فصل: قال الثعلبي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



{قَالَتْ} مريم لجبريل عليه السلام: {أنى يَكُونُ لِي غلام}، يعني: من أين يكون لي ولد؟ {وَلَمْ يَمْسَسْنِى بَشَرٌ}، يعني: لم يقربني زوج، {وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا}؛ يعني: لم أك فاجرة.
{قَالَ} لها جبريل: {كذلك}، يعني: هكذا كما قلت.
{قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَىَّ هَيّنٌ}، يعني: خلقه عليّ يسير، {وَلِنَجْعَلَهُ ءايَةً لّلْنَّاسِ}؛ يعني: عبرة لبني إسرائيل، {وَرَحْمَةً مّنَّا}؛ أي ونعمة منا.
{وَكَانَ أَمْرًا مَّقْضِيًّا}، يعني: قضاء كائنًا.
{فَحَمَلَتْهُ} يعني: حملت مريم بعيسى عليه السلام وقال وهب بن منبه: إن مريم حملت بعيسى عليه السلام تسعة أشهر، وقال بعضهم: ثمانية أشهر؛ فتلك آية، لأنه لا يعيش مولود في ثمانية أشهر.
وروي في بعض الروايات، عن ابن عباس أنه قال: ما هي إلا أن حملت ثم وضعت، وقال مقاتل: حملت في ساعة ووضعت في ساعة.
{فانتبذت بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا}، يعني: انفردت بولادتها مكانًا بعيدًا.
قال القتبي: القصيُّ أشد بعدًا من القاصي. ثم قال: {فَأَجَاءهَا المخاض}، يعني: جاء بها وألجأها المخاض، يعني: الطلق بولادة عيسى عليه السلام {إلى جِذْعِ النخلة}، أي أصل النخلة.
قال ابن عباس: النخلة اليابسة في شدة الشتاء، يعني: الطلق. {قَالَتْ يا أيها لَيْتَنِى مِتُّ قَبْلَ هذا وَكُنتُ نَسْيًا مَّنسِيًّا}، يعني: شيئًا متروكًا لم أذكر، ويقال للشيء الحقير الذي إذا ألقي ينسى نسيٌ؛ وقال قتادة: يعني: لا أعرف ولا أدري من أنا؛ وقال عكرمة: يعني: جيفة ملقاة، وهكذا قال الضحاك؛ وقال ربيعة بن أنس؛ يعني: سقطًا.
قرأ حمزة وعاصم في رواية حفص {وَكُنتُ نَسْيًا مَّنسِيًّا} بنصب النون والباقون {نَسِيًّا} بكسر النون، قال أبو عبيد: وبالكسر نقرؤها، لأنها كانت أكثر في لغة العرب وأفشاها عليها أهل الحرمين والبصرة.
{فَنَادَاهَا مِن تَحْتِهَا}؛ قرأ حمزة والكسائي ونافع وعاصم في رواية حفص {مِنْ} بالكسر، يعني: الملك، وهكذا قرأ مجاهد والحسن، والباقون {مِنْ} بالنصب يعني به عيسى عليه السلام وقال أبو عبيد: بالأولى نقرأ يعني: بالكسر، لأن قراءتها أكثر والمعنى فيها أعمّ، لأنه إذا قال: {مِن تَحْتِهَا} فإنما هو عيسى خاصة.
{أَلاَّ تَحْزَنِى} بولادة عيسى وبمكان الجدب، {قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا}؛ أي نهرًا صغيرًا بحبال؛ ويقال: {قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا}، أي بيتًا، فذكر هذا القول عند ابن حميد فأنكره وقال: هو الجدول.
ألا ترى أنه قال: {فَكُلِى واشربى}.
قال مجاهد: السريّ بالسريانية، وقال سعيد بن جبير: بالنبطية.
{وَهُزّى إِلَيْكِ بِجِذْعِ النخلة}؛ يقول: حركي أصل النخلة {تساقط عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا}، أي غضًا طريًا.
قرأ حمزة {تساقط} بنصب التاء وتخفيف السين، وأصله تتساقط إلا أنه حذفت منه إحدى التاءين للتخفيف وهذا كقوله: {يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الذين كَفَرُواْ وَعَصَوُاْ الرسول لَوْ تسوى بِهِمُ الأرض وَلاَ يَكْتُمُونَ الله حَدِيثًا} [النساء: 42] وأصله تتسوى، وكقوله: {ثُمَّ أَنتُمْ هؤلاء تَقْتُلُونَ أَنفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِّنكُم مِّن ديارهم تظاهرون علَيْهِم بالإثم والعدوان وَإِن يَأْتُوكُمْ أسارى تفادوهم وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الكتاب وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَن يَفْعَلُ ذلك مِنكُمْ إِلاَّ خِزْىٌ فِي الحياة الدنيا وَيَوْمَ القيامة يُرَدُّونَ إلى أَشَدِّ العذاب وَمَا الله بغافل عَمَّا تَعْمَلُونَ} [البقرة: 85]، وكقوله: {تَكَادُ السماوات يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الأرض وَتَخِرُّ الجبال هَدًّا} [مريم: 90] وقرأ عاصم في رواية حفص {تساقط} بضم التاء وتخفيف السين وكسر القاف يعني: أن النخلة تساقط عليك، وقرأ الباقون بالنصب وتشديد السين ونصب القاف، لأن التشديد أقيم مقام التاء التي حذفت.
وروي عن البراء بن عازب أنه كان يقرأ {يُسَاقِط} بالياء يعني: أن الجذع يساقط عليك، وقرأ بعضهم: {نُسَاقِطُ} بالنون ومعناه ونحن نساقط عليك، وروي أنها كانت نخلة بلا رأس وكان ذلك في الشتاء، فجعل الله تعالى لها رأسًا وأنبت فيها رطبًا، فذلك قوله: {النخلة تساقط عَلَيْكِ رُطَبًا} أي غضًا طريًا.
قيل لها: {فَكُلِى} من الرطب، {واشربى} من النهر، {وَقَرّى عَيْنًا}؛ أي طيبي نفسًا بولادة عيسى.
وقال الربيع بن خيثم ما للنفساء عندي دواء إلا الرطب ولا للمريض إلا العسل.
ثم قال تعالى: {فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ البشر أَحَدًا}، يعني: إن رأيت أحدًا من الناس، {فَقُولِى} إن سألك أحد شيئًا فقولي: {إِنّى نَذَرْتُ للرحمن صَوْمًا}، يعني: صمتًا.
وروي عن ابن عباس في بعض الروايات أنه كان يقرأ {إِنّى نَذَرْتُ للرحمن}.
{صَوْمًا فَلَنْ أُكَلّمَ اليوم إِنسِيًّا}؛ يعني: قولي ذلك بالإشارة لا بالقول، وكان المتقدمون يصومون من الكلام كما يصومون من الطعام.
{فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا}؛ وذلك أن مريم حملت عيسى عليه السلام ودخلت على أهلها، وكان أهلها أهل بيت صالحين.
{قَالُواْ} لها أي قومها: {قَالُواْ يامريم لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا}، يعني: أتيت وفعلت أمرًا عظيمًا منكرًا، لا يعرف منك ولا من أهل بيتك {فَأَرْسِلْ إلى هارون}، يعني: هارون بن ماثان، وكان من أمثل بني إسرائيل {فَأَرْسِلْ إلى هارون}، يعني: يا شبه هارون في الصلاة والصلاح، ويقال: كان رجل سوء يسمى هارون فعيّروها به وشبهوها بهارون، ويقال: كان لها أخ يقال له هارون من أبيها ولم يكن من أمها، وذكر أن أهل الكتاب قالوا: كيف تقولون إن مريم أخت هارون وكان بينهما ستمائة سنة؟ فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «إنَّهُمْ كَانُوا يُسَمُّونَ بِأَسْمَاءِ الأنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ عَلَيْهِمْ السَّلاَمُ» يعني: أن أخا مريم سُمِّي باسم هارون النبي عليه السلام.
ثم قال: {مَا كَانَ أَبُوكِ امرأ سَوْء}، يعني: زانيًا {وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا}، يعني: فاجرة.
{فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ}، يعني: أشارت إلى عيسى عليه السلام أن كلموه، يعني: كلموا عيسى.
{قَالُواْ كَيْفَ نُكَلّمُ مَن كَانَ في المهد صَبِيًّا}؟ يعني: من هو في الحجر وهو رضيع.
ويقال: معناه كيف نكلم من هو يكون في المهد؟ ويقال: معناه كيف نكلم من يكون في المهد صبيًا؟ فأنطق الله تعالى عيسى، فتكلم و{قَالَ إِنّى عَبْدُ الله}، فأول الكلام الذي تكلم به ردّ على النصارى، لأنه أقر بأنه عبد الله ورسوله.
ثم قال: {الكتاب وَجَعَلَنِى}؛ روي عن ابن عباس أنه قال: معناه علمني الكتاب في بطن أمي، ويقال: معناه يؤتيني الكتاب وهو الإنجيل، {وَجَعَلَنِى نَبِيًّا}؛ أي أكرمني الله تعالى بأن جعلني نبيًا، {وَجَعَلَنِى مُبَارَكًا}؛ يعني: جعلني معلمًا للخلق {أَيْنَمَا كُنتُ}، يعني: حيث ما كنت، {وَجَعَلَنِى مُبَارَكًا أَيْنَ}؛ يعني: أوصاني وأمرني بإتمام الصلاة وإعطاء الزكاة {مَا دُمْتُ حَيًّا وَبَرًّا بِوَالِدَتِى}، يعني: جعلني رحيمًا بوالدتي، {وَلَمْ يَجْعَلْنِى جَبَّارًا شَقِيًّا}؛ يعني: لم يخذلني حتى صرت به جبارًا عصيًا.
{والسلام عَلَىَّ}؛ يعني: السلام عليَّ من الله تعالى {يَوْمَ وُلِدْتُّ} يعني: حين ولدت، {وَيَوْمَ أَمُوتُ}؛ يعني: حين أموت، {وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا}؛ يعني: أبعث يوم القيامة.
فكلمهم بهذا ثمّ سكت، فلم يتكلم حتى كان قدر ما يتكلم الغلمان. اهـ.

.قال الثعلبي:

قوله عزّ وجلّ {كهيعص}.
قرأ أبو عمرو بكسر الهاء وفتح الياء، ضدّه شامي وحمزة وخلف، بكسرهما، والكسائي، بفتحهما، ابن كثير وعاصم ويعقوب، واختلفوا في معناها.
فقال ابن عباس: هو اسم من أسماء الله عزّ وجلّ، وقيل: إنّه اسم الله الأعظم، وقال قتادة: هو اسم من اسماء القرآن، وقيل: هو اسم السورة، وقال عليّ بن أبي طالب وابن عباس: هو قَسم أقسم الله تعالى به، وقال الكلبي: هو ثناء أثنى الله عزّ وجلّ به على نفسه.
أخبرنا عبد الله بن حامد عن حامدُ بن محمد، قال أبو عبد الله محمد بن زياد القوقسي، قال أبو عمّار عن جرير، عن عطاء عن سعيد بن جبير عن ابن عباس في قوله عزّ وجلّ {كهيعص} قال: الكاف من كريم، والهاء من هاد، والياء من رحيم والعين من عليم وعظيم، والصاد من صادق، وقال الكلبي أيضًا: معناه: كاف لخلقه، هاد لعباده، يده فوق أيديهم، عالم ببريته، صادق في وعده {ذِكْرُ} رُفِع بكهيعص وإن شئت قلت: هذا ذكر {رَحمة رَبّكَ عَبْدَهُ زَكريا}، وفيه تقديم وتأخير، معناه ذكر ربك عبده زكريا برحمته وزكريا في موضع نصب.
وقرأ بعضهم عبده زكريّا بالرفع على أنّ الفعل له {إِذْ نادى} دعا {رَبّهُ} في محرابه حيث يقرب القربان {نداءً خفيًّا} دعاء سرًّا من قومه في جوف الليل، مخلصًا فيه لم يطلع عليه أحد إّلا الله عزّ وجلّ قال: {رَبِّ إِنَّي وَهَنَ} ضعف {العظم مِنِّي واشتعل الرأس شَيْبًا} شمطًا، يقول: شخت وضعفت، ومن الموت قربت {ولم أكن بدعائك ربِّ شقيًا} يقول: يا رب عوّدتني الإجابة فيما كنت تجيبني إذا دعوتك ولا تخيّبني.
قوله: {وَإِنِّي خِفْتُ الموالي مِن وَرَآئِي} قرأ عثمان ويحيى بن يعمر، (خفت) بفتح الخاء والفاء وكسر التاء مشدّدا الموالي بسكون الياء بمعنى ذهب الموالي وقلّت، الباقون: (خفت) بكسر الخاء وضم التاء من الخوف، الموالي نصبًا، خاف أن يرثه غير الولد، وقيل: خاف عليهم تبديل دين الله عزّ وجلّ وتغيير أحكامه وأن لا يحسنوا الخلافة له على أُمّته، فسأل ربّه ولدًا صالحًا يأمنه على أُمّته، والموالي بنو العمّ وقيل: الاولي والولي والمولى في كلام العرب واحد، وقال مجاهد: العصبة، وقال أبو صالح: الكلالة، وقال الكلبي: الورثة من ورائي من بعد موتي {وَكَانَتِ امرأتي عَاقِرًا} لا تلد {فَهَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ} أعطني من عندك {وَلِيًّا} ابنًا {يَرِثُنِي وَيَرِثُ} وقرأ يحيى بن يعمر ويحيى بن وثاب والأعمش وأبو عمرو والكسائي بالجزم فيهما على جواب الدّعاء، وقرأ الباقون بالرفع على الحال والصفة، أي وليًّا وارثًا، وقرأ ابن عبّاس ويحيى بن يعمر: يرثني، وأرث {مِنْ آلِ يَعْقُوَب} النبّوة، يعني يرث النبوّة والعلم، وقال الحسن: معناه يرثني مالي ويرث من آل يعقوب النبوّة والحبورة، وقال الكلبي: هو يعقوب بن ماثان اخو زكريا وليس يعقوب أب يوسف {واجعله رَبِّ رَضِيًّا} أي صالحًا برًا تقيًا مرضيًّا، وقال أبو صالح: معناه: اجعله نبيًا كما جعلت أباه نبيًّا.
أخبرنا عبد الله بن حامد الأصفهاني وشعيب بن محمد البيهقي قالا: أخبرنا: مكّي بن عبدان عن أحمد بن الأزهر عن روح بن عبادة عن سعيد عن قتادة عن بشر بن نهيك: أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا قرأ هذه الآية {يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ} يقول عند ذلك: «رحم الله زكريا، ما كان عليه من ورثة».
قوله: {يازكريآ إِنَّا نُبَشِّرُكَ} فيه إضمار وإختصار، يعني فاستجاب دعاءه فقال: {يازكريآ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلاَمٍ} ولد ذكر {اسمه يحيى لَمْ نَجْعَل لَّهُ مِن قَبْلُ سَمِيًّا} قال قتادة والكلبي: لم يُسمَّ أحدٌ قبله يحيى، وهي رواية عكرمة عن ابن عباس، وقال سعيد بن جبير وعطاء: لم نجعل له شبيهًا، ومثله دليله قوله تعالى: {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} [مريم: 65] أي مِثلًا وعدلًا، وهي رواية مجاهد عن ابن عباس، وتأويل هذا القول أنّه لم يكن له مثل لأنّه لم يهمّ بمعصيته قط وقيل: لم يكن له مثل في أمر النساء لأنه كان سيّدًا وحصورا وقال علي بن أبي طالب عن ابن عباس: لم تلد العواقر مثله ولدًا، وقيل: إن الله تعالى اشترط القبل لأنه جل ذكره أراد أن يخلق بعده من هو أفضل منه وهو محمّد عليه السلام، وقيل: إنّ الله تعالى لم يرد بهذا القول جميع الفضائل كلّها ليحيى، وقيل: إنما أراد في بعضها لأن الخليل والكم عليهما السلام كانا قبله وكانا أفضل منه.
{قَالَ رَبِّ أنى يَكُونُ لِي غُلاَمٌ وَكَانَتِ امرأتي عَاقِرًا} أي وامرأتي عاقر كقوله: {كَيْفَ نُكَلِّمُ مَن كَانَ فِي المهد صَبِيًّا} [مريم: 29] أي من هو في المهد صبيّ {وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الكبر عِتِيًّا} أي يبسًا، قال قتادة: نحول العظمْ يقال: ملك عات إذا كان قاسي القلب غير ليّن، وقال أبو عبيد: هو كل مبالغ في شر أو كفر فقد عتا وعسا، وقرأ أُبيّ وابن عباس عسيًّا، وقرأ يحيى بن وثاب وحمزة والكسائي عتيًا بكسر العين ومثله جثيًّا وصليًّا وبُكيًّا والباقون بالضم فيهما وهما لغتان.
{قَالَ كذلك قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِن قَبْلُ}، من قبْل يحيى، {وَلَمْ تَكُ شَيْئًا} {قَالَ رَبِّ اجعل لي آيَةً} آيةً على حمل امرأتي {قَالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ الناس ثَلاَثَ لَيَالٍ سَوِيًّا} أي صحيحًا سليمًا من غير ما بأس ولا خرس، وكان الناس من وراء المحراب ينتظرونه أن يفتح لهم الباب فيدخلون ويصلّون إذ خرج عليهم زكريّا متغيرًا لونه فأنكروه فقالوا له: مالك يا زكريّا؟ فاوحى أي أومى إليهم، ويقال: كتب في الأرض أن سبّحوا وصلّوا لله عزّ وجلّ بُكرةً وعشيًا والسبحة الصلاة.
قوله: {يايحيى خُذِ الكتاب بِقُوَّةٍ} بجدّ {وَآتَيْنَاهُ الحكم} يعني الفهم {صَبِيًّا} يعني في حال صباه، وقال معمّر: جاء صِبيان إلى يحيى بن زكريّا فقالوا: اخرج بنا نلعب، فقال: ما للّعب خلقت، فأنزل الله عزّ وجلّ {وآتيناه الحكم صبيّا وَحَنَانًا مِّن لَّدُنَّا} رحمة من عندنا، قال الحطيئة لعمر بن الخطّاب:
تحنّنْ علىَّ هداك المليك ** فإن لكلّ مقام مقالًا

أي ترحم، ومنه قوله: حنانيك مثل سعديك، قال طرفة:
أبا منذر أفنيت فاستبق بعضنا ** حنانيك بعض الشر أهون من بعض

وأصله من حنين الناقة.
أخبرنا عبد الله بن حامد عن أحمد بن عبد الله عن محمد بن عبد الله بن سليمان عن عثمان عن حريز بن عبد الحميد عن أبي خالد عن عكرمة عن ابن عبّاس قال: ما أدري ما حنانًا إلا أن يكون بعطف رحمة الله عز وجلّ على عباده.
وأخبرنا عبد الله بن حامد عن حامد بن محمد عن بشر بن موسى عن هوذة عن عوف بلغني في قوله الله عزّ وجلّ {وَحَنَانًا مِّن لَّدُنَّا} قال: الحنان: المحبّة {وَزَكَاةً} قال ابن عباس يعني بالزكاة طاعة الله عزّ وجلّ والإخلاص.
وقال الضحاك: هي الفعل الزاكي الصالح، وقال الكلبي: يعني صدقة تصدق والده بها على أبويه، وقيل: بركة ونماء وزيادة. وقيل: جعلناه طاهرًا من الذنوب.
{وَكَانَ تَقِيًّا} مسلمًا مخلصًا مطيعًا.
أخبرنا سعيد بن محمد وعبد الله بن حامد قالا: أخبرنا علي بن عبدان، حدَّثنا أبو الأزهر، حدَّثنا ابن القطيعي قال: سمعت الحسن قال: إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «والذي نفسي بيده ما من الناس عبد إلاّ قد همّ بخطيئة أو عملها غير يحيى بن زكريا». {وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ} بارًا بهما لا يعصيهما {وَلَمْ يَكُن جَبَّارًا} قالا: متكبرًا. قال الحلبي: الجبّار الذي يضرب ويقتل على الغضب. {عَصِيًّا} شديد العصيان لربّه. {وَسَلاَمٌ عَلَيْهِ} قال الحلبي: سلام له منّا حين ولد وحين يموت وحين يبعث حيًّا.
أخبرنا أبو محمد الأصفهاني وأبو صالح النيسابوري قالا: أنبأنا أبو حاتم التميمي، حدثنا أبو الازهر السّليطيّ، حدثنا رؤبة، حدثنا سعيد عن قتادة عن الحسن أن يحيى وعيسى عليهما السلام التقيا فقال له عيسى: استغفر لي فأنت خير مني، وقال يحيى: استغفر لي، أنت خير منّي، فقال له عيسى: أنت خير مني، سلّمتُ على نفسي وسلَّم الله عليك.
{واذكر فِي الكتاب} القرآن {مَرْيَمَ} وهي ابنة عمران بن ماثان {إِذِ انتبذت}.
قال قتادة: انفردت. الكلبي: تنحّت وأصله من النبذة بفتح النون وضمّها وهي الناحبة، يعني إنها اعتزلت وجلست ناحية {مَكَانًا شَرْقِيًا} يعني مشرقة، وهي مكان في الدار مما يلي المشرق، جلست فيها لأنها كانت في الشتاء.