فصل: من لطائف وفوائد المفسرين:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



فأصلُ قراءةِ غيرِ حفص {تَتَساقط} بتاءين، مضارعَ {تساقَطَ} فحذف حمزةُ إحدى التاءين تخفيفًا نحو: {تَنَزَّل} و{تَذَكَّرون}، والباقون أدغموا التاءَ في السِّيْن. وقراءةُ حفص مضارع {ساقَطَ}. وقرأ الأعمش والبراء بن عازب {يَسَّاقَطْ} كالجماعة إلا أنه بالياء مِنْ تحتُ، أدغم التاء في السين، إذ الأصلُ: يتساقط فهو مضارع {اسَّاقط} وأصلُه يَتَساقط، فأُدْغم واجِتُلِبَتْ همزةُ الوصل ك {ادَّارَأ} في تَدَارَأَ.
ونُقل عن أبي حيوة ثلاثُ قراءاتٍ: وافقه مسروقٌ في الأولى، وهي {تُسْقِط} بضم التاء وسكون السين وكسر القاف مِنْ أَسْقَط. والثانية كذلك إلا أنه بالياء مِنْ تحت. الثالثة كذلك إلا أنه رفع {رُطَبًا جَنِيًَّا} بالفاعلية.
وقُرِئَ {تَتَساقط} بتاءين مِنْ فوقُ، وهو أصلُ قراءةِ الجماعة. وتَسْقُط ويَسْقُط بفتح التاء والياء وسكون السين وضَمَّ القاف. فَرَفْعُ الرُّطَبِ بالفاعلية، وتعطي من الأفعال ما يوافقه في القراءات المتقدمة. ومَنْ قرأ بالتاءِ مِنْ فوقُ الفعلُ مسندٌ: إمَّا للنخلة، وإمَّا للثمرةِ المفعومة من السِّياق، وإمَّا للجِذْع. وجاز تأنيثُ فِعْلِه لإِضافتِه إلى مؤنث، فهو كقوله:
............................ ** كما شَرِقَتْ صدرُ القناةِ من الدَّم

وكقراءة: {تَلْتَقِطْه بعض السيارة}. ومَنْ قرأ بالياء مِنْ تحتُ فالضميرُ للجِذْع وقيل: للثمر المدلولِ عليه بالسياق.
وأمَّا نَصْبُ {رُطَبًا} فلا يَخْرُجُ عن كونِه تمييزًا أو حالًا موطِّئة إنْ كان الفعل قبلَه لازمًا، أو مفعولًا به إن كان الفعل متعدَّيًا، والذكيُّ يَرُدُّ كلَّ شيء إلى ما يليق به من القراءات. وجَوَّز المبردُ في نصبه وجهًا غريبًا: وهو أَنْ يكونَ مفعولًا به ب {هُزِّيْ} وعلى هذا فتكون المسألة من باب التنازع في بعض القراءات: وهي أَنْ يكونَ الفعلُ فيها متعدِّيًا، وتكونَ المسألة من إعمالِ الثاني للحذف من الأول.
وقرأ طلحة بن سليمان {جَنِيًَّا} بكسرِ الجيم إتباعًا لكسرةِ النون. والرُّطَبُ: اسمُ جنسٍ لرُطَبَة بخلافِ (تُخَم) فإنَّه لتُخَمة، والفرق: أنهم لَزِموا تذكيرَه فقالوا: هو الرُّطَبُ، وتأنيثَ ذاك فقالوا: هي التُّخَم، فذكَّروا (الرطب) باعتبار الجنس، وأنَّثوا (التُّخَم) باعتبار الجمعية، وهو فرقٌ لطيفٌ. ويُجْمَعُ على (أَرْطاب) شذوذًا كرُبَع وأَرْباع. والرُّطَب: ما قُطِع قبل يُبْسِه وجَفافِه، وخُصَّ الرُّطَبُ بالرُّطَبِ من التَّمْرِ. وأَرْطَبَ النخلُ نحو: أَتْمَرَ وأَجْنَى.
والجَنِيُّ: ما كابَ وصَلُحَ للاجْتِناء. وهو فَعيل بمعنى مفعول وقيل: بمعنى فاعِل: أي: طَرِيًَّا، والجَنَى والجَنِيُّ أيضًا: المُجَتَنَى من العَسَلِ، وأَجْنَى الشجرُ: أَدْرَك ثَمَرُه، وأَجْنَتِ الأرضُ كَثُرَ جَناها. واسْتُعير من ذلك (جَنَى فلانٌ جنايةً) كما استعير (اجْتَرَم جريمةً).
قوله: {وَقَرِّي عَيْنًا}: {عَيْنًا} نصبٌ على التمييز منقولٌ من الفاعل، إذ الأصلُ: لِتَقَرَّ عينُك. والعامَّة على فتحِ القاف مِنْ {قَرِّيْ} أمرًا مِنْ قَرَّتْ عَيْنُه تَقَرُّ، بكسر العين في الماضي، وفتحِها في المضارع. وقُرِئ بكسرِ القاف، وهي لغةُ نجدٍ يقولون: قَرَّتْ عينُه تَقِرُّ بفتح العين في الماضي وكسرِها في المضارع، والمشهورُ أن مكسورَ العين في الماضي للعين، والمفتوحَها في المكان. يقال: قَرَرْتُ بالمكانِ أَقِرُّ به، وقد يُقال: قَرِرْتُ بالمكانِ بالكسر. وسيأتي ذلك في قولِه تعالى: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ} [الأحزاب: 33].
وفي وَصْفِ العين بذلك تأويلان، أحدُهما: أنَّه مأخوذٌ مِنَ (القُرّ) وهو البَرْدُ: وذلك أنَّ العينَ إذا فَرِح صاحبُها كان دَمْعُها قارًَّا أي باردًا، وإذا حَزِن كان حَرًَّا ولذلك قالوا في الدعاء عليه: (أَسْخَنَ اللهُ عينَه)، وفي الدعاء له: (أقرَّ اللهُ عينَه). وما أَحْلى قولَ أبي تمام:
فأمَّا عيونُ العاشِقينَ فَأُسْخِنَتْ ** وأمَّا عيونُ الشامتينَ فَقَرَّتِ

والثاني: أنه مأخوذٌ من الاستقرار، والمعنى: أعطاه الله ما يُسَكِّنُ عينَه فلا تطمحُ إلى غيره.
قوله: {فَإِمَّا تَرَيِنَّ} دخلت إنْ الشرطية على ما الزائدة للتوكيد، فَأُدْغِمت فيها، وكُتِبَتْ متصلةً. و{تَرَيْنَ} تقدَّم تصريفُه. والعامَّةُ على صريح الياء المكسورة وقرأ أبو عمروٍ في رواية {تَرَئِنَّ} بهمزة مكسورةٍ بدلَ الياء، وكذلك رُوي عنه {لَتَرَؤُنَّ} بإبدالِ الواوِ همزةُ. قال الزمخشري: هذا مِنْ لغةِ مَنْ يقول: لَبَأْتُ بالحَجِّ وحَلأْتُ السَّوِيْقَ- يعني بالهمز- وذلك لتآخٍ بين الهمز وحروف اللين. وتجرَّأ ابن خالَوَيْة على أبي عمرو فقال: هو لحنٌ عند أكثر النحويين.
وقرأ أبو جعفر قارئُ المدينةِ وشيبة وطلحة {تَرَيْنَ} بياءٍ ساكنة ونونٍ خفيفة. قال ابن جني: وهي شاذَّةٌ. قلت: لأنه كان ينبغي أَنْ يُؤَثِّر الجازمُ، وتُحذفَ نونُ الرفع. كقول الأَفْوه:
إمَّا تَرَيْ رَأْسِيَ أَزْرَى به ** ماسُ زمانٍ ذيٍ انتكاثٍ مَؤُؤْسِ

ولم يؤثِّرْ هنا شُذوذًا. وهذا نظيرُ قولِ الآخر:
لولا فَوارسُ مِنْ نُعْمٍ وأُسْرَتِهِمْ ** يومَ الصُّلَيْفاءِ لم يُوفُوْنَ بالجارِ

فلم يُعْمِلْ (لم)، وأبقى نونَ الرفعِ.
و{من البشر} حالٌ من {أحدًا} لأنه لو تأخَّر لكان وصفًا. وقال أبو البقاء: (أو مفعول) يعني أنه متلِّعق بنفسِ الفعل قبله.
قوله: {فَقُولِيْ} بين هذا الجوابِ وشرطِه جملةٌ محذوفةٌ، تقديرُه: فإمَّا تَرَيْنَّ من البشر أحدًا فسألكِ الكلامَ فَقُولي. وبهذا المقدَّر نَخْلُصُ من إشكالٍ: وهو أنَّ قولَها {فَلَنْ أُكَلِّمَ اليوم إِنسِيًّا} كلامٌ، فيكون ذلك تناقضًا؛ لأنها قد كَلَّمَتْ إنْسِيًَّا بهذا الكلامِ. وجوابُه ما تَقَدَّم: وقيل: المرادُ بقوله: {فقُولي} إلى آخره، أنه بالإِشارة. وليس بشيء. بل المعنى: فلن أكلِّمَ اليومَ إنْسِيًَّا بعد هذا الكلامِ.
وقرأ زيد بن علي {صِيامًا} بدل (صوم)، وهما مصدران. اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

.من لطائف القشيري في الآية:

قال عليه الرحمة:
{فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا (22)}.
لمَّا ظهر بها الحَمْلُ، وعَلِمَتْ أَنَّ الناسَ يستبعدون ذلك، ولم تَثِقْ بأحدٍ تُفْشِي إليه سِرَّها... مَضَتْ إلى مكانٍ بعيد عن الخَلْق.
{فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا (23)}.
أَلَجَأَها وَجَعُ الولادةِ إلى الاعتماد إلى جِذْع النخلة. ولمَّا أَخذها الطَلْقُ، ودَاخَلَهَا الخَجَلُ مِنْ قومِها نَطَقَتْ بلسانِ العَجزِ، وقالت: {يَالَيْتَنِى مِتُّ قَبْلَ هَذَا}.
ويقال يحتمل أنها قالتها إشفاقًا من قومها، لأنها عَلِمَتْ أَنَّهم سيبسطون لسانَ الملامةِ فيها بسلانِ الفُجْر؛ وينسبونها إلى الفحشاء.
ويقال قالتها شفقةً على قومها لئلا تُصِيبَهم بِسبَبَها عقوبةٌ.
ويقال قالت: {يَالَيْتَنِى مِتُّ قَبْلَ هَذَا} حتى لم أسمع مَنْ قال في الله تعالى بسببي إن عيسى ابن الله وابن مريم، وإن مريمَ زوجتُه... تعالى الله عن ذلك عُلُوًَّا كبيرًا!
ويقال: {يَا لَيْتَنِى مِتُّ قَبْلَ هَذَا}: في الوقت الذي كنتُ مرفوقًا بي، ولم تستقبلني هذه الخشونةُ في الحالةِ التي لَحِقَتْنِي.
ويقال: {يَالَيْتَنِى مِتُّ قَبْلَ هَذَا}: في الوقت الذي لم يكن قلبي متعلقًا بسبب.
{فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا (24)}.
في التفسير أن المَعْنِيَّ بقوله: {مِن تَحْتِهَا}: جبريلُ عليه السلام، وقيل عيسى عليه السلام. والمقصودُ منه تسكينُ ما كان بها من الوحشة، والبشارة بعيسى عليه السلام، أي يرزقك الله ولدًا سريًا.
{وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا (25)}.
وكان جِذْعًا يابسًا أخرج اللَّهُ تعالى منه في الوقتِ الثمرةَ، وهي الرُّطبُ الجنيُّ، وكان في ذلك آية ودلالة لها؛ فالذي قدر على فعل مثل هذا قادر على خلق عيسى- عليه السلام- من غير أبٍ.
ويقال عندما كانت مُجَرَّدَةً بلا علاقة، فقد كان زكريا- عليه السلام- يَجِدُ عندها رزقًا من غير أن أُمِرْتْ بتكليف، فلمَّا جاءَتْ علاقةُ الولدِ أُمِرَتْ بهزِّ النخلةِ اليابسةِ- وهي في أضعف حالها؛ زمان قرب عهدها بوضع الولد، لِيُعْلَمَ أَنَّ العلاقةَ توجِبُ العناءَ والمشقة.
ويقال بل أُمِرَتْ بهزِّ النخلة اليابسة، وكان تمكنُها من ذلك أوضحَ دلالة على صدقها في حالها.
ويقال لمّا لم يكن لها في هذه الحالة مَنْ يقوم بتعهدها تولَّى الله تعالى كفايتها؛ لِيَعْلَمَ العالمون أنه لا يضيع خواصَّ عِبادِه في وقت حاجتهم.
{فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا (26)}.
كفاها أسبابَ ما احتاجت إليه مِنْ أَكْلِهَا وشُرْبِها، وسَكَّنَ من خوفها، وطيَّبَ قلبَها.
{فَإِمَّا تَرَينَّ مِنَ البَشَرِ أَحَدا}: فلا تخاطبيهم وعرِّفيهم- بالإشارة- أَنَّكِ نَذَرْتِ للرحمن الصمتَ مع الخَلْق، وتَرْكَ المخاطبةِ معهم. اهـ.

.قال الجصاص:

قَوْله تعالى: {إنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إنْسِيًّا}.
فِيهِ الدَّلَالَةُ عَلَى أَنَّ تَرْكَ الْكَلَامِ وَاسْتِعْمَالَ الصَّمْتِ قَدْ كَانَ قُرْبَةً، لَوْلَا ذَلِكَ لَمَا نَذَرَتْهُ مَرْيَمُ وَلَمَا فَعَلَتْهُ بَعْدَ النَّذْرِ.
وَقَدْ رَوَى مَعْمَرٌ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: {إنِّي نَذَرْت لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا} قَالَ: فِي بَعْضِ الْحُرُوفِ: {صَمْتًا} وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ مُرَادَهَا الصَّمْتُ.
قَوْلُهَا: {فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إنْسِيًّا} وَهَذَا مَنْسُوخٌ بِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: «أَنَّهُ نَهَى عَنْ صَمْتِ يَوْمٍ إلَى اللَّيْلِ».
وَقَالَ السُّدِّيُّ: كَانَ مَنْ صَامَ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ لَا يُكَلِّمُ النَّاسَ فَأَذِنَ لَهَا فِي هَذَا الْمِقْدَارَ مِنْ الْكَلَامِ، وَقَدْ كَانَ اللَّهُ تعالى حَبَسَ زَكَرِيَّا عَنْ الْكَلَامِ ثَلَاثًا وَجَعَلَ ذَلِكَ آيَةً لَهُ عَلَى الْوَقْتِ الَّذِي يُخْلَقُ لَهُ فِيهِ الْوَلَدُ، فَكَانَ مَمْنُوعًا مِنْ الْكَلَامِ مِنْ غَيْرِ آفَةٍ وَلَا خَرَسٍ. اهـ.

.تفسير الآيات (27- 29):

قوله تعالى: {فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا (27) يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا (28) فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا (29)}.

.من أقوال المفسرين:

.قال البقاعي:

{فأتت} أي فلما سمعت هذا الكلام اشتد قلبها، وزال حزنها، وأتت {به} أي بعيسى {قومها} وإن كان فيهم قوة المحاولة لكل ما يريدونه إتيان البريء الموقن بأن الله معه {تحمله} غير مبالية بأحد ولا مستخفية فكأنه قيل: فما قالوا لها؟ فقيل: {قالوا يا مريم} ما هذا؟ مؤكدين لأن حالها في إتيانها يقتضي إنكار كلامهم {لقد جئت} بما نراه {شيئًا فريًا} قطيعًا منكرًا {ياأخت هارون} في زهده وورعه وعفته وهو صالح كان في زمانها أو أخو موسى عليه السلام {ما كان أبوك} أي عمران ساعة من الدهر {امرأ سوء} لنقول: نزعك عرق منه {وما كانت أمك} في وقت من الأوقات {بغيًا} أي ذات بغي أي عمد لتتأسى بها {فأشارت} امتثالًا لما أمرت به {إليه} أي عيسى ليكلموه فيجيب عنها {قالوا كيف نكلم} يا مريم {من كان في المهد} أي قبيل إشارتك {صبيًا} لم يبلغ سن هذا الكلام، الذي لا يقوله إلا الأكابر العقلاء بل الأنبياء والتعبير ب {كان} يدل على أنه حين الإشارة إليه لم يحوجهم إلى أن يكلموه، بل حين سمع المحاورة وتمت الإشارة بدا منه قوله خارق لعادة الرضعاء والصبيان، ويمكن أن تكون تامة مشيرة إلى تمكنه في حال ما دون سن الكلام، ونصب {صبيًا} على الحال. اهـ.

.قال الفخر:

{فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا (27)}.
وفيه مسائل:
المسألة الأولى:
اختلفوا في أنها كيف أتت بالولد على أقوال: الأول: ما روي عن وهب قال: أنساها كرب الولادة وما سمعته من الناس ما كان من كلام الملائكة من البشارة بعيسى عليه السلام فلما كلمها جاءها مصداق ذلك فاحتملته وأقبلت به إلى قومها.
الثاني: ما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أن يوسف انتهى بمريم إلى غار فأدخلها فيه أربعين يومًا حتى طهرت من النفاس ثم أتت به قومها تحمله فكلمها عيسى في الطريق، فقال: يا أماه أبشري فإني عبد الله ومسيحه.
وهذان الوجهان محتملان وليس في القرآن ما يدل على التعيين.
المسألة الثانية:
الفريء، البديع وهو من فري الجلد يروى أنهم لما رأوها ومعها عيسى عليه السلام قالوا لها: {لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا} فيحتمل أن يكون المراد شيئًا عجيبًا خارجًا عن العادة من غير تعيير وذم ويحتمل أن يكون مرادهم شيئًا عظيمًا منكرًا فيكون ذلك منهم على وجه الذم وهذا أظهر لقولهم بعده: {ياأخت هارون مَا كَانَ أَبُوكِ امرأ سَوْء وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا} لأن هذا القول ظاهره التوبيخ وأما هرون ففيه أربعة أقوال: الأول: أنه رجل صالح من بني إسرائيل ينسب إليه كل من عرف بالصلاح، والمراد أنك كنت في الزهد كهرون فكيف صرت هكذا، وهو قول قتادة وكعب وابن زيد والمغيرة بن شعبة ذكر أن هرون الصالح تبع جنازته أربعون ألفًا كلهم يسمون هرون تبركًا به وباسمه.
الثاني: أنه أخو موسى عليه السلام وعن النبي صلى الله عليه وسلم إنما عنوا هرون النبي وكانت من أعقابه وإنما قيل أخت هرون كما يقال يا أخا همدان أي يا واحدًا منهم.
والثالث: كان رجلًا معلنًا بالفسق فنسبت إليه بمعنى التشبيه لا بمعنى النسبة.
الرابع: كان لها أخ يسمى هرون من صلحاء بني إسرائيل فعيرت به، وهذا هو الأقرب لوجهين: الأول: أن الأصل في الكلام الحقيقة وإنما يكون ظاهر الآية محمولًا على حقيقتها لو كان لها أخ مسمى بهرون.
الثاني: أنها أضيفت إليه ووصف أبواها بالصلاح وحينئذ يصير التوبيخ أشد لأن من كان حال أبويه وأخيه هذه الحالة يكون صدور الذنب عنه أفحش.
المسألة الثالثة:
القراءة المشهورة: {مَا كَانَ أَبُوكِ امرأ سَوْء} وقرأ عمرو بن رجاء التميمي: {ما كان أباك امرؤ سوء}.
المسألة الرابعة:
أنهم لما بالغوا في توبيخها سكتت وأشارت إليه أي إلى عيسى عليه السلام أي هو الذي يجيبكم إذا ناطقتموه وعن السدي لما أشارت إليه غضبوا غضبًا شديدًا وقالوا: لسخريتها بنا أشد من زناها، روي أنه كان يرضع فلما سمع ذلك ترك الرضاع وأقبل عليهم بوجهه واتكأ على يساره وأشار بسبابته، وقيل: كلمهم بذلك ثم لم يتكلم حتى بلغ مبلغًا يتكلم فيه الصبيان.
وقيل إن زكرياء عليه السلام أتاها عند مناظرة اليهود إياها، فقال لعيسى عليه السلام انطق بحجتك إن كنت أمرت بها فقال عيسى عليه السلام عند ذلك: {إِنّي عَبْدُ الله} [مريم: 30] فإن قيل كيف عرفت مريم من حال عيسى عليه السلام أنه يتكلم؟ قلنا: إن جبريل عليه السلام أو عيسى عليه السلام ناداها من تحتها أن لا تحزني وأمرها عند رؤية الناس بالسكوت، فصار ذلك كالتنبيه لها على أن المجيب هو عيسى عليه السلام أو لعلها عرفت ذلك بالوحي إلى زكرياء أو لعلها عرفت بالوحي إليها على سبيل الكرامة، بقي هاهنا بحثان:
البحث الأول: قوله: {كَيْفَ نُكَلّمُ مَن كَانَ في المهد صَبِيًّا} أي حصل في المهد فكان هاهنا بمعنى حصل ووجد وهذا هو الأقرب في تأويل هذا اللفظ، وإن كان الناس قد ذكروا وجوهًا أخر.
البحث الثاني: اختلفوا في المهد فقيل هو حجرها لما روى أنها أخذته في خرقة فأتت به قومها فلما رأوها قالوا لها ما قالوا فأشارت إليه وهو في حجرها ولم يكن لها منزل معد حتى يعد لها المهد أو المعنى: كيف نكلم صبيًا سبيله أن ينام في المهد. اهـ.