فصل: قال أبو حيان:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وهذا في غاية الضعف على ما نبينه في المسألة بعد هذا.
وقيل: أي حكم لي بإيتاء الكتاب والنبوة في الأزل، وإن لم يكن الكتاب منزلًا في الحال؛ وهذا أصح.
{وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا} أي ذا بركات ومنافع في الدين والدعاء إليه ومعلِّمًا له.
التُّسْتَريّ: وجعلني آمر بالمعروف، وأنهى عن المنكر، وأرشد الضال، وأنصر المظلوم، وأغيث الملهوف.
{وَأَوْصَانِي بالصلاة والزكاة} أي لأؤدّيهما إذا أدركني التكليف، وأمكنني أداؤهما، على القول الأخير الصحيح.
{مَا دُمْتُ حَيًّا} ما في موضع نصب على الظرف أي دوام حياتي.
قوله تعالى: {وَبَرًّا بِوَالِدَتِي} قال ابن عباس: لما قال: {وَبَرًّا بِوَالِدَتِي} ولم يقل بوالديّ علم أنه شيء من جهة الله تعالى.
{وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا} أي متعظمًا متكبرًا يقتل ويضرب على الغضب.
وقيل: الجبار الذي لا يرى لأحد عليه حقًّا قطّ.
{شَقِيًّا} أي خائبًا من الخير.
ابن عباس: عاقًا.
وقيل: عاصيًا لربه.
وقيل: لم يجعلني تاركًا لأمره فأشقى كما شقي إبليس لما ترك أمره.
الثالثة: قال مالك بن أنس رحمه الله تعالى في هذه الآية: ما أشدها على أهل القدر! أخبر عيسى عليه السلام بما قضى من أمره، وبما هو كائن إلى أن يموت.
وقد روي في قصص هذه الآية عن ابن زيد وغيره أنهم لما سمعوا كلام عيسى أذعنوا وقالوا: إن هذا لأمر عظيم.
وروي أن عيسى عليه السلام إنما تكلم في طفولته بهذه الآية، ثم عاد إلى حالة الأطفال، حتى مشى على عادة البشر إلى أن بلغ مبلغ الصبيان، فكان نطقه إظهار براءة أمه لا أنه كان ممن يعقل في تلك الحالة، وهو كما ينطق الله تعالى الجوارح يوم القيامة.
ولم يُنقَل أنه دام نطقه، ولا أنه كان يصلي وهو ابن يوم أو شهر، ولو كان يدوم نطقه وتسبيحه ووعظه وصلاته في صغره من وقت الولادة لكان مِثله مما لا ينكتم، وهذا كله مما يدل على فساد القول الأول، ويصرح بجهالة قائله.
ويدل أيضًا على أنه تكلم في المهد خلافًا لليهود والنصارى.
والدليل على ذلك إجماع الفِرق على أنها لم تُحَدّ.
وإنما صحّ براءتها من الزنى بكلامه في المهد.
ودلت هذه الآية على أن الصلاة والزكاة وبر الوالدين كان واجبًا على الأمم السالفة، والقرون الخالية الماضية، فهو مما يثبت حكمه، ولم ينسخ في شريعة أمره.
وكان عيسى عليه السلام في غاية التواضع؛ يأكل الشجر، ويلبس الشعر، ويجلس على التراب، ويأوي حيث جَنّه الليل، لا مسكن له، صلى الله عليه وسلم.
الرابعة: الإشارة بمنزلة الكلام، وتُفهِم ما يُفهِم القول.
كيف لا وقد أخبر الله تعالى عن مريم فقال: {فأشارت إليه} وفهم منها القوم مقصودها وغرضها فقالوا: {كيف نكلم} وقد مضى هذا في (آل عمران) مستوفى.
الخامسة: قال الكوفيون: لا يصح قذف الأخرس ولا لعانه.
وروي مثله عن الشعبي، وبه قال الأوزاعيّ وأحمد وإسحاق، وإنما يصح القذف عندهم بصريح الزنى دون معناه، وهذا لا يصح من الأخرس ضرورة، فلم يكن قاذفًا؛ ولا يتميز بالإشارة بالزنى من الوطء الحلال والشبهة.
قالوا: واللعان عندنا شهادات، وشهادة الأخرس لا تقبل بالإجماع.
قال ابن القصار: قولهم إن القذف لا يصح إلا بالتصريح فهو باطل بسائر الألسنة ما عدا العربية، فكذلك إشارة الأخرس.
وما ذكروه من الإجماع في شهادة الأخرس فغلط.
وقد نص مالك أن شهادته مقبولة إذا فهمت إشارته، وأنها تقوم مقام اللفظ بالشهادة، وأما مع القدرة باللفظ فلا تقع منه إلا باللفظ.
قال ابن المنذر: والمخالفون يلزمون الأخرس الطلاق والبيوع وسائر الأحكام، فينبغي أن يكون القذف مثل ذلك.
قال المهلب: وقد تكون الإشارة في كثير من أبواب الفقه أقوى من الكلام؛ مثل قوله عليه الصلاة والسلام: «بعثت أنا والساعة كهاتين» نعرف قرب ما بينهما بمقدار زيادة الوسطى على السبابة.
وفي إجماع العقول على أن العِيان أقوى من الخبر دليل على أن الإشارة قد تكون في بعض المواضع أقوى من الكلام.
{والسلام عَلَيَّ} أي السلامة عليّ من الله تعالى.
قال الزجاج: ذكر السلام قبل هذا بغير ألف ولام فحسن في الثانية ذكر الألف واللام.
وقوله: {يَوْمَ وُلِدْتُّ} يعني في الدنيا.
وقيل: من همز الشيطان كما تقدّم في (آل عمران).
{وَيَوْمَ أَمُوتُ} يعني في القبر.
{وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا} يعني في الآخرة؛ لأن له أحوالًا ثلاثة: في الدنيا حيًا، وفي القبر ميتًا، وفي الآخرة مبعوثًا؛ فسلم في أحواله كلها؛ وهو معنى قول الكلبي.
ثم انقطع كلامه في المهد حتى بلغ مبلغ الغلمان.
وقال قتادة: ذكر لنا أن عيسى عليه السلام رأته امرأة يُحيِي الموتى، ويُبرىء الأكمة والأبرص في سائر آياته فقالت: طوبى للبطن الذي حملك، والثدي الذي أرضعك؛ فقال لها عيسى عليه السلام: طوبى لمن تلا كتاب الله تعالى واتبع ما فيه وعمل به. اهـ.

.قال أبو حيان:

وروي أنه قام متكئًا على يساره وأشار إليهم بسبابته اليمنى، وأنطقه الله تعالى أولًا بقوله: {إني عبد الله آتاني الكتاب} ردًّا للوهم الذي ذهبت إليه النصارى.
وفي قوله: {عبد الله} والجمل التي بعده تنبيه على براءة أمّه مما اتهمت به لأنه تعالى لا يخص بولد موصوف بالنبوة والخلال الحميدة إلاّ مبرأة مصطفاة و{الكتاب} الإنجيل أو التوراة أو مجموعهما أقوال.
وظاهر قوله: {وجعلني نبيًا} أنه تعالى نبأه حال طفوليته أكمل الله عقله واستنبأه طفلًا.
وقيل: إن ذلك سبق في قضائه وسابق حكمه، ويحتمل أن يجعل الآتي لتحققه كأنه قد وجد {وجعلني مباركًا} قال مجاهد: نفاعًا.
وقال سفيان: معلم خير.
وقيل: آمرًا بمعروف، ناهيًا عن منكر.
وعن الضحاك: قضاء للحوائج و{أينما كنت} شرط وجزاؤه محذوف تقديره {جعلني مباركًا} وحذف لدلالة ما تقدم عليه، ولا يجوز أن يكون معمولًا لجعلني السابق لأن {أين} لا يكون إلاّ استفهامًا أو شرطًا لا جائز أن يكون هنا استفهامًا، فتعينت الشرطية واسم الشرط لا ينصبه فعل قبله إنما هو معمول للفعل الذي يليه، والظاهر حمل الصلاة والزكاة على ما شرع في البدن والمال.
وقيل: {الزكاة} زكاة الرؤوس في الفطر.
وقيل الصلاة الدعاء، و{الزكاة} التطهر.
و{ما} في {ما دمت} مصدرية ظرفية.
وقال ابن عطية.
وقرأ {دمت} بضم الدال عاصم وجماعة.
وقرأ {دمت} بكسر الدال أهل المدينة وابن كثير وأبو عمرو انتهى.
والذي في كتب القراءات أن القراء السبعة قرؤوا {دمت حيًا} بضم الدال، وقد طالعنا جملة من الشواذ فلم نجدها لا في شواذ السبعة ولا في شواذ غيرهم على أنها لغة تقول: {دمت} تدام كما قالوا مت تمات، وسبق أنه قرىء {وبرًا} بكسر الباء فإما على حذف مضاف أي وذا بر، وإما على المبالغة جعل ذاته من فرط بره، ويجوز أن يضمر فعل في معنى أوصاني وهو كلفني لأن أوصاني بالصلاة وكلفنيها واحد، ومن قرأ {وبرًا} بفتح الباء، فقال الحوفي وأبو البقاء: إنه معطوف على {مباركًا} وفيه بعد للفصل بين المعطوف والمعطوف عليه بالجملة التي هي {أوصاني} ومتعلقها، والأولى إضمار فعل أي وجعلني {برًا}.
وحكى الزهراوي وأبو البقاء أنه قرىء وبر بكسر الباء والراء عطفًا على {بالصلاة والزكاة}.
وقوله: {بوالدتي} بيان محل البر وأنه لا والد له، وبهذا القول برأها قومها.
والجبار كما تقدم المتعاظم وكان في غاية التواضع يأكل الشجر ويلبس الشعر ويجلس على التراب حيث جنه الليل لا مسكن له، وكان يقول: سلوني فإني لين القلب صغير في نفسي، والألف واللام في {والسلام} للجنس.
قال الزمخشري: هذا التعريف تعريض بلعنة متهمي مريم وأعدائهما من اليهود، وحقيقته أن اللام للجنس فإذا قال: وجنس السلام على خاصة فقد عرض بأن ضده عليكم، ونظيره {والسلام على من اتبع الهدى} يعني إن العذاب على من كذب وتولى، وكان المقام مقام مناكرة وعناد فهو مئنة لنحو هذا من التعريض.
وقيل: أل لتعريف المنكر في قصة يحيى في قوله: {وسلام} نحو {كما أرسلنا إلى فرعون رسولًا} فعصى فرعون الرسول أي وذلك السلام الموجه إلى يحيى في المواطن الثلاثة موجه إليّ.
وسبق القول في تخصيص هذه المواطن.
وقرأ زيد بن علي {يوم ولدت} أي يوم ولدتني جعله ماضيًا لحقته تاء التأنيث ورجح وسلام عليّ والسلام لكونه من الله وهذا من قول عيسى عليه السلام.
وقيل: سلام عيسى أرجح لأنه تعالى أقامه في ذلك مقام نفسه فسلم نائبًا عن الله. اهـ.

.قال أبو السعود:

{قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا (30)}.
{قَالَ} استئنافٌ مبنيّ على سؤال نشأ من سياق النظمِ الكريم، كأنه قيل: فماذا كان بعد ذلك؟ فقيل: قال عيسى عليه السلام: {إِنّى عَبْدُ الله} أنطقه الله عز وجل بذلك آثرَ ذي أثيرٍ تحقيقًا للحق وردًّا على من يزعُم ربوبيته، قيل: كان المستنطِقُ لعيسى زكريا عليهما الصلاة والسلام، وعن السدي رضي الله عنه: لما أشارت إليه غضِبوا وقالوا: لَسُخرَيتُها بنا أشدُّ علينا مما فعلت، وروي أنه عليه السلام كان يرضَع فلما سمع ذلك ترك الرَّضاعَ وأقبل عليهم بوجهه واتكأ على يساره وأشار إليهم بسبابته فقال ما قال.. إلخ، وقيل: كلمهم بذلك ثم لم يتكلم حتى بلغ مبلغًا يتكلم فيه الصبيان {الكتاب} أي الإنجيلَ {وَجَعَلَنِى نَبِيًّا} {وَجَعَلَنِى} مع ذلك {مُبَارَكًا} نفّاعًا معلِّمًا للخير، والتعبيرُ بلفظ الماضي في الأفعال الثلاثة إما باعتبار ما سبق في القضاء المحتومِ أو بجعل ما في شرف الوقوعِ لا محالة واقعًا، وقيل: أكمله الله عقلًا واستنبأه طفلًا {أَيْنَمَا كُنتُ} أي حيثما كنت {واوصانى بالصلاة} أي أمرني بها أمرًا مؤكدًا {والزكاة} زكاةِ المال إن ملكتُه أو بتطهير النفسِ عن الرذائل {مَا دُمْتُ حَيًّا} في الدنيا.
{وَبَرًّا بِوَالِدَتِى} عطفٌ على مباركًا أي جعلني بارًّا بها، وقرئ بالكسر على أنه مصدرٌ وصف به مبالغةً، أو منصوبٌ بمضمر دل عليه أوصاني، أي وكلفني بَرًّا، ويؤيده القراءةُ بالكسر والجر عطفًا على الصلاة والزكاة والتنكيرُ للتفخيم {وَلَمْ يَجْعَلْنِى جَبَّارًا شَقِيًّا} عنيدًا لله تعالى لفَرْط تكبّره.
{والسلام عَلَىَّ يَوْمَ وُلِدْتُّ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا} كما هو على يحيى، على أن التعريفَ للعهد والأظهرُ أنه للجنس والتعريضِ باللعن على أعدائه، فإن إثباتَ جنسِ السلام لنفسه تعريضٌ بإثبات ضدِّه لأضداده كما في قوله تعالى: {والسلام على مَنِ اتبع الهدى} فإنه تعريضٌ بأن العذابَ على من كذّب وتولى. اهـ.

.قال الألوسي:

{قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا (30)}.
{قَالَ} استئناف مبني على سؤال نشأ من سياق النظم الكريم كأنه قيل فماذا كان بعد ذلك؟ فقيل: قال عيسى عليه السلام {إِنّى عَبْدُ الله} روى أنه عليه السلام كان يرضع فلما سمع ما قالوا ترك الرضاع وأقبل عليهم بوجهه واتكأ على يساره وأشار بسبابته فقال ما قال، وقيل إن زكريا عليه السلام أقبل عليه يستنطقه فقال ذلك وذكر عبوديته لله تعالى أولًا لأن الاعتراف بذلك على ما قيل أول مقامات السالكين.
وفيه رد على من يزعم ربوبيته، وفي جميع ما قال تنبيه على براءة أمه لدلالته على الاصطفاء والله سبحانه أجل من أن يصطفي ولد الزنا وذلك من المسلمات عندهم، وفيه من إجلال أمه عليهما السلام ما ليس في التصريح، وقيل لأنه تعالى لا يخص بولد موصوف بما ذكر إلا مبرأة مصطفاة.
واختلف في أنه بعد أن تكلم بما ذكر هل بقي يتكلم كعادة الرجال أو لم يتكلم حتى بلغ مبلغًا يتكلم فيه الصبيان وعده عليه السلام في عداد الذين تكلموا في المهد ثم لم يتكلموا إلى وقت العادة ظاهر في الثاني {أُمُّ الكتاب} الظاهر أنه الإنجيل.
وقيل التوراة.
وقيل مجموعهما {وَجَعَلَنِى نَبِيًّا}.
{وَجَعَلَنِى} مع ذلك {مُبَارَكًا} قال مجاهد نفاعًا ومن نفعه إبراء الأكمه والأبرص.
وقال سفيان: معلم الخير آمرًا بالمعروف ناهيًا عن المنكر.
وعن الضحاك قاضيًا للحوائج، والأول أولى لعمومه، والتعبير بلفظ الماضي في الأفعال الثلاثة إما باعتبار ما في القضاء المحتوم أو بجعل ما في شرف الوقوع لا محالة كالذي وقع.
وقيل أكمله الله تعالى عقلًا واستنبأه طفلًا وروي ذلك عن الحسن.
وأخرج ابن أبي حاتم عن أنس أن عيسى عليه السلام درس الإنجيل وأحكمه في بطن أمه وذلك قوله: {آتانى الكتاب} [مريم: 30] {أَيْنَ مَا كُنتُ} أي حيثما كنت.
وفي (البحر) أن هذا شرط وجزاؤه محذوف تقديره جعلني مباركًا وحذف لدلالة ما تقدم عليه، ولا يجوز أن يكون معمولًا لجعلني السابق لأن أين لا تكون إلا استفهامًا أو شرطًا والأول لا يجوز هنا فتعين الثاني واسم الشرط لا ينصبه فعل قبله وإنما هو معمول للفعل الذي يليه.
{وَجَعَلَنِى مُبَارَكًا أَيْنَ} أي أمرني بهما أمرًا مؤكدًا.
والظاهر أن المراد بهما ما شرع في البدن والمال على وجه مخصوص.
وقيل المراد بالزكاة زكاة الفطر.
وقيل المراد بالصلاة الدعاء وبالزكاة تطهير النفس عن الرذائل، ويتعين هذا في الزكاة على ما نقل عن ابن عطاء الله وإن كان منظورًا فيه من أنه لا زكاة على الأنبياء عليهم السلام لأن الله تعالى نزههم عن الدنيا فما في أيديهم لله تعالى ولذا لا يورثون أو لأن الزكاة تطهير وكسبهم طاهر.