر ماء عذب.
والثاني: أنه كان هناك ماء جار.
والأول: أقرب لأن قوله: {قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا} مشعر بالحدوث في ذلك الوقت ولأن الله تعالى ذكره تعظيمًا لشأنها وذلك لا يثبت إلا على الوجه الذي قلناه.
الثاني: اختلفوا في أن السري هو النهر مطلقًا وهو قول أبي عبيدة والفراء أو النهر الصغير على ما هو قول الأخفش.
المسألة الثالثة:
قال القفال: الجذع من النخلة هو الأسفل وما دون الرأس الذي عليه الثمرة وقال قطرب: كل خشبة في أصل شجرة فهي جذع وأما الباء في قوله بجذع النخلة فزائدة والمعنى هزي إليك أي حركي جذع النخلة، قال الفراء: العرب تقول هزه وهز به وخذ الخطام وخذ بالخطام وزوجتك فلانة وبفلانة، وقال الأخفش: يجوز أن يكون على معنى هزي إليك رطبًا بجذع النخلة أي على جذعها، إذا عرفت هذا فنقول: قد تقدم أن الوقت كان شتاء وأن النخلة كانت يابسة، واختلفوا في أنه هل أثمر الرطب وهو على حاله أو تغير، وهل أثمر مع الرطب غيره؟ والظاهر يقتضي أنه صار نخلة لقوله بجذع النخلة وأنه ما أثمر إلا الرطب.
المسألة الرابعة:
قال صاحب (الكشاف): تساقط فيه تسع قراءات تساقط بإدغام التاء وتتساقط بإظهار التاءين وتساقط بطرح الثانية ويساقط بالياء وإدغام التاء وتساقط وتسقط ويسقط وتسقط ويسقط التاء للنخلة والياء للجذع.
المسألة الخامسة:
رطبًا تمييز أو مفعول على حسب القراءة الجني المأخوذ طريًا وعن طلحة بن سليمان جنيًا بكسر الجيم للأتباع والمعنى جمعنا لك في السري والرطب فائدتين: إحداهما: الأكل والشرب.
والثانية: سلوة الصدر بكونهما معجزتين فإن قال قائل: فتلك الأفعال الخارقة للعادات لمن؟ قلنا: قالت المعتزلة: إنها كانت معجزة لزكريا وغيره من الأنبياء وهذا باطل لأن زكرياء عليه السلام ما كان له علم بحالها ومكانها فكيف بتلك المعجزات، بل الحق أنها كانت كرامات لمريم أو إرهاصًا لعيسى عليه السلام.
المسألة السادسة:
فكلي واشربي وقري عينًا قرىء بكسر القاف لغة نجد ونقول قدم الأكل على الشرب لأن احتياج النفساء إلى أكل الرطب أشد من احتياجها إلى شرب الماء لكثرة ما سال منها من الدماء، ثم قال: وقري عينًا، وهاهنا سؤال، وهو أن مضرة الخوف أشد من مضرة الجوع والعطش والدليل عليه أمران: أحدهما: أن الخوف ألم الروح والجوع ألم البدن وألم الروح أقوى من ألم البدن.
والثاني: ما روي أنه أجيعت شاة ثم قدم العلف إليها وربط عندها ذئب فبقيت الشاة مدة مديدة لا تتناول العلف مع جوعها الشديد خوفًا من الذئب ثم كسرت رجلها وقدم العلف إليها فتناولت العلف مع ألم البدن دلت هذه الحكاية على أن ألم الخوف أشد من ألم البدن.
إذا ثبت هذا فنقول: فلم قدم الله تعالى في الحكاية دفع ضرر الجوع والعطش على دفع ضرر الخوف، والجواب أن هذا الخوف كان قليلًا لأن بشارة جبريل عليه السلام كانت قد تقدمت فما كانت تحتاج إلى التذكير مرة أخرى.
المسألة السابعة:
قال صاحب (الكشاف) قرأ ترئن بالهمزة ابن الرومي عن أبي عمرو وهذا من لغة من يقول لبأت بالحج وحلأت السويق وذلك لتآخ بين الهمز وحرف اللين في الإبدال {صَوْمًا} صمتًا وفي مصحف عبد الله صمتًا وعن أنس بن مالك مثله وقيل صيامًا إلا أنهم كانوا لا يتكلمون في صيامهم فعلى هذا كان ذكر الصوم دالًا على الصمت وهذا النوع من النذر كان جائزًا في شرعهم، وهل يجوز مثل هذا النذر في شرعنا قال القفال لعله يجوز لأن الاحتراز عن كلام الآدميين وتجريد الفكر لذكر الله تعالى قربة، ولعله لا يجوز لما فيه من التضييق وتعذيب النفس كنذر القيام في الشمس، وروي أنه دخل أبو بكر على امرأة قد نذرت أنها لا تتكلم فقال أبو بكر: إن الإسلام هدم هذا فتكلمي، والله أعلم.
المسألة الثامنة:
أمرها الله تعالى بأن تنذر الصوم لئلا تشرع مع من اتهمها في الكلام لمعنيين: أحدهما: أن كلام عيسى عليه السلام أقوى في إزالة التهمة من كلامها وفيه دلالة على أن تفويض الأمر إلى الأفضل أولى.
والثاني: كراهة مجادلة السفهاء وفيه أن السكوت عن السفيه واجب، ومن أذل الناس سفيه لم يجد مسافهًا.
المسألة التاسعة:
اختلفوا في أنها هل قالت معهم: {إِنّى نَذَرْتُ للرحمن صَوْمًا} فقال قوم: إنها ما تكلمت معهم بذلك لأنها كانت مأمورة بأن تأتي بهذا النذر عند رؤيتها فإذا أتت بهذا النذر فلو تكلمت معهم بعد ذلك لوقعت في المناقضة ولكنها أمسكت وأومأت برأسها، وقال آخرون: إنها ما نذرت في الحال بل صبرت حتى أتاها القوم فذكرت لهم: {إِنّي نَذَرْتُ للرحمن صَوْمًا فَلَنْ أُكَلّمَ اليوم إِنسِيًّا} وهذه الصيغة وإن كانت عامة إلا أنها صارت بالقرينة مخصوصة في حق هذا الكلام. اهـ.

.قال الجصاص:

قَوْله تعالى: {قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا}.
قَالَ قَائِلُونَ: إنَّمَا تَمَنَّتْ الْمَوْتَ لِلْحَالِ الَّتِي دُفِعَتْ إلَيْهَا مِنْ الْوِلَادَةِ مِنْ غَيْرِ ذَكَرٍ.
وَهَذَا خَطَأٌ؛ لِأَنَّ هَذِهِ حَالٌ كَانَ اللَّهُ تعالى قَدْ ابْتَلَاهَا بِهَا وَصَيَّرَهَا إلَيْهَا وَقَدْ كَانَتْ هِيَ رَاضِيَةٌ بِقَضَاءِ اللَّهِ تعالى لَهَا بِذَلِكَ مُطِيعَةً لِلَّهِ، وَتَسَخُّطُ فِعْلِ اللَّهِ وَقَضَائِهِ مَعْصِيَةٌ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تعالى لَا يَفْعَلُ إلَّا مَا هُوَ صَوَابٌ وَحِكْمَةٌ، فَعَلِمْنَا أَنَّهَا لَمْ تَتَمَنَّ الْمَوْتَ لِهَذَا الْمَعْنَى وَإِنَّمَا تَمَنَّتْهُ لِعِلْمِهَا بِأَنَّ النَّاسَ سَيَرْمُونَهَا بِالْفَاحِشَةِ فَيَأْثَمُونَ بِسَبَبِهَا، فَتَمَنَّتْ أَنْ تَكُونَ قَدْ مَاتَتْ قَبْلَ أَنْ يَعْصِيَ النَّاسُ اللَّهَ بِسَبَبِهَا.
قَوْله تعالى: {فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةُ وَالضَّحَّاكُ وَالسُّدِّيُّ: (جِبْرِيلُ) عَلَيْهِ السَّلَامُ.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَالْحَسَنُ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَوَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ: (الَّذِي نَادَاهَا عِيسَى) عَلَيْهِ السَّلَامُ وقوله تعالى: {وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَمَا كُنْتُ} قَالَ مُجَاهِدٌ: (مُعَلِّمًا لِلْخَيْرِ).
وَقَالَ غَيْرُهُ: (جَعَلَنِي نَفَّاعًا). اهـ.

.قال ابن العربي:

قَوْله تعالى: {وهُزِّي إلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا}.
فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ:
المسألة الأُولَى:
قَوْلُهُ: {هُزِّي إلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ} أَمْرٌ بِتَكَلُّفِ الْكَسْبِ فِي الرِّزْقِ، وَقَدْ كَانَتْ قَبْلَ ذَلِكَ يَأْتِيهَا رِزْقُهَا مِنْ غَيْرِ تَكَسُّبٍ، كَمَا قال تعالى: {كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ}.
قَالَ عُلَمَاؤُنَا: كَانَ قَلْبُهَا فَارِغًا لِلَّهِ، فَفَرَّغَ اللَّهُ جَارِحَتَهَا عَنْ النَّصَبِ، فَلَمَّا وَلَدَتْ عِيسَى، وَتَعَلَّقَ قَلْبُهَا بِحُبِّهِ، وَكَّلَهَا اللَّهُ إلَى كَسْبِهَا، وَرَدَّهَا إلَى الْعَادَةِ فِي التَّعَلُّقِ بِالْأَسْبَابِ، وَفِي مَعْنَاهُ أَنْشَدُوا:
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ قَالَ لِمَرْيَمَ إلَيْك ** فَهُزِّي الْجِذْعَ يَسَّاقَطْ الرُّطَبْ

وَلَوْ شَاءَ أَحْنَى الْجِذْعَ مِنْ غَيْرِ هَزِّهَا ** إلَيْهَا وَلَكِنْ كُلُّ شَيْءٍ لَهُ سَبَبْ

وَقَدْ كَانَ حُبُّ اللَّهِ أَوْلَى بِرِزْقِهَا ** كَمَا كَانَ حُبُّ الْخَلْقِ أَدْعَى إلَى النَّصَبْ

المسألة الثَّانِيَةُ:
فِي صِفَةِ الْجِذْعِ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ كَانَ لِنَخْلَةٍ خَضْرَاءَ، وَلَكِنَّهُ كَانَ زَمَانَ الشِّتَاءِ، فَصَارَ وُجُودُ التَّمْرِ فِي غَيْرِ إبَّانِهِ آيَةً.
الثَّانِي: أَنَّهُ كَانَ جِذْعًا يَابِسًا فَهَزَّتْهُ، فَاخْضَرَّ وَأَوْرَقَ وَأَثْمَرَ فِي لَحْظَةٍ.
وَدَخَلْتُ بَيْتَ لَحْمٍ سَنَةَ خَمْسٍ وَثَمَانِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ، فَرَأَيْت فِي مُتَعَبَّدِهِمْ غَارًا عَلَيْهِ جِذْعٌ يَابِسٌ كَانَ رُهْبَانُهُمْ يَذْكُرُونَ أَنَّهُ جِذْعُ مَرْيَمَ بِإِجْمَاعٍ، فَلَمَّا كَانَ فِي الْمُحَرَّمِ سَنَةَ اثْنَتَيْنِ وَتِسْعِينَ دَخَلَتْ بَيْتَ لَحْمٍ قَبْلَ اسْتِيلَاءِ الرُّومِ عَلَيْهِ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ، فَرَأَيْت الْغَارَ فِي الْمُتَعَبَّدِ خَالِيًا مِنْ الْجِذْعِ. فَسَأَلَتْ الرُّهْبَانَ بِهِ، فَقَالُوا: نَخَرَ وَتَسَاقَطَ، مَعَ أَنَّ الْخَلْقَ كَانُوا يَقْطَعُونَهُ اسْتِشْفَاءً حَتَّى فُقِدَ.
المسألة الثَّالِثَةُ:
قَالَ ابْنُ وَهْبٍ: قَالَ مَالِكٌ: قَالَ اللَّهُ: رُطَبًا جَنِيًّا.
الْجَنِيُّ: مَا طَابَ مِنْ غَيْرِ نَقْشٍ وَلَا إفْسَادٍ، وَالنَّقْشُ أَنْ يُنْقَشَ فِي أَسْفَلِ الْبُسْرَةِ حَتَّى تُرَطَّبَ، فَهَذَا مَكْرُوهٌ يَعْنِي مَالِكٌ أَنَّ هَذَا تَعْجِيلٌ لِلشَّيْءِ قَبْلَ رِقَّتِهِ، وَإِفْسَادٌ لِجَنَاهُ؛ فَلَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ أَنْ يَفْعَلَهُ، وَلَوْ فَعَلَهُ فَاعِلٌ مَا كَانَ ذَلِكَ مُجَوِّزًا لِبَيْعِهِ، وَلَا حُكْمًا بِطِيبِهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ. اهـ.