فصل: قال القرطبي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال القرطبي:

قوله تعالى: {فانتبذت بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا}.
أي تنحت بالحمل إلى مكان بعيد؛ قال ابن عباس: إلى أقصى الوادي، وهو وادي بيت لحم بينه وبين إيلياء أربعة أميال؛ وإنما بعدت فرارًا من تعيير قومها إياها بالولادة من غير زوج.
قال ابن عباس: ما هو إلا أن حملت فوضعت في الحال وهذا هو الظاهر؛ لأن الله تعالى ذكر الانتباذ عقب الحمل.
وقيل: غير ذلك على ما يأتي.
قوله تعالى: {فَأَجَاءَهَا المخاض إلى جِذْعِ النخلة} (أجاءَهَا) بمعنى اضطرها؛ وهو تعدية جاء بالهمز.
يقال: جاء به وأجاءه إلى موضع كذا، كما يقال: ذهب به وأذهبه.
وقرأ شبيل ورويت عن عاصم {فاجأها} من المفاجأة.
وفي مصحف أبيّ {فلما أجاءها المخاض}.
وقال زهير:
وَجَارٍ سَار معتمدًا إلينَا ** أَجاءَتْهُ المخافَةُ والرَّجاءُ

وقرأ الجمهور: {المخَاضُ} بفتح الميم.
وابن كثير فيما روي عنه بكسرها وهو الطلق وشدّة الولادة وأوجاعها.
مَخِضت المرأة تَمخَض مَخَاضًا ومِخَاضًا.
وناقة ماخض أي دنا ولادها.
{إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ} كأنها طلبت شيئًا تستند إليه وتتعلق به، كما تتعلق الحامل لشدّة وجع الطلق.
والجذع ساق النخلة اليابسة في الصحراء الذي لا سعف عليه ولا غصن؛ ولهذا لم يقل إلى النخلة.
{قَالَتْ يا ليتني مِتُّ قَبْلَ هذا} تمنت مريم عليها السلام الموت من جهة الدين لوجهين: أحدهما: أنها خافت أن يظن بها الشر في دينها وتعير فيفتنها ذلك.
الثاني: لئلا يقع قوم بسببها في البهتان والنسبة إلى الزنى وذلك مهلك.
وعلى هذا الحدّ يكون تمني الموت جائزًا، وقد مضى هذا المعنى مبينًا في سورة (يوسف) عليه السلام. والحمد لله.
قلت: وقد سمعتُ أن مريم عليها السلام سمعت نداء من يقول: اخرج يا من يُعبَد من دون الله فحزنت لذلك، و{قَالَتْ يا ليتني مِتُّ قَبْلَ هذا وَكُنتُ نَسْيًا مَّنسِيًّا}.
النِّسي في كلام العرب الشيء الحقير الذي شأنه أن ينسى ولا يتألم لفقده كالوتد والحبل للمسافر ونحوه.
وحكي عن العرب أنهم إذا أرادوا الرحيل عن منزل قالوا: احفظوا أنساءكم؛ الأنساء جمع نِسي وهو الشيء الحقير يغفل فينسى.
ومنه قول الكميت رضي الله تعالى عنه:
أتجعلنا جِسْرًا لكلبٍ قُضَاعةٌ ** ولستُ بِنسْيٍ في مَعَدٍّ ولا دَخل

وقال الفراء: النّسي ما تلقيه المرأة من خِرَق اعتلالها؛ فقول مريم: (نسيا منسيا) أي حيضة ملقاة.
وقرىء {نَسْيًا} بفتح النون وهما لغتان مثل الحِجْر والحَجْر والوِتْر والوَتْر.
وقرأ محمد بن كعب القرظي بالهمز {نِسْئًا} بكسر النون.
وقرأ نوف البِكَاليّ {نَسْئًا} بفتح النون من نسأ الله تعالى في أجله أي أخره.
وحكاها أبو الفتح والدَّاني عن محمد بن كعب.
وقرأ بكر بن حبيب {نَسًّا} بتشديد السين وفتح النون دون همز.
وقد حكى الطبري في قصصها أنها لما حملت بعيسى عليه السلام حملت أيضًا أختها بيحيى، فجاءتها أختها زائرة فقالت: يا مريم أشعرت أنت أني حملت؟ فقالت لها: وإني أجد ما في بطني يسجد لما في بطنك؛ فذلك أنه روي أنها أحست بجنينها يخر برأسه إلى ناحية بطن مريم؛ قال السدي فذلك قوله: {مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِّنَ الله وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِّنَ الصالحين} [آل عمران: 39].
وذكر أيضًا من قصصها أنها خرجت فارّة مع رجل من بني إسرائيل يقال له يوسف النجار، كان يخدم معها في المسجد وطوّل في ذلك.
قال الكلبي: قيل ليوسف وكانت سميت له أنها حملت من الزنى فالآن يقتلها الملك، فهرب بها، فهمَّ في الطريق بقتلها، فأتاه جبريل عليه السلام وقال له: إنه من روح القدس؛ قال ابن عطية: وهذا كله ضعيف.
وهذه القصة تقتضي أنها حملت، واستمرّت حاملًا على عرف النساء، وتظاهرت الروايات بأنها ولدته لثمانية أشهر. قاله عكرمة؛ ولذلك قيل: لا يعيش ابن ثمانية أشهر حفظًا لخاصة عيسى. وقيل: ولدته لتسعة. وقيل: لستة. وما ذكرناه عن ابن عباس أصح وأظهر. والله أعلم.
قوله تعالى: {فَنَادَاهَا مِن تَحْتِهَآ} قرىء بفتح الميم وكسرها.
قال ابن عباس: المراد ب {من} جبريل، ولم يتكلم عيسى حتى أتت به قومها؛ وقاله علقمة والضحاك وقتادة؛ ففي هذا لها آية وأمارة أن هذا من الأمور الخارقة للعادة التي لله تعالى فيها مراد عظيم.
وقوله: {أَلاَّ تَحْزَنِي} تفسير النداء، (وأَنْ) مفسرّة بمعنى أي؛ المعنى: فلا تحزني بولادتك.
{قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا} يعني عيسى. والسريّ من الرجال العظيم الخصال السيّد. قال الحسن: كان والله سريّا من الرجال. ويقال: سَرِي فلان على فلان أي تكرم. وفلان سريٌّ من قوم سَرَاة.
وقال الجمهور: أشار لها إلى الجدول الذي كان قريب جذع النخلة. قال ابن عباس: كان ذلك نهرًا قد انقطع ماؤه فأجراه الله تعالى لمريم. والنهر يسمى سَرِيًّا كأنَّ الماء يسري فيه؛ قال الشاعر:
سَلْمٌ تَرَى الدَّالِيَّ منه أَزْوَرَا ** إذا يَعُبُّ في السَّرِيِّ هَرْهَرَا

وقال لبيد:
فَتَوَسَّطَا عُرْضَ السَّرِيِّ وَصَدَّعَا ** مَسْجُورَةً مُتَجَاوِرًا قُلاَّمُهَا

وقيل: ناداها عيسى، وكان ذلك معجزة وآية وتسكينًا لقلبها؛ والأول أظهر.
وقرأ ابن عباس: {فَنَاداها ملك مِن تحتِها} قالوا: وكان جبريل عليه السلام في بقعة من الأرض أخفض من البقعة التي كانت هي عليها.
قوله تعالى: {وهزى إِلَيْكِ بِجِذْعِ النخلة تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا فَكُلِي واشربي وَقَرِّي عَيْنًا}.
فيه أربع مسائل:
الأولى: قوله تعالى: {وهزى} أمرها بهزّ الجذع اليابس لترى آية أخرى في إحياء موات الجذع.
والباء في قوله: {بجذع} زائدة مؤكدة كما يقال: خذ بالزمام، وأعط بيدك؛ قال الله تعالى: {فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السماء} [الحج: 15] أي فليمدد سببًا.
وقيل: المعنى؛ وهزي إليك رطبًا على جذع النخلة.
و{تَسَّاقَطْ} أي تتساقط فأدغم التاء في السين.
وقرأ حمزة {تَسَاقَطْ} مخففًا فحذف التي أدغمها غيره.
وقرأ عاصم في رواية حفص {تُسَاقِطْ} بضم التاء مخففًا وكسر القاف.
وقرىء {تَتَسَاقَطْ} بإظهار التاءين و{يَسَّاقَطْ} بالياء وإدغام التاء {وتُسْقِط} و{يُسْقِط} و{تَسْقُطْ} و{يَسْقط} بالتاء للنخلة وبالياء للجذع؛ فهذه تسع قراءات ذكرها الزمخشري رحمة الله تعالى عليه.
{رطبًا} نصب بالهز؛ أي إذا هززت الجذع هززتِ بهزه {رطبًا جنيا}.
وعلى الجملة ف {رطبًا} يختلف نصبه بحسب معاني القراءات؛ فمرة يستند الفعل إلى الجذع، ومرة إلى الهزّ، ومرة إلى النخلة.
و{جنيا} معناه قد طابت وصلحت للاجتناء، وهي من جنيت الثمرة.
ويروى عن ابن مسعود ولا يصح أنه قرأ {تساقط عليك رطبًا جنيًا بَرْنيًّا}.
وقال مجاهد: {رطبًا جنِيًا} قال: كانت عجوة.
وقال عباس بن الفضل: سألت أبا عمرو بن العلاء عن قوله: {رطبًا جنيًا} فقال: لم يذو.
قال وتفسيره: لم يجف ولم ييبس ولم يبعد عن يدي مجتنيه؛ وهذا هو الصحيح.
قال الفراء: الجنيّ والمجنيّ واحد؛ يذهب إلى أنهما بمنزلة القتيل والمقتول والجريح والمجروح.
وقال غير الفراء: الجنيّ المقطوع من نخلة واحدة، والمأخوذ من مكان نشأته؛ وأنشدوا:
وطيب ثمار في رياضٍ أرِيضةٍ ** وأغصان أشجارٍ جَنَاها على قُرْبِ

يريد بالجَنَى ما يجنى منها أي يقطع ويؤخذ.
قال ابن عباس: كان جذعًا نخزًا فلما هزت نظرت إلى أعلى الجذع فإذا السعف قد طلع، ثم نظرت إلى الطلع قد خرج من بين السعف، ثم اخضر فصار بلحًا ثم احمر فصار زَهْوًا، ثم رطبًا؛ كل ذلك في طرفة عين، فجعل الرطب يقع بين يديها لا ينشدخ منه شيء.
الثانية: استدل بعض الناس من هذه الآية على أن الرزق وإن كان محتومًا؛ فإن الله تعالى قد وكَلَ ابن آدم إلى سعي مّا فيه؛ لأنه أمر مريم بهز النخلة لترى آية، وكانت الآية تكون بألا تهز.
الثالثة: الأمر بتكليف الكسب في الرزق سنة الله تعالى في عباده، وأن ذلك لا يقدح في التوكل، خلافًا لما تقوله جهال المتزهدة؛ وقد تقدم هذا المعنى والخلاف فيه.
وقد كانت قبل ذلك يأتيها رزقها من غير تكسب كما قال: {كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا المحراب وَجَدَ عِندَهَا رِزْقًا} [آل عمران: 37] الآية.
فلما ولدت أمرت بهزّ الجذع.
قال علماؤنا: لما كان قلبها فارغًا فرغ الله جارحتها عن النصب، فلما ولدت عيسى وتعلق قلبها بحبه، واشتغل سرها بحديثه وأمره، وكلها إلى كسبها، وردها إلى العادة بالتعلق بالأسباب في عباده.
وحكى الطبري عن ابن زيد أن عيسى عليه السلام قال لها: لاتحزني؛ فقالت له: كيف لا أحزن وأنت معي؟! لا ذات زوج ولا مملوكة! أي شيء عذري عند الناس؟! {ياليتني مِتُّ قَبْلَ هذا وَكُنتُ نَسْيًا مَّنسِيًّا} فقال لها عيسى: أنا أكفيك الكلام.
الرابعة: قال الربيع بن خيثم: ما للنفساء عندي خير من الرطب لهذه الآية، ولو علم الله شيئًا هو أفضل من الرطب للنفساء لأطعمه مريم؛ ولذلك قالوا: التمر عادة للنفساء من ذلك الوقت، وكذلك التّحنيك. وقيل: إذا عسر ولادها لم يكن لها خير من الرطب، ولا للمريض خير من العسل؛ ذكره الزمخشري.
قال ابن وهب قال مالك قال الله تعالى: {رطبًا جنِيا} الجنيّ من التمر ما طاب من غير نَقْش ولا إفساد.
والنَّقْش أن يُنقَش من أسفل البسرة حتى ترطب؛ فهذا مكروه؛ يعني مالك أن هذا تعجيل للشيء قبل وقته، فلا ينبغي لأحد أن يفعله، وإن فعله فاعل ما كان ذلك مجوّزًا لبيعه؛ ولا حُكْمًا بطيبه.
وقد مضى هذا القول في الأنعام.
والحمد لله.
وعن طلحة بن سليمان {جِنِيًّا} بكسر الجيم للإتباع؛ أي جعلنا لك في السريّ والرطب فائدتين: إحداهما الأكل والشرب، والثانية سلوة الصدر؛ لكونهما معجزتين؛ وهو (معنى) قوله تعالى: {فَكُلِي واشربي وَقَرِّي عَيْنًا} أي فكلي من الجنيّ، واشربي من السريّ، وقرّي عينًا برؤية الولد النبيّ.
وقرىء بفتح القاف وهي قراءة الجمهور.
وحكى الطبريّ قراءة {وَقِرِّي} بكسر القاف وهي لغة نجد.
يقال: قَرَّ عينًا يَقُر ويَقِر بضم القاف وكسرها؛ وأقر الله عينه فقرّت.
وهو مأخوذ من القُرّ والقِرّة وهما البَرْد.
ودمعة السرور باردة، ودمعة الحزن حارة.
وضعّفت فرقة هذا وقالت: الدمع كله حار، فمعنى أقر الله عينه أي سكن الله عينه بالنظر إلى من يحبه حتى تقرّ وتسكن؛ وفلان قُرة عيني؛ أي نفسي تسكن بقربه.
وقال الشيباني: {وقرّي عينًا} معناه نامي؛ حضها على الأكل والشرب والنوم.
قال أبو عمرو: أقرّ الله عينه أي أنام عينه، وأذهب سهره.
و{عينًا} نصب على التمييز؛ كقولك: طب نفسًا.
والفعل في الحقيقة إنما هو للعين فنقل ذلك إلى ذي العين؛ وينصب الذي كان فاعلًا في الحقيقة على التفسير.
ومثله طبت نفسًا، وتفقأت شحمًا، وتصببت عرقًا، ومثله كثير.
قوله تعالى: {فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ البشر أَحَدًا فقولي إِنِّي نَذَرْتُ للرحمن صَوْمًا} فيه ثلاث مسائل:
الأولى: قوله تعالى: {فَإِمَّا تَرَيِنَّ} الأصل في تريِن تَرْأَيِينَ فحذفت الهمزة كما حذفت من ترى ونقلت فتحتها إلى الراء فصار {تريين}، ثم قلبت الياء الأولى ألفًا لتحركها وانفتاح ما قبلها، فاجتمع ساكنان الألف المنقلبة عن الياء وياء التأنيث، فحذفت الألف لالتقاء الساكنين، فصار تَرَيْنَ، ثم حذفت النون علامة للجزم لأن إن حرف شرط وما صلة فبقي تَرَىْ، ثم دخله نون التوكيد وهي مثقلة، فكسر ياء التأنيث لالتقاء الساكنين؛ لأن النون المثقلة بمنزلة نونين الأولى ساكنة فصار تَرَيِنَ وعلى هذا النحو قول ابن دريد:
إما تَرَىْ رأسِيَ حَاكَى لونُهُ

وقول الأفوه:
إما تَرَىْ رأسِيَ أَزْرَى به

وإنما دخلت النون هنا بتوطئة ما كما يوطِّىء لدخولها أيضًا لام القسم.
وقرأ طلحة وأبو جعفر وشيبة {تَرَيْنَ} بسكون الياء وفتح النون خفيفة؛ قال أبو الفتح: وهي شاذة.
الثانية: قوله تعالى: {فقولي إِنِّي نَذَرْتُ} هذا جواب الشرط وفيه إضمار؛ أي فسألكِ عن ولدِك {فقولي إِنِّي نَذَرْتُ للرحمن صَوْمًا} أي صَمْتًا؛ قاله ابن عباس وأنس بن مالك.
وفي قراءة أبيّ بن كعب {إِنِّي نَذَرْتُ للرحمن صَوْمًا صَمْتًا}.
وروي عن أنس.
وعنه أيضًا {وصمتًا} بواو، واختلاف اللفظين يدل على أن الحرف ذكر تفسيرًا لا قرآنًا؛ فإذا أتت معه واو فممكن أن يكون غير الصوم.
والذي تتابعت به الأخبار عن أهل الحديث ورواة اللغة أن الصوم هو الصمت؛ لأن الصوم إمساك والصمت إمساك عن الكلام.
وقيل: هو الصوم المعروف، وكان يلزمهم الصمت يوم الصوم إلا بالإشارة.
وعلى هذا تخرج قراءة أنس {وصمتًا} بواو، وأن الصمت كان عندهم في الصوم ملتزمًا بالنذر، كما أن من نذر منا المشي إلى البيت اقتضى ذلك الإحرام بالحج أو العمرة. ومعنى هذه الآية أن الله تعالى أمرها على لسان جبريل عليه السلام أو ابنها على الخلاف المتقدم بأن تمسك عن مخاطبة البشر، وتحيل على ابنها في ذلك ليرتفع عنها خجلها، وتتبين الآيةُ فيقوم عذرها. وظاهر الآية أنها أبيح لها أن تقول هذه الألفاظ التي في الآية، وهو قول الجمهور. اهـ.