فصل: قال الشوكاني في الآيات السابقة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الشوكاني في الآيات السابقة:

{وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا (16)}.
قوله: {واذكر فِي الكتاب مَرْيَمَ} هذا شروع في ابتداء خلق عيسى، والمراد بالكتاب: هذه السورة، أي اذكر يا محمد للناس في هذه السورة قصة مريم، ويجوز أن يراد بالكتاب: جنس القرآن وهذه السورة منه، ولما كان الذكر لا يتعلق بالأعيان احتيج إلى تقدير مضاف يتعلق به الذكر، وهو قصة مريم، أو خبر مريم {إِذِ انتبذت} العامل في الظرف هو ذلك المضاف المقدّر، ويجوز أن يجعل بدل اشتمال من مريم، لأن الأزمان مشتملة على ما فيها، ويكون المراد بمريم: خبرها، وفي هذا الإبدال دلالة على تفخيم شأن الوقت لوقوع قصتها العجيبة فيه، والنبذ: الطرح والرمي.
قال الله سبحانه: {فَنَبَذُوهُ وَرَاء ظُهُورِهِمْ} [آل عمران: 187].
والمعنى: أنها تنحت وتباعدت. وقال ابن قتيبة: اعتزلت. وقيل: انفردت، والمعاني متقاربة. واختلفوا في سبب انتباذها، فقيل: لأجل أن تعبد الله سبحانه وقيل لتطهر من حيضها، و{مّنْ أَهْلِهَا} متعلق ب {انتبذت}، وانتصاب {مَكَانًا شَرْقِيًا} على المفعولية للفعل المذكور، أي مكانًا من جانب الشرق، والشرق بسكون الراء: المكان الذي تشرق فيه الشمس، وإنما خص المكان بالشرق لأنهم كانوا يعظمون جهة الشرق لأنها مطلع الأنوار، حكى معناه ابن جرير.
وقد اختلف الناس في نبوّة مريم، فقيل: إنها نبية بمجرّد هذا الإرسال إليها ومخاطبتها للملك وقيل: لم تكن نبية، لأنه إنما كلمها الملك وهو على مثال البشر، وقد تقدّم الكلام في هذا في آل عمران.
{فاتخذت مِن دُونِهِم حِجَابًا} أي اتخذت من دون أهلها حجابًا يسترها عنهم لئلا يروها حال العبادة، أو حال التطهر من الحيض، والحجاب الستر والحاجز {فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا} هو جبريل عليه السلام.
وقيل: هو روح عيسى، لأن الله سبحانه خلق الأرواح قبل الأجساد، والأوّل أولى لقوله: {فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا} أي تمثل جبريل لها بشرًا مستوي الخلق لم يفقد من نعوت بني آدم شيئًا.
قيل: ووجه تمثل الملك لها بشرًا أنها لا تطيق أن تنظر إلى الملك وهو على صورته، فلما رأته في صورة إنسان حسن كامل الخلق قد خرق عليها الحجاب ظنت أنه يريدها بسوء، فاستعاذت بالله منه و{قَالَتْ إِنّي أَعُوذُ بالرحمن مِنكَ إِن كُنتَ تَقِيًّا} أي ممن يتقي الله ويخافه.
وقيل: إن تقيًا اسم رجل صالح، فتعوّذت منه تعجبًا.
وقيل: إنه اسم رجل فاجر معروف في ذلك الوقت، والأوّل أولى.
وجواب الشرط محذوف، أي فلا تتعرض لي.
{قَالَ إِنَّمَا أَنَاْ رَسُولُ رَبّكِ} أي قال لها جبريل: إنما أنا رسول ربك الذي استعذت به، ولست ممن يتوقع منه ما خطر ببالك من إرادة السوء {لأَهَبَ لَكِ غلاما زَكِيًّا} جعل الهبة من قبله لكونه سببًا فيها من جهة كون الإعلام لها من جهته، أو من جهة كون النفخ قام به في الظاهر.
وقرأ أبو عمرو ويعقوب وورش عن نافع {ليهب} على معنى أرسلني ليهب لك، وقرأ الباقون بالهمز.
والزكيّ: الطاهر من الذنوب الذي ينمو على النزاهة والعفة.
وقيل: المراد بالزكيّ النبيّ {قَالَتْ أنى يَكُونُ لِي غلام وَلَمْ يَمْسَسْنِى بَشَرٌ} أي لم يقربني زوج ولا غيره {وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا} البغيّ هي الزانية التي تبغي الرجال.
قال المبرد: أصله بغوى على فعول، قلبت الواو ياء ثم أدغمت في الياء وكسرت الغين للمناسبة. وقال ابن جني: إنه فعيل. وزيادة ذكر كونها لم تك بغيًا مع كون قولها: لم يمسسني بشر يتناول الحلال والحرام لقصد التأكيد تنزيهًا لجانبها من الفحشاء وقيل: ما استبعدت من قدرة الله شيئًا، ولكن أرادت كيف يكون هذا الولد هل من قبل زوج تتزوّجه في المستقبل أم يخلقه الله سبحانه ابتداء؟ وقيل: إن المس عبارة عن النكاح الحلال، وعلى هذا لا يحتاج إلى بيان وجه قولها: {ولم أك بغيًا} وما ذكرناه من شموله أولى باستعمالات أهل اللغة، وما يوجد في محاوراتهم مما يطول تعداده اهـ.
{وَلِنَجْعَلَهُ ءايَةً لّلْنَّاسِ} أي ولنجعل هذا الغلام أو خلقه من غير أب آية للناس يستدلون بها على كمال القدرة، وهو علة لمعلل محذوف، والتقدير خلقناه لنجعله، أو معطوف على علة أخرى مضمرة تتعلق بما يدل عليه قوله سبحانه: {هُوَ علي هَيّنٌ} وجملة {قَالَ كذلك قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيّنٌ} مستأنفة، والقائل هو الملك، والكلام فيها كالكلام فيما تقدّم من قول زكريا.
وقوله: {وَرَحْمَةً مّنَّا} معطوف على آية أي: ولنجعله رحمة عظيمة كائنة منا للناس لما ينالونه منه من الهداية والخير الكثير، لأن كل نبيّ رحمة لأمته {وَكَانَ أَمْرًا مَّقْضِيًّا} أي وكان ذلك المذكور أمرًا مقدّرًا قد قدّره الله سبحانه وجف به القلم.
{فَحَمَلَتْهُ} هاهنا كلام مطويّ، والتقدير: فاطمأنت إلى قوله، فدنا منها، فنفخ في جيب درعها، فوصلت النفخة إلى بطنها فحملته.
وقيل: كانت النفخة في ذيلها، وقيل: في فمها.
قيل: إن وضعها كان متصلًا بهذا الحمل من غير مضيّ مدة الحمل، ويدلّ على ذلك قوله: {فانتبذت بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا} أي تنحت واعتزلت إلى مكان بعيد، والقصيّ هو البعيد.
قيل: كان هذا المكان وراء الجبل، وقيل: أبعد مكان في تلك الدار.
وقيل: أقصى الوادي.
وقيل: إنها حملت به ستة أشهر.
وقيل: ثمانية أشهر، وقيل: سبعة {فَأَجَاءهَا المخاض إلى جِذْعِ النخلة} أي ألجأها واضطرها، ومنه قول زهير:
أجاءته المخافة والرجاء

وقرأ شبل: {فاجأها} من المفاجأة، ورويت هذه القراءة عن عاصم، وقرأ الحسن بغير همز، وفي مصحف أبيّ: {فلما أجاءها} قال في الكشاف: إن {أجاءها} منقول من جاء، إلا أن استعماله قد تعين بعد النقل إلى معنى الإلجاء، وفيه بعد، والظاهر أن كل واحد من الفعلين موضوع بوضع مستقلّ، والمخاض مصدر مخضت المرأة تمخض مخضًا ومخاضًا إذا دنا ولادها.
وقرأ الجمهور بفتح الميم، وقرأ ابن كثير بكسرها، والجذع: ساق النخلة اليابسة، كأنها طلبت شيئًا تستند إليه وتتعلق به كما تتعلق الحامل لشدّة وجع الطلق بشيء مما تجده عندها، والتعريف إما للجنس أو للعهد {قَالَتْ يا مِتُّ قَبْلَ هذا} أي قبل هذا الوقت، تمنت الموت لأنها خافت أن يظنّ بها السوء في دينها، أو لئلا يقع قوم بسببها في البهتان {وَكُنتُ نَسْيًا} النسي في كلاب العرب: الشيء الحقير الذي من شأنه أن ينسى ولا يذكر ولا يتألم لفقده كالوتد والحبل، ومنه قول الكميت:
أتجعلنا خسرًا لكلب قضاعة ** ولسنا بنسي في معدّ ولا دخل

وقال الفراء: النسي: ما تلقيه المرأة من خرق اعتلالها، فتقول مريم: {نَسْيًا مَّنسِيًّا} أي حيضة ملقاة، وقد قرىء بفتح النون وكسرها، وهما لغتان مثل الحجر والحجر، والوتر والوتر.
وقرأ محمد بن كعب القرظي: {نساء} بالهمز مع كسر النون.
وقرأ نوف البكالي بالهمز مع فتح النون.
وقرأ بكر بن حبيب {نسيًا} بفتح النون وتشديد الياء بدون همز، والمنسي المتروك الذي لا يذكر ولا يخطر ببال أحد من الناس {فَنَادَاهَا مِن تَحْتِهَا} أي جبريل لما سمع قولها، وكان أسفل منها تحت الأكمة.
وقيل: تحت النخلة، وقيل المنادي هو عيسى، وقد قرىء بفتح الميم من {من} وكسرها.
وقوله: {أَلاَّ تَحْزَنِي} تفسير للنداء، أي لا تحزني أو المعنى بأن لا تحزني على أنها المصدرية {قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا} قال جمهور المفسرين: السريّ: النهر الصغير، والمعنى: قد جعل ربك تحت قدمك نهرًا.
قيل: كان نهرًا قد انقطع عنه الماء، فأرسل الله فيه الماء لمريم، وأحيا به ذلك الجذع اليابس الذي اعتمدت عليه حتى أورق وأثمر.
وقيل: المراد بالسريّ هنا: عيسى، والسريّ: العظيم من الرجال؛ ومنه قولهم فلان سريّ، أي عظيم، ومن قوم سراة أي عظام.
{وَهُزّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النخلة} الهزّ: التحريك، يقال: هزه فاهتزّ، والباء في بجذع النخلة مزيدة للتوكيد.
وقال الفراء: العرب تقول هزّه وهزّ به، والجذع: هو أسفل الشجرة.
قال قطرب: كل خشبة في أصل شجرة فهي جذع، ومعنى إليك: إلى جهتك، وأصل تساقط: تتساقط، فأدغم التاء في السين.
وقرأ حمزة والأعمش {تساقط} مخففًا.
وقرأ عاصم في رواية حفص والحسن بضم التاء مع التخفيف وكسر القاف.
وقرىء: {تتساقط} بإظهار التاءين.
وقرىء بالتحتية مع تشديد السين.
وقرىء {تسقط ويسقط}.
وقرأ الباقون بإدغام التاء في السين، فمن قرأ بالفوقية جعل الضمير للنخلة، ومن قرأ بالتحتية جعل الضمير للجذع؛ وانتصاب {رُطَبًا} على بعض هذه القراءات للتمييز، وعلى البعض الآخر على المفعولية لتساقط.
قال المبرد والأخفش: يجوز انتصاب رطبًا بهزّي أي: هزّي إليك رطبًا {جَنِيًّا} بجذع النخلة، أي على جذعها وضعفه الزمخشري، والجنيّ: المأخوذ طريًا. وقيل: هو ما طلب وصلح للاجتناء، وهو فعيل بمعنى مفعول. قال الفراء: الجنيّ والمجني واحد. وقيل: هو فعيل بمعنى فاعل، أي رطبًا طريًا طيبًا.
{فَكُلِي واشربي} أي من ذلك الرطب وذلك الماء، أو من الرطب وعصيره، وقدّم الأكل مع أن ذكر النهر مقدّم على الرطب، لأن احتياج النفساء إلى أكل الرطب أشدّ من احتياجها إلى شرب الماء، ثم قال: {وَقَرّي عَيْنًا} قرأ الجمهور بفتح القاف.
وحكى ابن جرير أنه قرىء بكسرها، قال: وهي لغة نجد. والمعنى: طيبي نفسًا وارفضي عنك الحزن، وهو مأخوذ من القرّ والقرّة وهما البرد، والمسرور بارد القلب ساكن الجوارح. وقيل: المعنى: وقرّي عينًا برؤية الولد الموهوب لك. وقال الشيباني: معناه: نامي. قال أبو عمرو: أقرّ الله عينه، أي: أنام عينه وأذهب سهره {فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ البشر أَحَدًا} أصله: ترأيين: مثل تسمعين خففت الهمزة وسقطت النون للجزم وياء الضمير للساكنين بعد لحوق نون التوكيد، ومثل هذا مع عدم لحوق نون التوكيد قول ابن دريد:
أما ترى رأسي حاكى لونه ** طرة صبح تحت أذيال الدجى

وقرأ طلحة وأبو جعفر وشيبة {ترين} بسكون الياء وفتح النون مخففة.
قال أبو الفتح: وهي شاذة، وجواب الشرط {فَقُولِي إِنّي نَذَرْتُ للرحمن صَوْمًا} أي قولي إن طلب منك الكلام أحد من الناس إني نذرت للرحمن صومًا أي صمتًا وقيل: المراد به: الصوم الشرعي، وهو الإمساك عن المفطرات، والأوّل أولى.
وفي قراءة أبيّ: {إني نذرت للرحمن صومًا صمتًا} بالجمع بين اللفظين، وكذا روي عن أنس.
وروي عنه أنه قرأ: {صومًا وصمتًا} بالواو، والذي عليه جمهور المفسرين أن الصوم هنا: الصمت، ويدل عليه {فَلَنْ أُكَلّمَ اليوم إِنسِيًّا} ومعنى الصوم في اللغة: أوسع من المعنيين.
قال أبوعبيدة: كل ممسك عن طعام أو كلام أو سير فهو صائم.
وقراءة أبيّ تدل على أن المراد بالصوم هنا الصمت، لأنه تفسير للصوم.
وقراءة أنس تدل على أن الصوم هنا غير الصمت كما تفيده الواو.