فصل: (سورة مريم: آية 4).

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



. [سورة مريم: آية 4].

{قالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُنْ بِدُعائِكَ رَبِّ شَقِيًّا (4)}.
قرئ {وَهَنَ} بالحركات الثلاث، وإنما ذكر العظم لأنه عمود البدن وبه قوامه وهو أصل بنائه، فإذا وهن تداعى وتساقطت قوته، ولأنه أشد ما فيه وأصلبه، فإذا وهن كان ما وراءه أوهن. ووحده لأن الواحد هو الدال على معنى الجنسية، وقصده إلى أن هذا الجنس الذي هو العمود والقوام وأشد ما تركب منه الجسد قد أصابه الوهن، ولو جمع لكان قصدا إلى معنى آخر، وهو أنه لم يهن منه بعض عظامه ولكن كلها. إدغام السين في الشين عن أبى عمرو. شبه الشيب بشواظ النار في بياضه وإنارته وانتشاره في الشعر وفشوّه فيه وأخذه منه كل مأخذ، باشتعال النار، ثم أخرجه مخرج الاستعارة، ثم أسند الاشتعال إلى مكان الشعر ومنبته وهو الرأس. وأخرج الشيب مميزا ولم يضف الرأس: اكتفاء بعلم المخاطب أنه رأس زكريا، فمن ثم فصحت هذه الجملة وشهد لها بالبلاغة. توسل إلى اللّه بما سلف له من الاستجابة. وعن بعضهم أن محتاجا سأله وقال: أنا الذي أحسنت إلىّ وقت كذا. فقال: مرحبا بمن توسل بنا إلينا، وقضى حاجته.

. [سورة مريم: الآيات 5- 6].

{وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوالِيَ مِنْ وَرائِي وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِرًا فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا (5) يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا (6)}.
كان مواليه- وهم عصبته إخوته وبنو عمه- شرار بنى إسرائيل، فخافهم على الدين أن يغيروه ويبدّلوه، وأن لا يحسنوا الخلافة على أمته، فطلب عقبا من صلبه صالحا يقتدى به في إحياء الدين ويرتسم مراسمه فيه {مِنْ وَرائِي} بعد موتى. وقرأ ابن كثير: {من وراي}، بالقصر، وهذا الظرف لا يتعلق بخِفْتُ لفساد المعنى، ولكن بمحذوف. أو بمعنى الولاية في الموالي: أى خفت فعل الموالي وهو تبديلهم وسوء خلافتهم من ورائي. أو خفت الذين يلون الأمر من ورائي.
وقرأ عثمان ومحمد بن على وعلى بن الحسين رضى اللّه عنهم. {خفت الموالي من ورائي}، وهذا على معنيين، أحدهما: أن يكون {وَرائِي} بمعنى خلفي وبعدي، فيتعلق الظرف بالموالي: أى قلوا وعجزوا عن إقامة أمر الدين، فسأل ربه تقويتهم ومظاهرتهم بولىّ يرزقه. والثاني: أن يكون بمعنى قدامى، فيتعلق {بخِفْتُ}، ويريد أنهم خفوا قدامه ودرجوا ولم يبق منهم من به تقوّ واعتضاد مِنْ لَدُنْكَ تأكيد لكونه وليا مرضيا، بكونه مضافا إلى اللّه تعالى وصادرا من عنده، وإلا- فهب لي وليا يرثني- كاف، أو أراد اختراعا منك بلا سبب لأنى وامرأتى لا نصلح للولادة {يَرِثُنِي وَيَرِثُ} الجزم جواب الدعاء، والرفع صفة. ونحوه {رِدْءًا يُصَدِّقُنِي} وعن ابن عباس والجحدري: {يرثنى وارث آل يعقوب}، نصب على الحال. وعن الجحدري: {أو يرث}، على تصغير وارث، وقال: غليم صغير. وعن على رضى اللّه عنه وجماعة: {وارث من آل يعقوب}: أى يرثني به وارث، ويسمى التجريد في علم البيان، والمراد بالإرث إرث الشرع والعلم، لأنّ الأنبياء لا تورّث المال. وقيل يرثني الحبورة وكان حبرا، ويرث من آل يعقوب الملك. يقال: ورثته وورثت منه لغتان. وقيل من للتبعيض لا للتعدية، لأنّ آل يعقوب لم يكونوا كلهم أنبياء ولا علماء، وكان زكريا عليه السلام من نسل يعقوب بن إسحاق. وقيل: هو يعقوب بن ماتان أخو زكريا. وقيل: يعقوب هذا وعمران أبو مريم أخوان من نسل سليمان بن داود.

. [سورة مريم: آية 7].

{يا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا (7)}.
{سَمِيًّا} لم يسمّ أحد بيحيى قبله، وهذا شاهد على أنّ الأسامى السنع جديرة بالأثرة، وإياها كانت العرب تنتحى في التسمية لكونها أنبه وأنوه وأنزه عن النبز، حتى قال القائل في مدح قوم:
سنع الأسامى مسبلى أزر ** حمر تمس الأرض بالهدب

وقال رؤبة للنسابة البكري- وقد سأله عن نسبه-: أنا ابن العجاج، فقال: قصرت وعرفت.
وقيل: مثلا وشبيها عن مجاهد، كقوله: {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} وإنما قيل للمثل (سمىّ) لأنّ كل متشاكلين يسمى كل واحد منهما باسم المثل والشبيه والشكل والنظير، فكل واحد منهما سمىّ لصاحبه، ونحو (يحيى) في أسمائهم (يعمر، ويعيش) إن كانت التسمية عربية، وقد سموا بيموت أيضا، وهو يموت ابن المزرع، قالوا: لم يكن له مثل في أنه لم يعص ولم يهم بمعصية قط، وأنه ولد بين شيخ فان وعجوز عاقر، وأنه كان حصورا.

. [سورة مريم: آية 8].

{قالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِرًا وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا (8)}.
أى كانت على صفة العقر حين أنا شاب وكهل، فما رزقت الولد لاختلال أحد السببين، أفحين اختل السبيان جميعا أرزقه؟ فإن قلت: لم طلب أو لا وهو وامرأته على صفة العتىّ والعقر، فلما أسعف بطلبته استبعدوا واستعجب؟ قلت: ليجاب بما أجيب به، فيزداد المؤمنون إيقانا ويرتدع المبطلون، وإلا فمعتقد زكريا أولا وآخرا كان على منهاج واحد: في أنّ اللّه غنى عن الأسباب، أى بلغت عتيا: وهو اليبس والجساوة في المفاصل والعظام كالعود القاحل.
يقال: عتا العود وعسا من أجل الكبر والطعن في السن العالية. أو بلغت من مدارج الكبر ومراتبه ما يسمى {عتيا}. وقرأ ابن وثاب وحمزة والكسائي بكسر العين، وكذلك {صليا}، وابن مسعود بفتحهما فيهما. وقرأ أبىّ ومجاهد: {عسيا}.

. [سورة مريم: آية 9].

{قالَ كَذلِكَ قالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا (9)}.
كَذلِكَ الكاف رفع، أى الأمر كذلك تصديق له، ثم ابتدأ قال: {رَبُّكَ} أو نصب بقال، وذلك إشارة إلى مبهم يفسره {هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ} ونحوه {وَقَضَيْنا إِلَيْهِ ذلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دابِرَ هؤُلاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ} وقرأ الحسن: {وهو على هين}، ولا يخرج هذا إلا على الوجه الأول: أى الأمر كما قلت، وهو على ذلك يهون على. ووجه آخر: وهو أن يشار بذلك إلى ما تقدم من وعد اللّه، لا إلى قول زكريا. و(قال) محذوف في كلتا القراءتين: أى قال هو علىّ هين قال وهو علىّ هين، وإن شئت لم تنوه، لأن اللّه هو المخاطب، والمعنى أنه قال ذلك ووعده وقوله الحق {شَيْئًا} لأن المعدوم ليس بشيء. أو شيئا يعتدّ به، كقولهم: عجبت من لا شيء، وقوله:
إذا رأى غير شيء ظنّه رجلا

وقرأ الأعمش والكسائي وابن وثاب: {خلقناك}.

. [سورة مريم: آية 10].

{قالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَ لَيالٍ سَوِيًّا (10)}.
أى اجعل لي علامة أعلم بها وقوع ما بشرت به. قال: علامتك أن تمنع الكلام فلا تطيقه، وأنت سليم الجوارح سوىّ الخلق، ما بك خرس ولا بكم. دل ذكر الليالي هنا، والأيام في آل عمران، على أن المنع من الكلام استمر به ثلاثة أيام ولياليهن.

. [سورة مريم: آية 11].

{فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرابِ فَأَوْحى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا (11)}.
أوحى: أشار عن مجاهد، ويشهد له {إِلَّا رَمْزًا}. وعن ابن عباس: كتب لهم على الأرض {سَبِّحُوا} صلوا، أو على الظاهر، وأن: هي المفسرة.

. [سورة مريم: آية 12].

{يا يَحْيى خُذِ الْكِتابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا (12)}.
أى خذ التوراة بحد واستظهار بالتوفيق والتأييد {الْحُكْمَ} الحكمة. ومنه:
واحكم كحكم فتاة الحي

يقال حكم حكما كحلم، وهو الفهم للتوراة والفقه في الدين عن ابن عباس. وقيل: دعاه الصبيان إلى اللعب وهو صبى فقال: ما للعب خلقنا، عن الضحاك. وعن معمر: العقل، وقيل النبوّة، لأنّ اللّه أحكم عقله في صباه وأوحى إليه.

. [سورة مريم: الآيات 13- 14].

{وَحَنانًا مِنْ لَدُنَّا وَزَكاةً وَكانَ تَقِيًّا (13) وَبَرًّا بِوالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّارًا عَصِيًّا (14)}.
{حَنانًا} رحمة لأبويه وغيرهما، وتعطفا وشفقة. أنشد سيبويه:
وقالت حنان ما أتى بك هاهنا ** أذو نسب أم أنت بالحي عارف

وقيل: حنانا من اللّه عليه. وحنّ: في معنى ارتاح واشتاق، ثم استعمل في العطف والرأفة، وقيل للّه (حنان) كما قيل (رحيم) على سبيل الاستعارة. والزكاة: الطهارة، وقيل الصدقة، أي: يتعطف على الناس ويتصدّق عليهم.

. [سورة مريم: الآيات 15- 17].

{وَسَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا (15) وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِها مَكانًا شَرْقِيًّا (16) فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجابًا فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا فَتَمَثَّلَ لَها بَشَرًا سَوِيًّا (17)}.
{إِذِ} بدل من {مَرْيَمَ} بدل الاشتمال، لأنّ الأحيان مشتملة على ما فيها. وفيه أنّ المقصود بذكر مريم ذكر وقتها هذا، لوقوع هذه القصة العجيبة فيه. والانتباذ: الاعتزال والانفراد، تخلت للعبادة في مكان مما يلي شرقى بيت المقدس، أو من دارها معتزلة عن الناس. وقيل: قعدت في مشرفة للاغتسال من الحيض محتجبة بحائط أو بشيء يسترها، وكان موضعها المسجد، فإذا حاضت تحوّلت إلى بيت خالتها، فإذا طهرت عادت إلى المسجد، فبينما هي في مغتسلها أتاها الملك في صورة آدمى شاب أمرد وضيء الوجه جعد الشعر سوىّ الخلق، لم ينتقص من الصورة الآدمية شيئا. أو حسن الصورة مستوى الخلق، وإنما مثل لها في صورة الإنسان لتستأنس بكلامه ولا تنفر عنه، ولو بدا لها في الصورة الملكية لنفرت ولم تقدر على استماع كلامه. ودلّ على عفافها وورعها أنها تعوّذت باللّه من تلك الصورة الجميلة الفائقة الحسن، وكان تمثيله على تلك الصفة ابتلاء لها وسبرا لعفتها. وقيل: كانت في منزل زوج أختها زكريا ولها محراب على حدة تسكنه، وكان زكريا إذا خرج أغلق عليها الباب، فتمنت أن تجد خلوة في الجبل لتفلى رأسها، فانفجر السقف لها فخرجت فجلست في المشرفة وراء الجبل فأتاها الملك.
وقيل: قام بين يديها في صورة ترب لها اسمه يوسف من خدم بيت المقدس. وقيل: إنّ النصارى اتخذت المشرق قبلة لانتباذ مريم مكانا شرقيا. الروح: جبريل، لأنّ الدين يحيا به وبوحيه. أو سماه اللّه روحه على المجاز محبة له وتقريبا، كما تقول لحبيبك: أنت روحي. وقرأ أبو حيوة: {روحنا}، بالفتح، لأنه سبب لما فيه روح العباد، وإصابة الرّوح عند اللّه الذي هو عدّة المقرّبين في قوله: {فَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ فَرَوْحٌ وَرَيْحانٌ} أو لأنه من المقرّبين وهم الموعودون بالروح، أي: مقرّبنا وذا روحنا.

. [سورة مريم: آية 18].

{قالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا (18)}.
أرادت إن كان يرجى منك أن تتقى اللّه وتخشاه وتحفل بالاستعاذة به، فإنى عائدة به منك كقوله تعالى: {بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}.

. [سورة مريم: الآيات 19- 20].

{قالَ إِنَّما أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلامًا زَكِيًّا (19) قالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا (20)}.
أى إنما أنا رسول من استعذت به لِأَهَبَ لَكِ لأكون سببا في هبة الغلام بالنفخ في الدرع. وفي بعض المصاحف: {إنما أنا رسول ربك أمرنى أن أهب لك} أو هي حكاية لقول اللّه تعالى.

. [سورة مريم: آية 21].

{قالَ كَذلِكِ قالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا (21)}.
جعل المسّ عبارة عن النكاح الحلال، لأنه كناية عنه، كقوله تعالى: {مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ} {أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ} والزنا ليس كذلك، إنما يقال فيه: فجر بها وخبث بها وما أشبه ذلك، وليس بقمن أن تراعى فيه الكنايات والآداب. والبغىّ: الفاجرة التي تبغى الرجال، وهي فعول عند المبرد (بغوى) فأدغمت الواو في الياء. وقال ابن جنى في كتاب التمام: هي فعيل، ولو كانت فعولا لقيل (بغوّ) كما قيل: فلان نهوّ عن المنكر {وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً} تعليل معلله محذوف أي: ولنجعله آية للناس فعلنا ذلك. أو هو معطوف على تعليل مضمر، أى لنبين به قدرتنا ولنجعله آية. ونحوه: {وَخَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ} {وَلِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ} وقوله: {وَكَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَه}. مَقْضِيًّا مقدّرا مسطورا في اللوح لابد لك من جريه عليك. أو كان أمرا حقيقا بأن يكون ويقضى لكونه آية ورحمة. والمراد بالآية: العبرة والبرهان على قدرة اللّه، وبالرحمة: الشرائع والألطاف، وما كان سببا في قوّة الاعتقاد والتوصل إلى الطاعة والعمل الصالح. فهو جدير بالتكوين.

. [سورة مريم: آية 22].

{فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكانًا قَصِيًّا (22)}.
عن ابن عباس: فاطمأنت إلى قوله فدنا منها فنفخ في جيب درعها، فوصلت النفخة إلى بطنها فحملت. وقيل: كانت مدّة الحمل ستة أشهر. وعن عطاء وأبى العالية والضحاك: سبعة أشهر. وقيل: ثمانية، ولم يعش مولود وضع لثمانية إلا عيسى. وقيل: ثلاث ساعات. وقيل: حملته في ساعة، وصوّر في ساعة، ووضعته في ساعة، حين زالت الشمس من يومها. وعن ابن عباس: كانت مدة الحمل ساعة واحدة، كما حملته نبذته. وقيل: حملته وهي بنت ثلاث عشرة سنة. وقيل: بنت عشر، وقد كانت حاضت حيضتين قبل أن تحمل. وقالوا: ما من مولود إلا يستهلّ غيره فَانْتَبَذَتْ بِهِ أى اعتزلت وهو في بطنها، كقوله:
تدوس بنا الجماحم والتّريبا

أى تدوس الجماجم ونحن على ظهورها، ونحوه قوله تعالى تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ أى تنبت ودهنها فيها: الجار والمجرور في موضع الحال قَصِيًّا بعيدا من أهلها وراء الجبل. وقيل: أقصى الدار. وقيل: كانت سميت لابن عم لها اسمه يوسف، فلما قيل: حملت من الزنا، خاف عليها قتل الملك، فهرب بها فلما كان ببعض الطريق حدّثته نفسه بأن يقتلها، فأتاه جبريل فقال: إنه من روح القدس فلا تقتلها، فتركها.

. [سورة مريم: آية 23].

{فَأَجاءَهَا الْمَخاضُ إِلى جِذْعِ النَّخْلَةِ قالَتْ يا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هذا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا (23)}.
{فَأَجاءَهَا} أجاء: منقول من جاء، إلا أن استعماله قد تغير بعد النقل إلى معنى الإلجاء. ألا تراك تقول: جئت المكان وأجاءنيه زيد، كما تقول: بلغته وأبلغنيه. ونظيره (آتى) حيث لم يستعمل إلا في الإعطاء، ولم تقل: أتيت المكان وآتانيه فلان. قرأ ابن كثير في رواية {الْمَخاضُ} بالكسر. يقال: مخضت الحامل مخاضا ومخاضا، وهو تمخض الولد في بطنها.
طلبت الجذع لتستتر به وتعتمد عليه عند الولادة، وكان جذع نخلة يابسة في الصحراء ليس لها رأس ولا ثمرة ولا خضرة، وكان الوقت شتاء، والتعريف لا يخلو: إمّا أن يكون من تعريف الأسماء الغالبة كتعريف النجم والصعق، كأن تلك الصحراء كان فيها جذع نخلة متعالم عند الناس، فإذا قيل: جذع النخلة فهم منه ذلك دون غيره من جذوع النخل. وإمّا أن يكون تعريف الجنس، أي: جذع هذه الشجرة خاصة، كأن اللّه تعالى إنما أرشدها إلى النخلة ليطعمها منها الرطب الذي هو حرسة النفساء الموافقة لها، ولأن النخلة أقل شيء صبرا على البرد، وثمارها إنما هي من جمارها، فلموافقتها لها مع جمع الآيات فيها اختارها لها وألجأها إليها. قرئ {مِتُّ} بالضم والكسر. يقال: مات يموت ومات يمات. النسىّ: ما من حقه أن يطرح وينسى، كخرقة الطامث ونحوها، كالذبح: اسم ما من شأنه أن يذبح في قوله تعالى: {وَفَدَيْناهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ} وعن يونس: العرب إذا ارتحلوا عن الدار قالوا: انظروا أنساءكم، أي: الشيء اليسير نحو العصا والقدح والشظاظ. تمنت لو كانت شيئا تافها لا يؤبه له، من شأنه وحقه أن ينسى في العادة وقد نسى وطرح فوجد فيه النسيان الذي هو حقه، وذلك لما لحقها من فرط الحياء والتشوّر من الناس على حكم العادة البشرية، لا كراهة لحكم اللّه، أو لشدّة التكليف عليها إذا بهتوها وهي عارفة ببراءة الساحة وبضدّ ما قرفت به، من اختصاص اللّه إياها بغاية الإجلال والإكرام لأنه مقام دحض قلما تثبت عليه الأقدام: أن تعرف اغتباطك بأمر عظيم وفضل باهر تستحق به المدح وتستوجب التعظيم، ثم تراه عند الناس لجهلهم به عيبا يعاب به ويعنف بسببه، أو لخوفها على الناس أن يعصوا اللّه بسببها. وقرأ ابن وثاب والأعمش وحمزة وحفص {نَسْيًا} بالفتح. قال الفراء: هما لغتان كالوتر والوتر، والجسر والجسر. ويجوز أن يكون مسمى بالمصدر. كالحمل. وقرأ محمد بن كعب القرظي (نسأ) بالهمز وهو الحليب المخلوط بالماء، ينسؤه أهله لقلته ونزارته. وقرأ الأعمش {مَنْسِيًّا} بالكسر على الإتباع، كالمغيرة والمنخر.