فصل: قال الماوردي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الماوردي:

قوله تعالى: {فَأجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ}.
فيه وجهان:
أحدهما: معناه ألجأها، قاله ابن عباس، ومجاهد، وقتادة، ومنه قول الشاعر:
إذ شددنا شدة صادقة ** فأجأناكم إلى سفح الجبل

الثاني: معناه فجأها المخاض كقول زهير:
وجارٍ سارَ معتمدًا إلينا ** أجاءته المخافة والرجاء

وفي قراءة ابن مسعود {فَأَوَاهَا}.
{قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا} فيه ثلاثة أوجه:
أحدها: أنها خافت من الناس أن يظنوا بها سوءًا قاله السدي.
الثاني: لئلا يأثم الناس بالمعصية في قذفها.
الثالث: لأنها لم تَرَ في قومها رشيدًا ذا فراسة ينزهها من السوء، قاله جعفر بن محمد رحمهما الله.
{وَكُنتُ نَسْيًا مَّنسِيًّا} فيه خمسة تأويلات:
أحدها: لم أخلق ولم أكن شيئًا، قاله ابن عباس.
الثاني: لا أعرف ولا يدرى من أنا، قاله قتادة.
الثالث: النسي المنسي هو السقط، قاله الربيع، وأبو العالية.
الرابع: هو الحيضة الملقاة، قاله عكرمة، بمعنى خرق الحيض.
الخامس: معناه وكنت إذا ذكرت لم أطلب حكاه اليزيدي. والنسي عندهم في كلامهم ما أعقل من شيء حقير قال الراجز:
كالنسي ملقى بالجهاد البسبس

قوله تعالى: {فَنَادَاهَا مِن تَحْتِهآ أَلاَّ تَحْزَنِي}.
فيه قولان:
أحدهما: أن المنادي لها من تحتها جبريل، قاله ابن عباس، وقتادة، والضحاك، والسدي.
الثاني: أنه عيسى ابنها، قاله الحسن، ومجاهد.
وفي قوله من تحتها وجهان:
أحدهما: من أسفل منها في الأرض وهي فوقه على رأسه، قاله الكلبي.
الثاني: من بطنها: قاله بعض المتكلمين، بالقبطية.
{قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا} فيه قولان:
أحدهما: أن السريّ هو ابنها عيسى، لأن السري هو الرفيع الشريف مأخوذ من قولهم فلان من سروات قومه أي من أشرافهم، قاله الحسن، فعلى هذا يكون عيسى هو المنادي من تحتها {قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا}.
الثاني: أن السريّ هو النهر، قاله ابن عباس، ومجاهد، وابن جبير، وقتادة، والضحاك، لتكون النخلة لها طعامًا، والنهر لها شرابًا، وعلى هذا يكون جبريل هو المنادي لها {قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا}.
الثاني: أنه عربي مشتق من السراية فَسُمِّيَ السريّ لأنه يجري فيه ومنه قول الشاعر:
سهل الخليقة ماجد ذو نائلٍ ** مثل السريّ تمده الأنهار

وقيل: إن اسم السري يطلق على ما يعبره الناس من الأنهار وثبًا. وروى أبان بن تغلب في تفسيره القرآن خبرًا عن عدد لم يسمهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث شداد بن ثمامة مصدقًا لبني كعب بن مذحج وكتب له كتابًا: «عَلَى مَا سَقَتْهُ المَرَاسِمُ وَالجَدَاوِلُ وَالنَّوَاهِرُ وَالدَّوَافِعُ العُشْرُ وَنِصْفُ العشر بقيمة عَدْلٍ إِلاَّ الضَّوَامَرَ وَاللَّوَاقِحَ وَمَا َأطل الصور من الجفن. وَفِي كُلِّ أَرْبَعِينَ شَاةً شَاةٌ إِلاَّ العَقِيلَ وَالأَكِيلَ وَالربِيَّ. ومن كل ثلاثين بقرةً جِذْعٌ أَوْ جِذْعَةٌ إِلاَّ العَاقِرَ وَالنَّاشِطَ وَالرَّاشِحَ. وَمِن كُلِّ خَمْسٍ مِنَ الإِبِلِ المُوَّبلَةِ مُسِنَّةٌ مِنَ الغَنَمِ. وَلاَ صَدَقَةَ فِي الخَيلِ وَلاَ فِي الإِبِلِ العَامِلةِ. شَهِدَ جِرِيرٌ بِن عَبدِ اللَّهِ بن جَابرٍ البَجْلِي وَشَدَّادُ بن ثُمَامَةَ وَكَتَبَ المُغِيرَةُ بن شُعْبةِ» فالمراسل العيون، والجداول الأنهار الصغار، والنواهر الدوالي، والدوافع الأودية، والضوامر ما لم تحمل من النخل، واللواقح الفحول، والجفن الكرم، وما أطلاه من الزرع عفو، والعقيل فحل الغنم والأَيل الذي يُرَبَّى للأكل. والربي التي تربي ولدها والعاقر من البقر التي لا تحمل، والناشط الفحل الذي ينشط من أرض إلى أرض والراشح الذي يحرث الأرض.
قوله تعالى: {وَهُزِّي إِلَيكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ} الآية. اختلف في النخلة. على أربعة أقاويل:
أحدها: كانت برنية.
الثاني: صرفاتة، قاله أبو داود.
الثالث: قرينًا.
الرابع: عجوة، قاله مجاهد.
وفي {الجَنِي} ثلاثة أقاويل:
أحدها: المترطب البسر، قاله مقاتل.
الثاني: البلح لم يتغير، قاله أبو عمرو بن العلاء.
الثالث: أنه الطري بغباره. وقيل لم يكن للنخلة رأس وكان في الشتاء فجعله الله آية. قال مقاتل فاخضرت وهي تنظر ثم حملت وهي تنظر ثم نضجت وهي تنظر.
قوله تعالى: {فَكُلِي} يعني من الرطب الجني.
{وَاشْرَبِي} يعني من السريّ.
{وَقَرِّي عَيْنًا} يعني بالولد، وفيه ثلاثة أوجه:
أحدها: جاء يقر عينك سرورًا، قاله الأصمعي، لأن دمعة السرور باردة ودمعة الحزن حارة.
الثاني: طيبي نفسًا، قاله الكلبي.
الثالث: تسكن عينك ولذلك قيل ما شيء خير للنفساء من الرطب والتمر.
{فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا} يعني إما للإِنكار عليك وإما للسؤال لك.
{فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِ صَوْمًا} فيه تأويلان:
أحدهما: يعني صمتًا، وقد قرىء في بعض الحروف: {لِلرَّحَمْنِ صَمْتًا} وهذا تأويل ابن عباس وأنس بن مالك والضحاك.
الثاني: صومًا عن الطعام والشراب والكلام، قاله قتادة. {فَلَنْ أُكَلَّمَ الْيَوْمَ إِنسِيًّا} فيه وجهان:
أحدهما: أنها امتنعت من الكلام ليتكلم عنها ولدها فيكون فيه براءة ساحتها، قاله ابن مسعود ووهب بن منبه وابن زيد.
الثاني: أنه كان من صام في ذلك الزمان لم يكلم الناس، فأذن لها في المقدار من الكلام قاله السدي. اهـ.

.قال ابن عطية:

{فَحَمَلَتْهُ}.
وروي أن جبريل عيله السلام حين قاولها هذه المقاولة (نفخ في جيب درعها) فسرت النفخة بإذن الله حتى حملت منه قاله وهب بن منبه وغيره، وقال ابن جريح: نفخ في جيب درعها وكمها وقال أبي بن كعب (دخل الروح المنفوخ من فمها) فذلك قوله تعالى: {فحملته} أي حملت الغلام، ويذكر أنها كانت بنت ثلاث عشرة سنة، فلما أحست بذلك وخافت تعنيف الناس وأن يظن بها الشر {انتبذت به} أي تنحت {مكانًا} بعيدًا حياء وفرارًا على وجهها، وروي في هذا أنها فرت الى بلاد مصر أو نحوها قال وهب بن منبه، وروي أيضًا أنها خرجت الى موضع يعرف (ببيت لحم) بينه وبين أيلياء أربعة أميال و{أجاءها} معناه، فاضطرها وهو تعدية جاء بالهمزة وقرأ شبل بن عزرة ورويت عن عاصم (فاجأها) من المفاجأة وفي مصحف أبي بن كعب (فلما أجاءها المخاض).
وقال زهير: الوافر:
وجار سار معتمدًا إليكم ** أجاءته المخافة والرجاء

وقرأ الجمهور: {المَخاض} بفتح الميم، وقرأ ابن كثير فيما روي عنه بكسرها وهو (الطلق وشدة الولادة وأوجاعها)، روي أنها بلغت الى موضع كان فيه {جذع نخلة} بالٍ يابس في أصله مذود بقرة على جرية ماء فاشتد بها الأمر هنالك واحتضنت الجذع لشدة الوجع وولدت عيسى عليه السلام فقالت عند ولادتها لما رأته من الآلام والتغرب وإنكار قومها وصعوبة الحال من غير ما وجه، {يا ليتني مت} ولم يجر علي هذا القدر، وقرأ الحسن وأبو جعفر وشيبة وعاصم وأبو عمرو وجماعة {مُت} بضم الميم، وقرأ الأعرج وطلحة ويحيى والأعمش: {مِت} بكسرها واختلف عن نافع، وتمنت مريم الموت من جهة الدين إذ خافت أن يظن بها الشر في دينها وتعير فيفتنها ذلك وهذا مباح، وعلى هذا الحد تمناه عمر بن الخطاب رضي الله عنه وجماعة من الصالحين ونهي النبي عليه السلام عن تمني الموت إنما هو لضر نزل بالبدن وقد أباحه عليه السلام في قوله: «يأتي على الناس زمان يمر الرجل بقبر الرجل فيقول يا ليتني مكانه».
قال القاضي أبو محمد: لأنه زمن فتن يذهب بالدين، {وكنت نسيًا} أي شيئًا متروكًا محتقرًا، و(النسي) في كلام العرب الشيء الحقير الذي شأنه أن ينسى فلا يتألم لفقده، كالوتد والحبل للمسافر ونحوه، ويقال (نِسي) بكسر النون و(نَسي) بفتحها، وقرأ الجمهور بالكسر، وقرأ حمزة وحده بالفتح، واختلف عن عاصم، وكقراءة حمزة، قرأ طلحة ويحيى والأعمش، وقرأ محمد بن كعب القرظي بالهمز {نِسئًا} بكسر النون، وقرأ نوف البكالي (نَسًا) بفتح النون، وحكاها أبو الفتح والداني عن محمد بن كعب، وقرأ بكر بن حبيب (نَسًّا) بشد السين وفتح النون دون همز، وقال الشنفرى: الطويل:
كأنَّ لها في الأرض نسًّا تقصه ** إذا ما غذت وإن تحدثك تبلت

وحكى الطبري في قصصها أنها لما حملت بعيسى حملت أيضًا أختها بيحيى، فجاءتها أختها زائرة فقالت (يا مريم أشعرت أني حملت) قالت لها مريم (أشعرت أنت أني حملت) قالت له (وإني أجد ما في بطني يسجد لما في بطنك) وذلك أنه روي أنها أحست جنينها يخر برأسه الى ناحية بطن مريم، قال السدي فذلك قوله تعالى: {مصدقًا بكلمة من الله} [آل عمران: 39] وفي هذا كله ضعف فتأمله. وكذلك ذكر الطبري من قصصها أنها خرجت فارّة مع رجل من بني اسرائيل يقال له يوسف النجار كان يخدم معها المسجد وطول في ذلك فاختصرته لضعفه، وهذه القصة تقتضي أنها حملت واستمرت حاملًا على عرف البشر واستحيت من ذلك ومرت بسببه وهي حامل وهو قول الجمهور المتأولين، وروي عن ابن عباس أنه قال ليس إلا أن حملت فوضعت في ساعة واحدة والله أعلم. وظاهر قوله: {فأجاءها المخاض} يقتضي أنها كانت على عرف النساء، وتظاهرت الروايات بأنها ولدته لثمانية أشهر ولذلك قيل لا يعيش ابن ثمانية أشهر حفظًا لخاصية عيسى عليه السلام وقيل ولدته لسبعة وقيل لستة.
{فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا (24)}.
قرأ ابن كثير وأبو عمرو وعاصم وابن عامر وابن عباس والحسن وزيد بن حبيش ومجاهد والجحدري وجماعة {فناداها مَن تحتها} على أن {مَن} فاعل ينادي والمراد ب {مَن} عيسى، قال أي ناداها المولود قاله مجاهد والحسن وابن جبير وأبي بن كعب، وقال ابن عباس المراد {مَن} جبريل ولم يتكلم حتى أتت به قومها وقال علقمة والضحاك وقتادة، ففي هذه آية لها وأمارة أن هذا من الأمور الخارقة للعادة التي لله فيها مراد عظيم لاسيما والمنادي عيسى فأنه يبين به عذر مريم ولا تبقى بها استرابة، فلذلك كان النداء أن لا يقع حزن، وقرأ نافع وحمزة والكسائي وحفص عن عاصم والبراء بن عازب والضحاك وعمرو بن ميمون وأهل الكوفة وأهل المدينة وابن عباس أيضًا والحسن {مِن تحتها} بكسر الميم على أنها لابتداء الغاية واختلفوا، فقال بعضهم: المراد عيسى، وقالت فرقة: المراد جبريل المحاور لها قبل، قالوا: وكان في سعة من الأرض أخفض من البقعة التي كانت هي عليها وأبين وأظهر، وعليه كان الحسن بن أبي الحسن يقسم وقرأ علقمة وزر بن حبيش {فخاطبها من تحتها}، وقرأ ابن عباس: {فناداها ملك من تحتها}. وقوله: {ألا تحزني} تفسير النداء ف {أن} مفسرة بمعنى أي، و(السري) من الرجال العظيم الخصال السيد، و(السري) أيضًا الجدول من الماء، وبحسب هذا اختلف الناس في هذه الآية فقال قتادة وابن زيد: أراد جعل تحتك عظيمًا من الرجال له شأن، وقال الجمهور أشار لها إلى الجدول الذي كان قرب جذع نخلة، وروي أن الحسن فسر الآية فقال أجل لقد جعله الله {سريًا} كريمًا، فقال عبيد بن عبدالرحمن الحميري يا أبا سعيد إنما يعني ب (السري) الجدول. وقال الحسن لهذه وأشباهها أحب قربك ولكن غلبنا عليك الأمراء ومن الشاهد في (السري) قول لبيد. الكامل:
فتوسطا عرض السري فصدعا ** مسجورة متجاورًا قلاّمها

ثم أمر بهز الجذع اليابس لترى آية أخرى في إحياء موات الجذع، وقالت فرقة بل كانت النخلة مطعمة {رطبًا}، وقال السدي كان الجذع مقطوعًا وأجرى النهر تحتها لحينه، والظاهر من الآية أن عيسى هو المكلم لها وأن الجذع كان يابسًا وعلى هذا تكون آيات تسليها وتسكن إليها. والباء في قوله: {بجذع} زائدة مؤكدة قال أبو علي: كما يقال ألقى بيده أي ألقى يده.
قال القاضي أبو محمد: وفي هذا المثال عندي نظر، وأنشد الطبري: الطويل:
بواد يمان ينبت السدر صدره ** وأسفله بالمزج والشبهان

وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمر وابن عامر والكسائي وابو بكر عن عاصم والجمهور من الناس {تَسّاقط} بفتح التاء وشد السين يريد {النخلة}، وقرأ البراء بن عازب والأعمش: {يساقط} بالياء يريد (الجذع)، وقرأ حمزة وحده {تَسَاقط} بفتح التاء وتخفيف السين، وهي قراءة مسروق وابن وثاب وطلحة وأبي عمرو بخلاف، وقرأت فرقة {يساقط} بالياء على ما تقدم من إدارة {النخلة} أو (الجذع). وقرأ عاصم في رواية حفص {تُسَاقط} بضم التاء وتخفيف السين، وقرأت فرقة {يساقط} بالياء، وقرأ أبو حيوة: {يسقط} بالياء، وروي عنه {يُسقط} بضم الياء وقرأ أيضًا {تسقط} وحكى أبو علي في الحجة أنه قرئ {يتساقط} بباء وتاء، وروي عن مسروق {تُسقِط} بضم التاء وكسر القاف، وكذلك عن أبي حيوة، وقرأ أبو حيوة أيضًا {يسقُط} بفتح الياء وضم القاف، {رطب جني} بالرفع، ونصب {رطبًا} يختلف بحسب معاني القراءات المذكورة، فمرة يسند الفعل الى الجذع ومرة الى الهز، ومرة الى {النخلة} و{جنيًا} معناه قد طابت وصلحت للاجتناء، وهو من جنيت الثمرة. وقرأ طلحة بن سليمان {جِنيًا} بكسر الجيم، وقال عمرو بن ميمون: ليس شيء للنفساء خيرًا من التمر والرطب، وقال محمد بن كعب: كان رطب عجوة، وقد استدل بعض الناس من هذه الآية على أن الرزق وإن كان محتومًا فإن الله تعالى قد وكل ابن آدم الى سعي ما فيه لأنه أمرت مريم بهز الجذع لترى آية، وكانت الآية تكون بأن لا تهز هي. وحكى الطبري عن ابن زيد أنه قال (قال لها عيسى: لا تحزني، فقالت وكيف لا أحزن وأنت معي لا ذات زوج ولا مملوكة أي شيء عذري عند الناس {يا ليتني مت قبل هذا وكنت نسيًا منسيًا} [مريم: 23]، فقال لها عيسى: أنا أكفيك الكلام). وقوله: {فكلي واشربي وقري} الآية، قرأ الجمهور: {وقَري} بفتح الكاف، وحكى الطبري قراءة: {وقِري} بكسر القاف، وقرة العين مأخوذة من القر وذلك أنه يحكى أن دمع الفرح بارد المس ودمع الحزن سخن المس، وضعفت فرقة هذا وقالت: الدمع كله سخن وإنما معنى قرة العين أن البكاء الذي يسخن العين ارتفع إذ لا حزن بهذا الأمر الذي قرت به العين. وقال الشيباني {قري عينًا} معناه نامي، حضها على الأكل والشرب والنوم. وقوله: {عينًا} نصب على التمييز، والفعل في الحقيقة إنما هو للعين فينقل ذلك الى ذي العين وينصب الذي كان فاعلًا في الحقيقة على التفسير، ومثله طبت نفسًا وتفقأت شحمًا وتصببت عرقًا، وهذا كثير.
وقرأ الجمهور: {ترين} وأصله ترءيين حذفت النون للجزم، ثم نقلت حركة الهمزة الى الراء، ثم قلبت الياء الأولى ألفًا لتحركها وانفتاح ما قبلها، فاجتمع ساكنان الألف والياء، فحذفت الألف فجاء ترى وعلى هذا النحو هو قول الأفوه: السريع:
أما ترى رأسي أزرى به

ثم دخلت النون الثقيلة، فكسرت الياء لاجتماع ساكنين منها ومن النون، وإنما دخلت النون هنا بتوطئة ما كما توطئ لدخولها أيضًا لام القسم. وقرأ أبو عمرو فيما روي عنه {ترءين} بالهمزة، وقرأ طلحة وأبو جعفر وشيبة {ترينَ} بسكون الياء وفتح النون خفيفة، قال أبو الفتح: وهي شاذة، ومعنى هذه الآية أن الله تعالى أمرها على لسان جبريل أو ابنها على الخلاف المتقدم بأن تمسك عن مخاطبة البشر وتحيل على ابنها في ذلك ليرتفع عنها خجلها، وتبين الآية فيقوم عذرها، وظاهر الآية أنها أبيح لها أن تقول هذه الألفاظ التي في الآية وهو قول الجمهور. وقالت فرقة معنى {فقولي} بالإشارة لا بالكلام والا فكأن التناقض بين في أمرها. وقرأ ابن عباس وأنس بن مالك {إني نذرت للرحمن وصمت}. وقال قوم معناه {صومًا} عن الكلام إذ أصل الصوم الإمساك ومنه قول الشاعر: البسيط:
خيل صيام وأخرى غير صائمة

وقال ابن زيد والسدي: كانت سنة الصيام عندهم الإمساك عن الأكل والكلام، وقرأت فرقة {إني نذرت للرحمن صمتًا} ولا يجوز في شرعنا أن ينذر أحد صمتًا، وقد أمر ابن مسعود من فعل ذلك بالنطق والكلام. قال المفسرون: أمرت مريم بهذا ليكفيها عيسى الاحتجاج. اهـ.